مهما كان موقفنا من بشار الأسد ومن دوره في الأزمة التي تعصف بسورية منذ خمس سنوات، لا بد أن نشهد له بأنه قال كلاما متقدما قبل بضعة أيام في مقابلته مع وكالتي «ريانوفوستي» و»سبوتنيك» الروسيتين. فبمتابعة بسيطة لهذا اللقاء نرى تقدماً ملحوظاً يحرزه الأسد على نفسه وعلى معارضيه، وذلك لأول مرة طيلة السنوات الخمس المنصرمة. بل إن أجوبته التي ناقض فيها ما صرّح به وزير خارجيته قبل أسابيع، تسمح لنا بالتشكيك بأن المقابلة بمجملها نُظّمت ورُتّبت لتناسب الشريك الروسي الذي كان قد سحب أغلب قواته على أثر تصريحات السيد وليد المعلم التي تفيد بعدم القبول إطلاقا بحث موضوع بشار الأسد أو مقام رئاسة الجمهورية في المفاوضات.
وقد رجّحنا حينها أن تلك التصريحات سبب قرار الرئيس الروسي سحب أغلب قواته من سورية بعد مساهمتها الرئيسة في انتصارات كبيرة حققها الجيش السوري. واعتبرنا ذلك بمثابة تهديد قوي وصارم للأسد بأن عليه أن يختار بين القبول بما رسمه له بوتين وقياداته، واتفق عليه مع الأميركيين، وبين أن يواجه مصيره وحده. ضمن هذا السياق وحده، يمكننا النظر إلى مقابلة الأسد الأخيرة، حيث يبدو قبوله بانتخابات رئاسية مبكرة وبمشاركة المعارضة في مرحلة انتقالية كأنه الجواب الصريح الذي طالبه به بوتين، والذي يتمثل بقبول دور روسي وصائي على نظامه في هذه المرحلة. فكلامه هذا عن الانتخابات الرئاسية المبكرة يناقض بشدة ما حرص على التمسك والاعتداد به لأيام قليلة سابقة من أنه رئيس بشرعية انتخابية اكتسبها بفوزه المسرحي في الانتخابات الرئاسية الزائفة، التي أجراها قبل أكثر من سنة ونصف السنة، واعتبر بعدها أن مقامه لا يجوز المساس به قبل انقضاء مدته الدستورية بتمام سنواتها السبع.
في هذه المقابلة، يخوض الأسد في النقاط الرئيسة وذات الحساسية الواردة في بياني فيينا وميونخ وقراري مجلس الأمن ٢٢٥٤ و٢٢٦٨، أي النقاط التي اتفقت عليها موسكو وواشنطن: مرحلة انتقالية، دستور في الصيف المقبل، سلطة انتقالية تشارك فيها السلطة والمعارضة، انتخابات رئاسية مبكرة، وقف إطلاق النار. ونلحظ، إضافة إلى أنه يقدم أجوبة متقدمة عمّا عهدناه به من تعنت خلال سنوات الصراع والأزمة، أنه يقدم أجوبة مرنة غير متصلبة، فأغلب الأجوبة يقدمها على أنها وجهة نظر، بمعنى لا يستبعد أو يستنكر وجهات النظر الأخرى، وأهمها الطرح الروسي الذي نراه حريصاً كل الحرص على أن يكون ما يقوله شبه متطابق معه.
في المقابل، مما يطرحه الأسد في مقابلته، والذي سيكون أساس اشتغال وفده التفاوضي في جنيف، نجد أن المعارضة مكتفية بالمراوحة عند مقولة عدم القبول بمشاركة الأسد أو أيٍّ من أركان حكمه في «هيئة الحكم الانتقالية»، معتبرةً أن بيان جنيف والقرارات الدولية تدعم هذا الفهم. وذلك من دون أن تخبرنا عن أي تفصيل آخر.
المقارنة بين طرفي التفاوض المعتمدَين دولياً لإنهاء الأزمة السورية، النظام والمعارضة، ليس من باب المفاضلة بينهما وفق معيار أخلاقي أو معيار إجرامي، فمثل هذه المفاضلة ليست قائمة دولياً على الإطلاق، لا الآن ولا سابقاً. لكن مقارنتنا هذه تأتي ضمن محاولة استشراف مستقبل مفاوضات التسوية، ومحاولة تقدير ماذا ينتظرنا في جولة المفاوضات الثالثة (أو الثانية) الآن في جنيف. فهذا التغيير في مواقف الأسد والمراوحة في مواقف المعارضة متأت من فهم الدول الداعمة والراعية للطرفين لمآلات الأمور. فإذ نرى روسيا، من خلف أقوال الأسد، تعتبر أن سياقات التسوية الحالية دخلت مرحلة المنافسة متخطية بذلك مرحلة الصراع العسكري، نلاحظ أن الدول الحاضنة للمعارضة ما زالت عاجزة عن تَمثّل هذا الفهم من خلال طروحات وتصريحات الهيئة العليا للمفاوضات ووفدها المفاوض.
وإن غضضنا النظر قليلاً عما تقوله وسائل الإعلام، وما تحاول الإيحاء به، سنجد ببساطة هشاشة كبيرة في بنية وموقف الطرف المعارض. وسندرك بمرارة أنه بعد مضي خمس سنوات من الصراع المعقد والمتنوع، بآلياته ومستوياته ووسائله وأطرافه، وبعد عدد لا بأس به من جولات تصنيع معارضة مطيعة من قبل دول بارزة في مجموعة «أصدقاء الشعب السوري»، نصل إلى لحظة الاستحقاق السياسي التي نحتاج فيها بكل قوة إلى معارضة وازنة وعاقلة يمكنها أن تكون بديلاً للنظام أو لبعض أجزائه، أو حتى أن تكون شريكاً كفوءاً له، فلا نجد أن لدينا سوى قبض ريح. بل إن نظرنا إلى هذه الجولة من المفاوضات، خصوصاً إذا تمت في شكل مباشر، سنرى أنها ستتم بين رفاق السلاح الواحد. فالشخصيات الرئيسة فيها هم من موظفي النظام الحاليين أو السابقين، ضباطاً أو وزراء أو سفراء أو دبلوماسيين أو رؤساء وزراء أو نواب رؤساء وزراء.
أمام هذا المشهد الجارح للذات السورية التي كانت طامحة إلى رؤية سورية أفضل مما كانت عليه مطلع ٢٠١١، نتمنى على المثقفين السوريين والعرب، خصوصاً اللبنانيين منهم، الذين أخرجونا من جلودنا حين كنا نقول إن ثورتنا التي نريدها هي ثورة على بنية سياسية ومعرفية وقيمية وثقافية واقتصادية وليس استبدال أشخاص بأشخاص، أن يعيدوا النظر في كل ما قالوه سابقاً، آخذين بعين الاعتبار أن الموضوع أصبح الآن أدنى بكثير مما كنا نحذَره ونحذّر منه. فكل المطروح الآن مجرد تغيير في ولاءات موظفي السلطة: فبينما كان ولاء جميع الموظفين قبل «الثورة» (كما يطيب للبعض تسمية الصراعات الدائرة على الأراضي السورية) لرأس النظام أو لشريك قوي من عائلته، كرفعت الأسد سابقاً، ستتوزع الولاءات الآن بين وزراء خارجية أو موظفي خارجية الدولة الراعية لأطراف الصراع المحلية والأجنبية الموجودين على الأرض السورية.
خسرت سورية الكثير. ولكن قد يكون من أهم ما خسرته الآن هو سيادة أبنائها «بعجرهم وبجرهم»على شؤونهم المحلية وحقلهم العام.
لؤي حسين
صحيفة الحياة اللندنية