المشكلة ليست في المصطلح ولكن في المفهوم. فالعراق الذي لم يضع منذ سنوات الرجل المناسب في المكان المناسب إلا في ما ندر، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتعرّف على مواهب أبنائه، بعد أن ضيّع الكثيرون منهم نزاهتهم في خضم التناحر الطائفي على السلطة.
التكنوقراط المستقل هو عملة نادرة في العراق. لذلك فإن الدعوة إلى قيام حكومة تكنوقراط لم تؤت ثمارها إلا من خلال إعادة إنتاج نظام المحاصصة الحزبية، وهو النظام الذي قام بمباركة سلطة الاحتلال، ليكون بمثابة ترجمانا محليا للمشروع الاستعماري الذي لم يتمكن العراقيون من إحلال مشروع وطني محله.
من هذا المنطلق يمكن أن نضع مصطلح “تكنوقراط” الذي صار يستعمل من قبل السياسيين العراقيين في سياقه المفهومي الصحيح. وهو سياق لا يخرج عن دائرة ما هو متاح للعراقيين من حلول ترقيعية، يُراد من خلالها تمييع المطالب الشعبية في التغيير الشامل من خلال طبخها بناء على التعليمات الجاهزة.
فالواقع يقول إن الأزمات التي صنعها الفاسدون والتي أدى تراكمها إلى انهيار الأمل في أن يقوم العراق من كبوته ويخرج من ليله الطويل، لا توجد جهة سياسية تتصدى لها غير تلك الجهات السياسية التي تضامنت في ما بينها من أجل إقامة نظام المحاصصة وتكريسه خيارا وحيدا، لا بديل عنه سوى حروب الإبادة.
بهذا المعنى فإن ذلك التصدي لن يتحقق إلا من خلال إدارة تلك الأزمات وليس حلها.
ما يجري النقاش حوله في العراق اليوم لا يتعدى كونه محاولة لإلباس الأزمة ما يليق بتوقيتها من لباس.
وما مصطلح التكنوقراط الذي صار لازمة حديث كل السياسيين العراقيين، باستثناء نوري المالكي، إلا ذلك الثوب الذي نسجته حكاية الإصلاحات الوهمية التي تورط رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي في الدعوة إليها، من غير أن يملك فكرة واضحة عنها، وهي إصلاحات لم تكن تمس جوهر نظام المحاصصة. غير أنها سعت إلى الزج بوجوه جديدة في العملية السياسية التي صارت حكرا على وجوه بعينها.
بالنسبة إلى معظم الزعامات الحزبية، فإن اللجوء إلى التكنوقراط لا يمكن الثقة في نتائجه إلا من خلال إقراره حزبيا وتنقيته من الشوائب التي قد تجر الحكومة إلى الموقع الذي تطالب من خلاله باستقلالها.
أهذا ما سماه المالكي بالمؤامرة على المشروع الإسلامي؟
توهم حزبيو الحكم في بادئ الأمر أن المطالب الشعبية بالتغيير ستذهب إلى المطالبة بإسقاط النظام كما حدث في بلدان “الربيع العربي”. لذلك فكروا في تقديم بعض التنازلات مقابل إبقاء النظام قائما. فكانت الدعوة إلى إقامة حكومة الـ”تكنوقراط” واحدة من تلك التنازلات.
أما حين تبين لهم بأن الشعب لم يكن جادا في رغبته بالتغيير، فإنهم لم يتراجعوا عن مشروعهم الذي ينطوي على قدر هائل من الازدراء للشعب.
“سنشبعكم تكنوقراط” هذا ما صار لسان حال سياسيي العراق يقوله بسخرية مريرة. في الوقت الذي صار فيه الشعب يندب حظه الذي ساقه إلى طريق، ستكون نهايتها مرآة لبدايتها. ذلك لأن كل التظاهرات وكل الاعتصامات لم تثمر إلا عن التفكير في حكومة ستكون بمثابة واجهة، يتستر خلفها نظام المحاصصة.
لقد توصلت الأحزاب الدينية إلى أن تقيم شراكة من نوع جديد، قوامها كفاءات معممة، تلتزم بما أقره نظام المحاصصة من تقسيم للغنائم بين الأطراف المشاركة في العملية السياسية. وهو ما يعني أن تلك الأحزاب ستظل ممسكة بخيوط اللعبة كلها.
ستكون حكومة التكنوقراط في العراق بمثابة درس مرير جديد يضيفه الشعب العراقي إلى سجل الدروس التي تلقاها منذ أن وقع الاحتلال عام 2003. وهو درس مأساوي، من شأن تأمله أن يشير إلى أن كل الطرق الواقعية للتغيير باتت مسدودة.
فاروق يوسف
صحيفة العرب اللندنية