تعاني ليبيا انقساماً حاداً عقب ثورة 17 فبراير 2011، وقد تصاعد الصراع بين القوى الداخلية مع انطلاق “عملية الكرامة” في مايو 2014، حيث انقسمت البلاد إلى معسكرين كبيرين، امتلك كل منهما أدواته السياسية والعسكرية، معسكر الشرق الذي مثّله اللواء خليفة حفتر و”عملية الكرامة” التي يقودها، ومجلس النواب في طبرق. أما معسكر الغرب فمثّله قوات “فجر ليبيا”، و”حكومة الإنقاذ الوطني” في طرابلس ذات الميول الإسلامية.
وعلى مدار عامين، لم يكن في مقدور أحد الأطراف الانفراد بالنفوذ السياسي والعسكري في ليبيا، ما دفعها إلى البحث عن تسوية تضمن لها الحد الأدنى من المكاسب. وعلى ذلك، جاء اتفاق الصخيرات الثاني، الذي تم توقيعه في 17 ديسمبر 2015، وأفضى إلى تشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة فائز السراج، تقود مرحلة انتقالية لمدة عامين، تنتهي بإجراء انتخابات تشريعية. وكذلك يرأس السراج “المجلس الرئاسي” الذي يضم خمسة أعضاء يمثلون جميع الأطراف الليبية، وثلاثة وزراء كبار يقومون بتسمية الوزراء. وأقَّر الاتفاق بأن برلمان طبرق هو الهيئة التشريعية للبلاد، مع تحويل المؤتمر الوطني العام المنعقد بطرابلس إلى مجلس استشاري للحكومة تحت مسمى “المجلس الأعلى للدولة”.
تشكيل حكومة “السراج”
ثمة شخصيات عديدة سبقت فائز السراج في منصب رئيس الوزراء عقب الثورة الليبية، وهم على الترتيب كل من: محمود جبريل، وعبد الرحيم الكيب، وعلي زيدان، وفي أعقاب وقوع الخلافات السياسية وبدء المواجهات العسكرية بين الشرق والغرب، أصبح يتنازع على السلطة حكومة عبدالله الثني في الشرق، وحكومة عمر الحاسي ثم خليفة الغويل في الغرب.
وبعد رفض التشكيل الأول الذي عرضه السراج على برلمان طبرق في 25 يناير 2016، بسبب كثرة حقائبه الوزارية (32 وزيراً)، أعلن السراج عن التشكيل النهائي لحكومته في 14 فبراير 2016، والتي تتكون من 13 حقيبة وزارية، وخمسة وزراء دولة. وقد ضمت التشكيلة الجديدة كلاً من المهدي إبراهيم البرغثي وزيراً للدفاع، والعارف صالح خوجة وزيراً للداخلية، ومحمد الطاهر سيالة وزيراً للخارجية، بالإضافة إلى ثلاث سيدات، تولين حقائب وزارة الدولة لشئون هيكلة المؤسسات، ووزارة الدولة لشئون المرأة والتنمية المجتمعية، ووزارة الحكم المحلي.
وبالنظر إلى أن المعادلة الأمنية والعسكرية ما زالت هي المتحكمة في القرارات السياسية والمصيرية لأطراف الأزمة الليبية، فقد ثار الجدل حول حقيبتي الدفاع والداخلية في حكومة السراج. فبالرغم من أن المهدي البرغثي قد شارك مع حفتر في قتال تشكيلات الغرب الليبي، إلا أن القوى السياسية والعسكرية هناك اعتبرت وجوده على رأس وزارة الدفاع، أفضل من وجود حفتر، الذي ظل يقاتلهم على مدار عامين، إضافة إلى أن البرغثي – بنظرهم – لم يكن مُنخرِطاً في اللعبة الإقليمية بشكل واضح، وربما يكون أقرب إلى إمكانية التصالح معهم، خاصةً تلك الفصائل ذات الميول الإسلامية، التي لا ترى فيه عدواً وجودياً، كما ترى في حفتر.
أمّا العارف خوجة، وزير الداخلية، فهو شخصية مدنية محسوبة على التيار الإسلامي في غرب ليبيا، الأمر جعل مكونات معسكر الشرق الليبي تتيقن أن حكومة السراج جاءت لتسلبها كافة المنجزات السياسية والعسكرية التي حققتها خلال الفترة الماضية.
اتساع نطاق التأييد
حازت حكومة الوفاق، عقب الإعلان عن تشكيلها، على دعم وتأييد المجتمع الدولي، حيث دعا المبعوث الأممي إلى ليبيا “مارتن كوبلر” إلى “البدء بالتسليم السلمي والمُنظَم للسلطة لحكومة الوفاق”. وأصدر مجلس الأمن الدولي بياناً أعلن فيه تأييده لحكومة الوفاق الوطني، باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.
ولكن لم يكن الحال كذلك مع فرقاء الداخل، فبالرغم من توقيع 100 نائب من برلمان طبرق على عريضة بالموافقة على حكومة السراج في 23 فبراير 2016، بيد أن الحكومة فشلت حتى الآن في الحصول على الثقة تحت قبة البرلمان؛ بسبب العجز عن تحقيق النصاب القانوني لجلسات التصويت على مدى أسابيع. كما أعلنت حكومة الإنقاذ (التي تشكلت في الغرب) برئاسة خليفة الغويل، رفضها لتشكيل حكومة السراج، وبالتالي رفضها تسليم مهام الحكم لها في طرابلس.
ومع استمرار الضغوط الدولية والإقليمية على الأطراف الفاعلة الساحة الليبية، وتلويح الاتحاد الأوروبي بورقة العقوبات على كل من يعرقل عمل حكومة الوفاق، بدأت المواقف الداخلية الرافضة لحكومة السراج في التحلحل تدريجياً، وهو ما مكَّن أعضاء الحكومة من البدء في دخول طرابلس، لممارسة مهامهم، في 30 مارس 2016.
فبعد اجتماعات مكثفة شهدتها مدن الشرق الليبي، طُرِح خلالها أفكار مناهضة لحكومة الوفاق، مثل تأسيس مجلس عسكري، أو إعلان فيدرالية، إلا أنها عادت وأفضت إلى ما أعلن عنه رئيس برلمان طبرق “عقيلة صالح” في خطابه، في 2 أبريل 2016، بمطالبة حكومة الوفاق الحصول على الثقة من مجلس النواب ومقره طبرق، لنيل شرعيتها.
أمّا حكومة الإنقاذ، فباتت تعاني من الارتباك الشديد، وغدت غير قادرة على اتخاذ موقف مُحدد وثابت إزاء تطورات الأحداث، وهو مؤشر على ضعفها وقرب انهيارها وخروجها من المشهد السياسي. فعلى الرغم من معارضتها الشديدة لحكومة السراج، وعدم اعترافها بشرعيتها، جاء خطابها – عقب دخول حكومة السراج إلى طرابلس – مُهادناً، حيث أكدت أنها لن تتشبث بالسلطة، لكنها ستعارض حكومة السراج بشكل سلمي. ثم عادت لتُعلن، في 5 أبريل 2016، عن مغادرتها للسلطة، وفسح المجال لحكومة الوفاق لتسلم الحكم. ولكن سرعان ما تراجعت حكومة الإنقاذ عن موقفها في 6 أبريل 2016، حيث خرج الغويل في بيان رسمي ليُحذّر رؤساء الهيئات والمؤسسات التابعة لحكومته من التعامل مع القرارات الصادرة عن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، مشدداً على أن من يخالف ذلك يعرض نفسه للمساءلة القانونية.
وعلى جانب أخر، أعلنت بلديات عشر مدن في غرب ليبيا تأييدها لحكومة الوفاق الوطني، وكذلك أعلن جهاز حرس المنشآت النفطية، وهو فصيل مسلح غير رسمي يسيطر على المنشآت النفطية في شرق البلاد، استعداده للعمل تحت شرعية حكومة الوفاق الوطني عقب دخولها العاصمة طرابلس. وخرج متظاهرون من سكان طرابلس للتعبير عن دعمهم لحكومة الوفاق الوطني، مُرددين شعارات مؤيدة لها.
وعسكرياً، أعلنت الكتائب المسلحة المتمركز في طوق العاصمة طرابلس عن تأييدها لحكومة الوفاق الوطني، مثل المجلس العسكري “جنزور”، والعجيلات وصبراتة وصرمان وراقدلين والجميل، وكلها تقع غرب العاصمة طرابلس. وانخرطت كبرى كتائب مصراتة “لواء شهداء زاوية المحجوب” و”حطين” في ترتيبات دخول الحكومة إلى العاصمة طرابلس. في الوقت الذي يكاد يُجمِع فيه الجنوب الليبي بكافة مكوناته المدنية والمسلحة على دعم حكومة السراج.
أبرز التحديات
رغم اتساع نطاق التأييد الذي حظيت به حكومة السراج، خاصةً بعد دخولها إلى طرابلس، بيد أن ثمة العديد من التحديات التي ما زالت تلوح في الأفق، لتضع مستقبلها على حافة الهاوية، ومنها ما يلي:
1- برلمان طبرق ومنح الشرعية:
يعتبر برلمان طبرق هو أحد العقبات الأساسية التي تواجه حكومة الوفاق حالياً، إذ يعد سبباً رئيسياً في عدم منحها الشرعية الدستورية إلى الآن، وبالتالي الشروع في ممارسة مهامها المنوطة بها. حتى وإن تمكنت الحكومة من نيل ثقة برلمان طبرق، فمن المتوقع أن يعمل البرلمان خلال الفترات القادمة على عرقلة عملها، ومحاولة فرض نفوذه ومصالحه على سياساتها.
نظرياً، يعتبر برلمان طبرق هو البرلمان الليبي الشرعي المُعترف به دولياً. ولكن فعلياً، يخضع البرلمان لنفوذ قوات “الكرامة” تحت رئاسة اللواء حفتر، وبالتالي من الصعب أن يتخذ موقفاً يهدّد مكانة حفتر، ما يمنح الأخير نفوذاً كبيراً على العملية برمتها.
ولكن يبدو أن رئيس البرلمان عقيلة صالح كان لديه قدرة على المناورة السياسية، فهو بالرغم من دعمه المُبطّن لحفتر، وافق على اتفاق الصخيرات، في 28 يناير 2016، وذلك تجنباً لانتقاد الأطراف الداخلية والإقليمية، وكذلك للعقوبات الدولية. ولكن بعد ذلك، قرر البرلمان تجميد العمل بالمادة الثامنة من الاتفاق، وتنص على نقل كل الصلاحيات العسكرية إلى المجلس الرئاسي الذي يقرّر لاحقاً بشأن التعيينات العسكرية الجديدة ضمن مهلة خمسين يوماً. ما يعني إجراء تعديل في القيادة العسكرية، بما فيها اللواء حفتر الذي يشغل منصب قائد القوات المسلحة. وبذلك، وضع برلمان طبرق اتفاق الصخيرات في مأزق جزئي، من أجل الحفاظ على مصالح ونفوذ حفتر.
2- موقف اللواء حفتر:
تبلور الموقف النهائي للواء حفتر، في 5 أبريل 2016، حيث أقرّ أنه لن يُشكّل مجلساً عسكرياً، وأنه سيدعم أي حكومة وفاق يمنحها البرلمان الثقة، وأشار إلى أن الجيش يقف بمنأى عن الشأن السياسي، ولن يقبل بتقسيم ليبيا.
ويبدو أن هذا الموقف يتناقض مع مصالح وطموحات حفتر السياسية والعسكرية التي ظهرت بعد عملية الكرامة. وبالنظر إلى أن المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات وتأسيس حكومة الوفاق الوطني قد أخرجتا حفتر من المشهدين السياسي والأمني، على الأقل من الناحية النظرية، فبالتالي سيظل حفتر هو العدو الأول لهما، حتى وإن أبدى موقفاً مغايراً علناً.
3- مكونات المجلس الرئاسي:
يتسم تشكيل المجلس الرئاسي بعدم الانسجام بين أعضاءه، وهو الأمر الذي امتد إلى موقفهم من الاتفاق السياسي المُنشِئ للمجلس. فمن بين أعضاء المجلس الرئاسي مَنْ يعتبر وجوده فيه لحفظ مكاسب طرف بعينه، حتى ولو أدّى ذلك إلى هدم الاتفاق من الأساس. وهذا هو الحال مع “علي القطراني” الذي يعتبر أن مكانة حفتر فوق أي اتفاق سياسي، وهو ما عبَّر عنه في أكثر من مناسبة، وامتنع بسببه عن التوقيع على قرار تشكيل الحكومة.
4- الميليشيات العسكرية المعارضة:
هناك عدد من الميليشيات العسكرية التي أيدت حكومة الوفاق في غرب ليبيا، بل وأمّنت دخولها إلى طرابلس، ومع ذلك ثمة عدد أخر من الميليشيات التي ما زالت تُعارض حكومة الوفاق، وعلى استعداد لقتالها، مثل: “كتيبة الحركة للدفاع عن مصراتة”، و”غرفة عمليات المنطقة الوسطى”. وقد تأسست معارضة هذه الميليشيات للحكومة على أساس رفضها لاتفاق الصخيرات، الذي لم يُحدد تعريفاً واضحاً للإرهاب المنوط بالحكومة محاربته، وإذا ما كان سينسحب هذا المفهوم على هذه الميليشيات أم لا؟
ومما لا شك فيه أن مراهنة حكومة الوفاق على الميليشيات المسلحة الموالية لها في طرابلس، والداعمة لها في مصراتة، لن يُقدّم لها الحماية الكافية في مقرها بجنزور غرب العاصمة، وربما يزيد من الانقسامات الداخلية، ويُشعل المواجهات المسلحة بالمشهد المتهاوي داخلياً من الأساس.
الخلاصة، إن حكومة الوفاق الوطني تشكلّت بعد أن أنهكّ الاقتتال الأطراف المسلحة الليبية، واُستنفذت موارد الشعب الليبي، دون أن يحقق أحد الأطراف انتصاراً حاسماً، يمنحه صدارة المشهد. ولكن ما زالت حكومة الوفاق مُكبّلة بتحديات عدة تُعيِق خطواتها الأولى في مسار إنقاذ ليبيا، وهو المسار المرتبط أساساً بعدة إجراءات تتضمن إعادة تمكين الجيش الليبي، والقضاء على هيكل التفاعل غير الرسمي بين الكيانات المؤسسية والتشكيلات المسلحة، ورفع معدلات إنتاج القطاع النفطي.
محمد محمود السيد
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة