استندت جمهورية الصين الشعبية إلى نمو اقتصادي صاعد على مستوى العالم أمَّن لها مروحة بدائل زادت من قدرتها على مواجهة مختلف الضغوطات وتوسيع قاعدة مناوراتها الديبلوماسية على المستوى الدولي . تستند بكين في رسم الاستراتيجية التي تحدد توجهات سياستها الخارجية بالسعي للسيطرة على النفط الآسيوي والتوسع في النشاط الاقتصادي، والعمل على إنشاء تكتلات سياسية حول الصين -تُشكل الصين محورها-، بالإضافة إلى التحرك العسكري الصينيفي أنحاء العالم، خصوصاً في الممرات المائية الهامة، والسعي للسيطرة على بعضها، ناهيك عن تقوية الوجود الصيني في منطقة الشرق الأوسط عبر استراتيجية منظمة وطويلة الأمد.
تزامن اندلاع الثورة السورية مع تحول الاهتمام الأمريكي من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ، الأمر الذي ولّد فراغاً إقليمياً سعَت إيران إلى شغله، وشكل فرصة لروسيا لمحاولة العودة إلى مسرح الأحداث الدولية. وتلاقى ذلك مع مصلحة الصين التي تعتبر التوجهات الأمريكية الناشئة تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وهي الطامحة للعب دور دولي أكبر يكون متناسباً مع قوتها الاقتصادية والعسكرية الصاعدة؛ فشكلت سورية بهذا المعنى نقطة الارتكاز الأقوى والبوابة شبه الوحيدة لتحقيق تلك المصالح. وبناءً على تلك القاعدة تَشكل الموقف الصيني تجاه الأزمة السورية ليتصاعد ويأخذ مداه ضمن محور (روسيا، إيران) ومواجهة القطب الأمريكي. لذلك فإن دوافع الموقف الصيني تبرز بشكل أوضح عبر دراسة تعاطي الصين في المنطقة وتفكيك أدائها في إطار التوازنات الدولية والأحلاف الناشئة.
التعاطي الصيني الناشئ في المنطقة: سورية نموذجاً
تعتبر الصين الشرق الأوسط عامة وسورية خاصة منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية وأمنية لها. ويعود تاريخ العلاقات الصينية – السورية إلى مئات السنين، إذ شكلت سورية الطريق التجاري الذي ربط بلاد الصين ببلاد العرب والذي عرف بطريق الحرير قديماً. ومنذ نشأة جمهورية الصين الشعبية منتصف القرن الماضي اهتمت بكين بسورية واعتبرتها النقطة الأضعف للنفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط، وخط الدفاع الأول عن مصالح الصين في آسيا الوسطى والقوقاز، وبلد العبور لمعظم النفط العراقي ما بين عامي 1934 و1982 والكثير من النفط السعودي ما بين عامي 1973 و1982 .
وفي عام 2002 التقت أهـداف السياسة الخارجية السورية مع المساعي الصينية الهادفة إلى زيادة نشاطها الاقتصادي في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، بعد طرح بشار الأسد (في ذات العام) استراتيجيةً تسعى لتحويل سورية إلى قاعدة لنقل الغاز، ومنطقة تجارة حرة تصل بين الشرق والغرب، عبر ربط البحار الخمسة (البحر المتوسط، بحر قزوين، البحر الأحـمـر، البحر الأســود، الخليج الـعـربـي) مـن خـلال سـوريـة. وبينما لـم تتحمس الـولايـات المتحدة والدول الغربية ، رأت الصين في استراتيجية بشار الأسد مشروعاً لإحياء طريق الحرير، يمكن أن يُسهم في بناء منطقة جديدة للتنمية الاقتصادية في غرب الصين، تكون بمرتبة جسر يربط آسيا والمحيط الهادي شرقاً بالمنطقة العربية غرباً، وتشكل بذلك أطول ممر اقتصادي رئيسي في العالم، ونمطاً جديداً للانفتاح الصيني.
وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين حوالي 2.48 مليار دولار (من بين مائة مليار دولار تمثل التجارة العربية-الصينية) عام 2010، إضافة لحوالي 1.82 مليار كعقود هندسية صينية في سورية، و4.82 مليون دولار تحويلات عمال صينيين في حوالي 30 شركة صينية في سورية و16.81 مليون دولار على شكل استثمارات صينية مباشرة. واحتلت الصين المرتبة الأولى في عام 2010 في الشركاء التجاريين لسورية بنسبة تصل إلى 6.9% من إجمالي التجارة السورية مقابل 3% لروسيا الاتحادية ، كما أن الشركات الصينية تساعد سورية في مواجهة المشكلات التكنولوجية الناتجة عن العقوبات الأوروبية على سورية في القطاع النفطي الذي يمثل 20% من إجمالي الناتج المحلي السوري.
ويبدو أن الموقف الصيني تجاه منطقة الشرق الأوسط وما شهدته من موجات الربيع العربي وتحديداً الثورة السورية، أخذ يتبلور وفقاً لسياق استراتيجية جديدة متسقة مع قدرات بكين المتنامية، حيث تجاوز الموقف الصيني من الأزمة السورية حدود عدم الرضا عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى الموقف المباشر والمعارض لتلك السياسة بشكل علني، بعدما استخدمت الصين حق الفيتو للاعتراض على مشروع القرار العربي الأوروبي، الذي يتبنى دعوة الجامعة العربية لتنحي الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة. الفيتو الصيني الذي عُدّ تطوراً نوعياً مهماً ليس فقط في أسلوب تعامل الصين مع منطقة الشرق الأوسط الغنية بموارد الطاقة الضرورية للمحافظة على نموها الاقتصادي المتسارع، وإنما أيضاً في نظرة بكين إلى دورها الدبلوماسي والسياسي علي الساحة العالمية، وهي التي تُعد من أقل الأعضاء الدائمين استخداما لحق الفيتو، (استعملته 13 مرة خلال 41 عاماً) لتستخدم هذا الحق أربع مرات لإحباط صدور قرارات عن مجلس الأمن، اثنان منها دعيا إلى تنحي الرئيس السوري (بشار الأسـد)، وثالث طالب بتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على النظام السوري، الـذي ينص على فرض عقوبات، والرابع سعى إلى إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية. فعارضت الصين أي تدخل عسكري في سورية، حتى وإن جاء لمحاربة التنظيمات الإرهابية فيها. واللافت أن الصين كانت تستطيع محاباة معظم الدول العربية والغربية عن طريق الاكتفاء بالامتناع عن التصويت-كما فعلت سابقاً حيال القرار الخاص بالأزمة الليبية-خصوصاً أنها كانت تعلم سلفاً أن روسيا سوف تستخدم حق الفيتو لإجهاض مشروع التدخل الدولي ضد نظام الرئيس الأسد، لكن بكين قررت أن تدلي بدلوها وتعترض علانية، رغم ما استتبعه ذلك من انتقادات خليجية وأمريكية شديدة.
يؤكد تغيير الموقف الصيني من أحداث وتحولات مشهد الربيع العربي على نية بكين إبراز نفسها لاعباً جديداً في منطقة الشرق الأوسط، بما يتسق مع مصالحها المتنامية فيها، خاصة فيما يتعلق بالنفط والغاز الطبيعي، ورغبتها في لعب دور دبلوماسي وسياسي عالمي يتناسب مع تنامي قدراتها الاقتصادية والعسكرية في الآونة الأخيرة، ووفقاً لما تمليه شروط علاقاتها وتحالفاتها الدولية.
دافع المنافسة مع واشنطن
تتحكم عدة هواجس في السياسة الصينية تجاه الربيع العربي عموماً، والثورة السورية بشكل خاص، وتحديداً ما يتعلق منها بمفرزات الربيع العربي. ويمكن رد جذر تلك الهواجس لأسباب تتعلق بالمنافسة مع واشنطن، إذ تزامن مع عهد الثورات العربية إعلان الولايات المتحدة عن تمركز استراتيجيتها الخارجية خلال القرن الحادي والعشرين في الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي ضمن منطقة المحيط الهادئ، الأمر الذي يعتبر تهديداً مباشراً للصين في منطقة نفوذها، حيث دعا باراك أوباما عام 2012 الولايات المتحدة الأمريكية لمراجعة منظومتها الدفاعية في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ. كما اعتبرت الصين أن المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة مع اليابان وكوريا الجنوبية تشكل تهديداً يهدف إلى تطويقها أمنياً، كما لم تخف قلقها من بيع الولايات المتحدة أسلحة لتايوان في صفقة قيمتها ستة مليارات دولار.
كما ترافق ذلك مع تزايد الضغط الأميركي على الصين لرفع قيمة عملتها والذي لم يجد صدى لدى الحكومة الصينية نظراً لاعتماد الصين على صادراتها بشكل كبير؛ ما خلق نوعًا من التوتر بين الطرفين في حدود معينة لاسيما في ظل اللوائح التي تبنّاها الكونجرس الأميركي في العام الماضي بهذا الخصوص.
وفي ذات السياق تعتقد الصين أن استقبال الولايات المتحدة الأمريكية لـ(الدلاي لاما) زعيم الأقلية البوذية عام 2011 تشجيعاً للجماعات الانفصالية، كما تعتبر انتقاد الولايات المتحدة لها لزيادة إنفاقها العسكري، واتهامها بانتهاك حقوق الاقليات وحقوق الإنسان والحريات العامة، هو تدخل في شؤونها الداخلية . وهو ما شكل عوامل محركة لإتخاذ سياسات أكثر حزماً في المنطقة.
ويتعلق الجزء الآخر من هذه الهواجس؛ بتنامي الدور التركي، فلقد ساهم وضع الدرع الصاروخية للناتو في تركيا بتزايد ضرورة تدخل الصين ضمن معادلة الشرق الأوسط، في ظل الدور التركي الصاعد فيها، وحساسية العلاقات التركية – الصينية، بسبب الامتداد التركي داخل الصين في إقليم سانكيانج المسلم، حيث يوجد في الصين نحو 25 مليون مسلم، وتخشى من وصول صدى الثورات العربية إلى الحركات الانفصالية في أراضيها.
وبناء على ذلك؛ يتضح أن الموقف الصيني من الأزمة السورية ليس منفصلاً عن سعي صيني “لرد فعل” محسوب على السياسات الأميركية في الميادين المشار إليها أعلاه، وتحسباً لامتداد الاحتجاجات إلى أراضيها، واستغلال ملف حقوق الإنسان الصيني الحافل بالانتهاكات للتدخل في شؤونها والضغط عليها.
مساندة النظام دعماً لطهران: ضرورة جيبولتيكية
بالإضافة إلى أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة إلى الصين، تخشى الأخيرة أن يؤثر سقوط النظام الـسـوري الحالي على مكانة إيــران الإقليمية كحليف استراتيجي لـسـوريـة، حيث تحتل إيران موقعاً مركزياً في سلم الأولويات الصينية، بسبب تضافر الجيوبوليتيك وتأمين الواردات من الطاقة. والعامل الأخير يحتل رأس أولويات الأمن القومي الصيني منذ عام 1993 على الأقل، إذ أصبحت الصين في ذلك العام مستورداً صافياً لموارد الطاقة وبتعاظم معدلات التنمية زادت الحاجات الصينية من الطاقة بنسبة 230 في المئة خلال فترة ربع قرن فقط (1980 – 2004) كما أن إيران منتج ضخم للطاقة وسوق كبيرة لتصريف المنتجات الصينية اللازمة لإدامة معدلات التنمية المرتفعة، والتي تشكل الأساس لنموذجها الاقتصادي الحالي.
ويساهم التحالف مع إيران بتسهيل المهمة الصينية في دخول الشرق الأوسط في الاستراتيجيات العالمية، وفك عزلة الصين عنه. فنظرة متأنية إلى خريطة الشرق الأوسط وغرب آسيا تكشف بوضوح أن إيران هي الحليف شبه الوحيد للصين في هذه المنطقة، الذي يؤمن 45 في المئة من وارداتها النفطية. كما تنظر الصين إلى إيران باعتبارها المطل المائي المحتمل في الخليج العربي للأسطول الصيني الضخم، وهو المطل المفيد تجارياً وجيوبوليتيكياً. وتتعزز هذه الفرضية بملاحظة أفضلية القرب الجغرافي للصين – مقارنة مع أميركا مثلاً – من القوس الجغرافي الحاوي حوالي 71 في المئة من احتياطات النفط عالمياً، وحوالي 69 في المئة من احتياطات الغاز الطبيعي. ويشمل هذا القوس الجغرافي روسيا، وآسيا الوسطى، وإيران والعراق، والسعودية، ودول الخليج العربية. ويسمح هذا القرب الجغرافي للصين بإحراز الأفضلية في التسابق على موارد الطاقة مع واشنطن مستقبلاً، شريطة أن يكون لها موطئ قدم توفره إيران بموقعها الجغرافي في قلب القوس المذكور .
كما تقدم الجغرافيا الإيرانية للصين ميزتين معاً، الأولى: حقول الجنوب الإيراني المطلة على الخليج العربي تؤمن جزءاً معقولاً من نفط الشرق الأوسط، أما الشمال الإيراني فيمنح بكين فرصة الإطلالة الممتازة على بحر قزوين الغني بالطاقة هو الأخر.
وإذا أضفنا الأهمية الاستراتيجية لإيران كثاني أهم مورِّد للنفط للصين من ناحية، ومشاركتهما معاً في استراتيجية إحياء طريق الحرير من ناحية أخرى، فإن مكانة إيران تتعزز في استراتيجية الصين الدولية. ورغم أن السعودية تمثل المورِّد الأول للصين، لكن الحساب الاستراتيجي الصيني يقوم على أساس أن أية أزمة حادة بين الصين والولايات المتحدة قد تجعل من السعودية طرفاً لا يُؤْمن جانبه، خلافاً لما هو عليه الوضع في إيران.
هكذا أصبحت الصين الغطاء الدولي لإيران في مجلس الأمن منذ احتدام الأزمة النووية، التي ترافقت مع إبرام الصفقات الضخمة في قطاع الطاقة بين بكين وطهران، والتي بلغت حوالي مئة وعشرين مليار دولار، إذ صارت الصين الرابح الأول من الأزمة النووية الإيرانية حتى الاتفاق النووي .
ضرورات التحالف مع روسيا: “القطب الناشئ”
شهدت العلاقات الروسية الصينية تحسُّناً غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، وتدل الاتفاقيات الموقَّعة خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين (20 من مايو/أيار 2014) إلى شنغهاي، على أن البلدين يُريدان الارتقاء بحجم العلاقات بينهما على مستويات الدفاع والاقتصاد؛ وخصوصاً في مجال الطاقة الذي حقَّق فيه البلدان اختراقًا كبيرًا؛ وبالإضافة إلى حجم صفقة الغاز أثارت المناورات العسكرية البحرية التي جرت بين البلدين خلال زيارة بوتين العديد من التساؤلات؛ خصوصًا حول أسباب التوجُّه الصيني نحو روسيا، وإمكانية بروز تحالف روسي صيني موجَّه ضد الولايات المتحدة الأميركية، عبر التنسيق على عدة مستويات، لعل أهمها يتعلق بما يلي:
أولاً: أمن الطاقة: حيث وقَّع البلدان خلال الزيارة الأخيرة للرئيس بوتين إلى الصين صفقة غاز تاريخية، بلغت قيمتها حوالي 400 مليار دولار، تُزود روسيا بموجبها الصين بـ38 مليار متر مكعب من الغاز سنويّاً لمدة ثلاثين سنة؛ وذلك عبر الأنابيب من الشرق الأقصى الروسي بحلول سنة 2018، واستغرق العمل لإبرام هذه الصفقة عدة سنوات من التفاوض؛ تعثَّرت مرَّات عديدة بسبب فشل الدولتين في التوصُّل لثمن يُرضيهما معًا، قبل أن يصل البلدان إلى هذا الاتفاق التاريخي. وكانت روسيا والصين قد توصَّلتا إلى اتفاق آخر في مارس/آذار 2013، تعهَّدت بموجبه شركة روسنفت بزيادة صادراتها من النفط إلى الصين من 300 ألف برميل يوميًّا إلى حوالي 800 ألف في المستقبل القريب (لم يذكر الاتفاق تاريخًا محدّداً) . وتضمّن الاتفاق -أيضًا- مساهمة الشركة الوطنية الصينية للبترول في تطوير ثلاثة حقول بحرية في بحر بارنتس، وثمانية حقول نفطية في شرق سيبيريا.
يأتي اهتمام الصين بمصادر الطاقة الروسية في إطار استراتيجية بعيدة المدى لتنويع مصادر إمدادات الطاقة؛ فالصين تستورد حوالي النصف من حاجياتها من الطاقة، وتأتي معظم هذه الإمدادات من الشرق الأوسط، وبالنظر إلى الجو السياسي المضطرب في هذه المنطقة بفعل الربيع العربي وبعض المشاكل الإقليمية الأخرى؛ اضطرت بكين إلى البحث عن مصادر بديلة من بينها آسيا الوسطى وروسيا؛ لتتفادى الاعتماد على منطقة واحدة فقط، وتضمن بذلك تدفُّق الإمدادات بشكل مستقر.
تتوجَّه بكين إلى توفير إمدادات لا تمر عبر مضيق ملقا؛ الذي يُشَكل نقطة ضعف استراتيجية للصين؛ حيث يمرُّ عبر هذا المضيق حوالي 80% من واردات النفط الصينية، كما أن الولايات المتحدة منتشرة عبر كل مسالك الملاحة البحرية عبر العالم، وتُدرك الصين أن إغلاق المضيق أو فرض حصار بحري عليها من طرف القوى المعادية لها سيحول دون وصول حاجياتها من الإمدادات؛ لذا تُحَاول الصين توفير مصادر بديلة لا تمر عبر الخطوط البحرية ، وترى في روسيا المصدر الذي سيُوفر لها إمدادات الطاقة عبر البر، وسيتيح لها تجاوز أي حصار بحري محتمل.
ثانياً: تمتين التعاون العسكري حيث تُشكل روسيا على المستوى العسكري أهم مزود للصين بالسلاح منذ أن فرضت الدول الغربية حظراً على مبيعات الأسلحة إلى الصين سنة 1989، وتمثل مبيعات السلاح الروسي أهم مصدر في عمليات التحديث الواسعة التي عرفتها القوات البحرية والجوية الصينية في العقود الأخيرة؛ وتشمل المبيعات الطائرات المتطورة، والغواصات، والمدمرات، وصواريخ أرض-جو، والصواريخ المضادة للسفن، ونقل التكنولوجيا العسكرية والإنتاج المشترك لبعض من هذه الأسلحة؛ ومن المتوقع أن تتوصل الصين إلى اتفاق لشراء 24 طائرة من نوع سوخوي 35 إس المتطورة جداً، وأربع غواصات، ونظام الدفاع الجوي المتطور إس 400، ومن جهة أخرى تشكل المناورات العسكرية المشتركة دليلاً آخر على مدى قوة العلاقة بين البلدين؛ حيث بدأ البلدان سلسلة من المناورات العسكرية المشتركة منذ 2005، آخرها كانت المناورات البحرية المشتركة التي جرت بين 20 و26 من مايو/أيار 2014 في بحر الصين الجنوبي، وهذه المناورات جرت للعام الثالث على التوالي بعد مناورات إبريل/نيسان من 2012 في البحر الأصفر، ومناورات يونيو/حزيران 2013 التي جرت في فلاديفوستوك بروسيا.
ثالثاً: النظام الأمني القاري الجديد: من بين أهم الأهداف الاستراتيجية للصين حالياً هو إنشاء نظام اقتصادي وسياسي عالمي متعدد الأقطاب، والابتعاد تدريجياً عن النظام الحالي الذي ترى الصين أنه يخدم مصالح الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وبعد صعود روسيا كقوة عالمية بعد أكثر من عشرين سنة على انهيار الاتحاد السوفيتي، ترى الصين أن تقارباً مع روسيا سيخدم المصالح الصينية بشكل أكبر. ويظهر هذا جلياً من خلال تعاون البلدين على مستوى المؤسسات الدولية والإقليمية؛ حيث ينسق البلدان جهودهما في إطار مجموعة دول البريكس؛ التي تخطط لإنشاء بنك وصندوق مساعدات على غرار المؤسستين الماليتين الغربيتين: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي سياق آسيوي أنشأت الصين منظمة شنغهاي للتعاون لتوفير آلية للتعاون المشترك بين روسيا والصين (وباقي الدول الأعضاء في هذه المنظمة) في منطقة آسيا الوسطى. كما ترى الصين أن هذه المنظمة تُقدم نموذجاً للتعاون المتعدد الأطراف، وتُقدم رؤية تشاركية للأمن الإقليمي في آسيا الوسطى؛ وذلك على خلاف الرؤية الأحادية التي تتبناها واشنطن، والتركيز في تحالفاتها على الجانب الأمني فقط. وتنشط الصين بتعاون مع روسيا في إطار “مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا” (CICA)؛ وهو مؤتمر يصل عدد الدول الأعضاء فيه إلى 26 عضواً (اليابان ليست عضواً فيه)؛ ويهدف إلى تعزيز التعاون والحفاظ على الأمن والسلام والاستقرار في آسيا كما تصفه الصين؛ لكن الهدف الحقيقي من ورائه هو بناء نظام أمني قاري لمواجهة التحالفات الأميركية واليابانية في آسيا.
خاتمة
إن الهدف الاستراتيجي الذي جرى التعبير عنه من قبل الطرف الأميركي المتمثل بالتحول نحو جبهة الهادئ الآسيوية، رأت فيه الصين محاولة أميركية لمزاحمة نفوذها في تلك المنطقة، لترد الصين من خلال توجهات تخلق فرص مساومة لبكين، كالموقف من الأزمة السورية والعلاقات مع طهران. وعليه فإن الصين وروسيا في خندق واحد والعلاقة بينهما مبنية على تقاطع مصالح حقيقية من وجهة نظرهم. وقد نجح هذا التحالف الصيني-الروسي مع إيران عبر إطالة الأزمة ودعم صمود نظام الأسد في كسب لعبة عض الأصابع مع المجتمع الدولي.
كما نجح التحالف الروسي-الصيني أيضاً في فرض إيران كجزءٍ من هذا الحل بعد استبعادها لسنوات. واليوم وبعد التدخل الروسي على الأرض ورفع العقوبات الاقتصادية عن إيران تبدو الصين في موقف أقل رسوخاً من الموقف الروسي بسبب طبيعة استراتيجيتها تجاه المنطقة بشكل خاص وتوجهاتها الدولية بشكل عام. غير أن بعض العوامل قد تجعل التراجع الصيني عن استمرار الموقف الحالي أمراً ليس هيناً، ويتجلّى ذلك في حرصها على العلاقة مع إيران وروسيا التي تمثل مورداً مهماً لها في مصادر الطاقة والسلاح.
لطالما ساهم الموقف الصيني-الروسي في تعقيد الأزمة السورية عبر الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري للنظام، وما الدخول الروسي المباشر على المشهد السوري ومحاولة تأطير الحل السياسي وفق رؤيته، ولكن بخطوات تدريجية تسهّل السيطرة على تداعياتها وتحافظ على شكل النظام المفيد بالنسبة لها. ويمكن في ضوء هذه المعطيات لدول الخليج بما تملكه من موارد الطاقة ومن تموضع سياسي قوي في مقابل إيران أن تساهم في إيجاد الحليف البديل للصين تدريجياً عبر الانفتاح على الصين بنفس اللغة التي تتعامل وفقها سياسياً، إضافة إلى استمرار انفتاح المعارضة السورية على بكين وبناء جسور يتم استثمارها في المرحلة الانتقالية.
ساشا العلو
مركز عمران للدراسات الاستراتيجية