في مرحلة أولى أعقبت بداية الثورة، أطلق أوباما تصريحاتٍ استغلت رفض الأسد توافقاً داخلياً على إصلاح وحل سياسيين، ولاقى جهود الأسد التي رمت إلى تحويل مظاهرات السوريين السلمية إلى صراع مسلح مفتوح على أشكال متنوعة من تدخلات الخارج والعنف المحلي، وانتهج خطاً قام على إيهام السوريين بحتمية تدخل خارجي يقوده البيت الأبيض، يقلب معادلات الصراع وتوازناته لصالحهم، شريطة أخذهم المتزايد بالعمل العسكري الذي يبرّر تدخله.
بعد فترةٍ تقارب العام، بدأت الأمور تظهر على حقيقتها، على الرغم من أن ما كان أوباما وطاقمه السياسي يطلقانه من تصريحاتٍ يوميةٍ، تمعن في تبني مطالب السوريين، من دون أن تترتب عليها أية مرتسمات عملية في ما يتعلق برفع الحظر المفروض أميركياً، بصور مباشرة وغير مباشرة، على ما تحتاج إليه المعارضة من سلاحٍ تواجه به نهر الأسلحة والمقاتلين الذي كان يتدفق على النظام من روسيا وإيران. في هذه الفترة، كان هدف واشنطن تكبيل الثورة بشبكةٍ من العلاقات، تقنع قادتها الميدانيين والسياسيين بأن انفكاكهم عنها، أو ابتعادها عنهم، يعني هزيمة ثورتهم التي صارت جزءاً من صراعٍ كوني بينها وبين الروس والإيرانيين، يترجمه صراع النظام ضدها، ومحاولات حلفائه القضاء عليها، عبر تدخلاتهم العسكرية المباشرة، فإذا كانت واشنطن لا تقدّم لها ما يلزمها لتحقيق أهدافها، فإنها باندراجها في تحالف أمر واقع معها تضمن ألا يُنزل أعداؤها الهزيمة بها، لأن هزيمتها ستعتبر عندئذ هزيمة لأميركا، القوة التي توازن خارجياً اختلال موازين القوى الداخلية بين النظام وبينها، ثم أليست أميركا عدو عدوهم الإيراني/ الروسي التي يستحيل بلوغ أي توازنٍ مع النظام في غيابها، ويكفي تأييدها الكلامي ردع خصوم ثورة السوريين والحؤول دون هزيمتها، مهما واجهت من نكسات.
أخيراً، ألا يحول تأييد واشنطن الثورة بين النظام وكسب الصراع، مهما بذل من جهود، وتلقى من دعم ؟ ألا يثلم التزامها بالثورة التزام الروس بالنظام، ويجعله أشد عجزاً من أن يحسم المعركة؟ هل يجوز، في حسبةٍ كهذه، تقويم الموقف الأميركي من خلال معيارٍ يركّز بصورة واحدية البعد على ما تقوم أو لا تقوم به من أعمال ميدانية لصالح الثورة، ما دامت تغطي الثورة باستراتيجية ردعها الكونية، الموجهة ضد إيران وروسيا، عدوي الشعب السوري، وتشمل النظام بالضرورة؟ بالنتيجة، سيطر اقتناع ضمني يقول: لا تعجبنا سياسات البيت الأبيض، وهي تتلاعب بنا، ومع ذلك، فإن الخلاف معه يقوّض وضع الثورة الدولي، وتوازن الأمر الواقع مع النظام، في ظل عدم وجود بديلٍ لها.
منع الحسم
كبّل البيت الأبيض السوريين بهذه السياسة التي أتاحت له تحقيق هدفٍ عمليٍّ وملموس جداً يناقض مطالبهم ومصالحهم، هو إطالة الصراع ومنع حسمه بانتصارٍ تحرزه المعارضة أو يحققه النظام. وقد بنت واشنطن موقفها هذا على توازنٍ دقيقٍ، وضع الثورة والنظام في دائرة القرار الأميركي، وجعل من المحال خروجهما منفردين أو مجتمعين من معركةٍ فقدا السيطرة عليها، نجحت في جرّ خصومها الدوليين والإقليميين إليها، وحولتها إلى معركة تصفية حسابات معهم بالدماء السورية التي حققت بواسطتها ما خططت له، من دون أي تكلفة في الأرواح والأموال. بسياسة إطالة الصراع بدل حله، وإدارته كفوضى منظمة ومتحكّم بها، تفتقر إلى عائد سياسي، يحقق هدف الثورة في إسقاط النظام، أو هدف النظام في إسقاط الثورة، سقطت سورية في دائرةٍ مغلقةٍ لم تخرج منها، على الرغم مما شهدته من تطوراتٍ، خلال سنوات الصراع الخمس الماضية، على الرغم من أن أحداثها تراكمت بصور متزايدة المأساوية.
في مرحلة تالية، ومع ظهور (وتوطد) الإرهاب ـ الداعشي وغير الداعشي، ونجاجه المتزايد في تقديم نفسه بديلاً محتملاً لثورة الحرية، استنفرت واشنطن قواها، وجنّدت جهاتٍ ودولاً عديدة زجت بها في الحرب ضده، بينما عدلت موقفها السياسي، فلم يعد موجهاً نحو إدارة الصراع بين النظام الأسدي والثورة، خصوصاً وأن الأخيرة لم تستجب للدعوة إلى الانخراط في الحرب الجديدة. في هذه المرحلة، شرع البيت الأبيض يتخوف من سقوط النظام، ويدّعي أن بديله لن يكون، من تلك الفترة فصاعداً، الإرهاب وتنظيماته، وأنها لن تتخلى، لهذين السببين، عن أولوية حربها ضده، ولن تواصل سياساتها المعادية الأسد، لأن ذلك يقوي “داعش” وأخواتها، ويضر بالأمن القومي الأميركي. بمرور الوقت، تبلورت في واشنطن مفاضلةٌ معلنةٌ بين سقوط النظام وإسقاط الإرهاب، فاختار البيت الأبيض الأسد ونظامه، ثم قام بخطوةٍ أملتها أولوية محاربة الإرهاب، تجسّدت في البحث عن جهاتٍ محليةٍ تقاتله، ما لبثت أن وجدتها في الحزب الديمقراطي الكردي الانفصالي، التابع لحزب العمال الكردستاني التركي الذي لطالما دعم الأسد، وتعاون عسكرياً وأمنياً مع نظامه، وقمع مظاهرات الكرد الشعبية ضده، وركّز عنفه المفرط على الاستئثار بالساحة السياسية الكردية، والقضاء على قواها التاريخية. بتبدل معطيات الصراع وأطرافه، أخذت واشنطن سورية إلى ساحةٍ تتخطى أبعادها الثورة والنظام، ذات بنية مفتوحة على احتمالات وأوضاع مغايرة لكل ما سبق أن عرفناه منذ الثورة، أو لأي وضعٍ أراد طرفا الصراع بلوغه.
بحجة الحرب ضد الإرهاب، عاقبت أميركا ثورة الحرية، لأنها رفضت إعطاء مصالحها أولويةً على مصالح الشعب السوري. ثم أقدمت على إمداد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، المسماة “قوات حماية الشعب” دعماً لم تشهد الساحة السورية له مثيلاً، مكّنها من شن هجماتٍ مكثفةٍ ضد الجيش الحر وعرب الجزيرة ، ومن تهجير وترحيل وقتل كثيرين منهم، واحتلال مناطقهم التي غيرت أسماءها العربية بأخرى كردية، وخاضت جميع معاركها في ظل دعم عسكري واسع من جيش أميركا الذي آزرها بصورةٍ لحظيةٍ، بواسطة سلاح جوه ومستشاريه، ومكّنها من تحقيق انتصاراتٍ فرضت حكمها أمراً واقعاً على مناطق “حرّرها” كليا من الثورة، وجزئياً من النظام. في هذا السياق، تم، بصورةٍ منهجية، بناء أساطير حول بطولات مقاتلي الحزب الكردي ومقاتلاته، ولم يذكر الرواة غارات أميركا التي بلغت سبع مائة وثلاث عشرة غارة على عين العرب (كوباني)، ألقت خلالها آلاف أطنان الذخائر الأكثر ذكاءً وفتكاً، وتكفلت بسحق “داعش” في منطقة عين العرب وقراها. وللعلم، اعترف رئيس الحزب، صالح مسلم، أن “داعش” احتلت 85 قرية كردية وثلاثة أرباع مدينة عين العرب في أقل من أسبوع، وكذّب ما نسج من أساطير عن شجاعة عسكره الذين تخلوا عن هذه القرى من دون قتال تقريباً.
في المرحلة الثالثة التي ما تزال قائمة، فتح تعاون واشنطن مع الحزب الكردي أبواب خيارات جديدة أمامها، أضيفت إلى التي كانت قد بلورتها في سنوات الثورة الأربع، وتكثفت في متابعة استراتيجية “الفوضى الخلاقة” التي ورثتها عن إدارة جورج بوش، واستخدمت لتطبيقها تقنيات وممارسات “إدارة الأزمة”، والتحكم الدقيق والشامل بالقوى المتصارعة وداعميها، قبل أن تركّز جهدها على محاربة الإرهاب خياراً بديلاً للخيار الديمقراطي، وتتبنى موقفاً يجعل بقاء النظام ضرورياً، واستمرار رئاسة الأسد ممكناً، ويضيف إلى الساحة السياسية العسكرية قوةً جديدةً، هي “قوات حماية الشعب” ذات المشروع التقسيمي، والتي ترسي البنية السياسية والتحتية لكيان كردستاني انفصالي على الأرض السورية، وتطرح هدفاً يناقض كل ما ثار السوريون من أجله، لكن أميركا تبنته ورسمت حدود الكانتون الذي أعلنته، ووسعتها بقنابل طائراتها، مؤكدةً بذلك قابليةً سوريةً للدخول في مسارٍ تقسيميٍّ، يقوّض ما تعهدت به في قرار مجلس الأمن 2254 حول وحدة الدولة والمجتمع السوريين، وسيادتهما واستقلالهما. أما المسوّغ الذي تتذرع واشنطن به، فهو قيام شكلٍ من الدولة، يستجيب لحق”القوميات والشعوب والأقليات” السورية في تقرير مصيرها، تذكر منه النمط الفيدرالي الذي يتجاوز المركزية الإدارية الموسعة، ويعطي أقليةً بعينها حق تقرير مصير الدولة السورية، وما إذا كانت ستبقى موحدة أم ستقسم إلى كانتونات طائفية وأقوامية وقبلية.
هذه الصفحة الجديدة التي فتحتها سياسات واشنطن، بحجة الحرب ضد الإرهاب، عزّزت موقعها تجاه جميع أطراف الصراع الداخلي، وخصوصاً المعارض والثوري منها، كما حيال الأطراف الأجنبية والعربية التي تضعها أميركا أمام تحدياتٍ لم يسبق لها أن واجهت مثيلاً لها، بالنظر إلى أن وحدة سورية لم تكن محل شك وعلى المحك قبل المرحلة الحالية، على الرغم من الثرثرة التي لا تتوقف حول سورية المفيدة.
تطوران خطيران
اقترنت هذه المرحلة من السياسة الأميركية بتطورين خطيرين. أولاً: وضع سورية من جديد أمام خيار ليس طرفه الثاني البديل الديمقراطي، بل هو توزيع فيدرالي للدولة، قومي الطابع ومعاد للديمقراطية. ثانياً: احتلال أراضٍ سورية وبناء قواعد عسكرية جوية وبرية عليها، تكذب ادعاءاتها حول أحجامها عن التدخل لوقف المأساة السورية، لأنها لا تريد التدخل العسكري المباشر في صراعاتها. هل احتلت الأراضي السورية، وأرسلت جنودها للمرابطة فيها، لكي تقدم الدعم والحماية لمن يرغبون في تقسيم سورية، ويطردون العرب من المناطق التي أقيمت القواعد فيها؟ ولماذا تتجاهل أميركا ما تقدمه مؤسسات الأمم المتحدة من معلوماتٍ حول تبدلات ديموغرافية، تعتبرها تقاريرها جرائم حرب، بينما تشاركها روسيا موقفها، وتتحدث عن فيدرالية حزب صالح مسلم الكردي حلاً حتمياً للمشكلة السورية، وإنْ كانت تشترط موافقة السوريين عليها. وللعلم، فإن أكثر من مائة ألف مواطن كردي سوري غادروا منطقة حكم هذا الحزب، بسبب ما تعرضوا له هم أيضاً من قمع واعتقال وتخويف ومصادرة وتجنيد إجباري.
بأولوية الحرب ضد الإرهاب، وإحداث وضع جديد بدعم من واشنطن التي تتعاون أوثق التعاون مع جهاتٍ سياسية/ عسكرية انفصالية، تراجعت مكانة قوى الثورة التي لم تعد بديلاً للنظام، وإنما صارت مجرد جهةٍ من جهات عديدة منخرطة في أزمة، تمكّنها أنشطتها ورهاناتها من التخلي عن النظام الديمقراطي، المرفوض إسرائيلياً، كبديل للأسدية وللاستبداد، وتبحث واشنطن عن بدائل له، كانت وزيرة خارجيتها السابقة، هيلاري كلينتون، قد عرفتها عندما طالبت ب “ديمقراطية أقليات”، توزع السلطة على المجموعات الاتننية والمذهبية والطائفية والجهوية والأقوامية ، وتجعل دور الدولة، إن بقي لها دور، رهناً بما تقبل هذه الجهات تقديمه من تنازلات لها.
في المرحلة الأولى، أطالت واشنطن الصراع وعقّدته، لتستخدم السوريين في تصفية حساباتها وحسابات إسرائيل مع إيران وروسيا، وحالت، عن سابق عمد وتصميم، دون انتصار ثورة الحرية. وفي الثانية، اعتبرت الحرب ضد الإرهاب مهمتها الأولى، وأزاحت قوى الثورة جانباً، وأعادت بعض الاعتبار في حساباتها للنظام، وأضعفت كثيراً حتى موقفها الكلامي من الأسد. وفي الثالثة، اختارت أن تعزّز وتدعم، عسكرياً وسياسياً، التيار القومي الكردي، الإقليمي الطابع والمشروع، على حساب التيار الديمقراطي التاريخي للكرد السوريين، ودفعت الأمور في اتجاهٍ يهدّد ما التزمت به في وثائق الأمم المتحدة وقراراتها حول وحدة الدولة السورية وسيادتها واستقلالها، ووحدة المجتمع السوري، مع ما قد ينجم عن ذلك من اتساعٍ للصراعات واجتيازها الحدود المعترف بها دوليا لتركيا وإيران، ومن إمعانٍ في إزاحة الثورة السورية عن مكانها من المشكلات التي تتطلب حلاً، ينفذ قرارات دولية تطبق واشنطن سياسات تبطلها، بعد أن تستخدمها لإدامة وإطالة وتعقيد صراعاتٍ صدرت لوقفها، وإيجاد حلولٍ بضماناتٍ دولية لها.
قال أوباما إن الانتصار على “داعش” يتطلب إنهاء ما أسماها “الحرب الأهلية” في سورية. أولاً: من يصدق أوباما؟ ثانياً: هل ستنتهي “الحرب الأهلية” إذا انهارت دولة سورية، وانفرط عقد مجتمعها، بسبب ألاعيب البيت الأبيض؟ لنخرج من الرداء الأميركي، ولنصدق أجدادنا الذين قالوا: من يصدق المجرّب يكون عقله مخرب.