تشكل مقاييس ومؤشرات الأداء والترتيب للفاعلين من الدول ودون الدول أحد المجالات البحثية التي تصاعدت أهميتها وتأثيراتها في السياسات الدولية خلال العقدين الماضيين، إذ صارت مؤشرات، كالدولة الفاشلة، والفساد، والإرهاب، والديمقراطية، أكثر رواجا في خطابات صناع القرار، والسياسيين، والأكاديميين، والرأي العام، لاسيما مع ما تنطوي عليه تلك المقاييس من جاذبية رقمية تبسط الظواهر المعقدة في درجات، وتصنيفات، بما قد يسهل متابعتها، وإصدار أحكام على الواقع.
لقد ارتبط الصعود العالمي للمقاييس بجملة من العوامل، بعضها ذو طابع منهجي، يتعلق بتطور علوم الإحصاء في توصيف وتفسير الظواهر الإنسانية، والآخر ذو طابع سياسي، ينصرف إلي لجوء الدولة القومية الحديثة وأجهزتها البيروقراطية إلي المؤشرات، كإحدي وسائل تنظيم إدارة شئونها، وإضفاء طابع من الرشادة عليها. أضف لذلك الظروف التي خلفتها العولمة، وثورة الاتصالات والإنترنت من تدفق للمعلومات، وتعقد للظواهر، وتصاعد لقيم المحاسبية، وتنام لضغوطات منظمات المجتمع المدني العالمي التي تعد إحدي المنصات الرئيسية لإنتاج المقاييس والمؤشرات.
غير أن آخرين يربطون بين تصاعد الاهتمام العالمي بمقاييس الأداء، وطبيعة الفلسفة الحاكمة لهذا النوع من المقاربات الكمية، فهم يرونها انعكاسا لهيمنة طريقة “التفكير التكنوقراطي” على النظر للمشكلات في العالم، مقابل التراجع النسبي للأيديولوجيات، حيث ينطوي هذا التفكير على خلق لغة فنية مادية لفهم الواقع، بغض النظر عما يحمله من خصوصيات أو فلسفات مغايرة. وبالتالي، فهو ينزع الظواهر من سياقاتها، ويحولها إلي مجرد أرقام وترتيبات من حيث الأفضل والأسوأ، أو مدي الشدة والضعف. فالمقياس في حد ذاته هو أداة معيارية تتجاوز الخصائص المختلفة للبيئات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية المختلفة، ليتضمن مجموعة قواعد ومعايير تقيس أداء أو سلوك ظواهر ما في الواقع، عبر جمع معلومات عنها، وتحديد مفهوم إجرائي لها يسمح بالتصنيف، والترتيب في درجات بطريقة موضوعية.
وبرغم أهمية الأغراض العلمية والمعرفية التي تنطوي عليها مقاييس الأداء ونتائجها، لاسيما على صعيد دفع الفاعلين في المجتمع العالمي إلي بناء سياسات للإنذار المبكر، كما في حالات الصراعات والكوارث، فإنها بالمقابل تطرح مستويين مرتبطين من الإشكاليات البحثية والتأثيرات السياسية، سيكونان محل مناقشة هذا العدد الجديد من ملحق “اتجاهات نظرية”.
المستوى الأول ينبع من طبيعة المقياس، كأداة كمية تكتنفها إشكاليات نظرية وفنية، كمدي كفاية وصدقية وجودة المعلومات والبيانات، وما إذا كان المفهوم الإجرائي الذي تقاس به الظاهرة ينطوي على إحاطة شاملة بالعوامل المختلفة المتسببة فيها أم لا، أضف لذلك مدي كفاءة منهجية بناء الأوزان النسبية للمؤشرات الفرعية داخل المقياس، وطبيعة أساليب القياس الإحصائي، ومدي الشفافية لدي الجهة المصدرة للمقياس، لأنه من غير الممكن، نظريا وعمليا، فصل المقياس وما يحمله من نتائج عن مصدره فكرا، وأجندة، وتمويلا.
أما المستوى الآخر، فينصرف إلي التأثيرات التي تنشأ عن نتائج المقياس في ترتيب وتصنيف الفاعلين، حيث باتت تخضع للتوظيف السياسي، وتعكس خلل موازين القوى والضعف في التفاعلات الدولية، حيث تستخدمها بعض القوى الكبرى، والمؤسسات العالمية لتبرير سياسات معينة، أو الضغط على الدول لتعديل سياساتها تجاه قضايا عالمية، مثل التنمية، والفساد، والديمقراطية. ولعل ذلك أسهم في بروز ما يسمي بـ “قوة المقاييس أو المؤشرات”، كما يفصل أبعادها وتأثيراتها الملحق.
ولعل أهمية تسليط الضوء على هذين المستويين من إشكاليات وتأثيرات المقاييس تنطلق من بروز انتقادات أساسية لمضامينها ونتائجها، ومن أبرزها:
(❊) خطورة تحول المقاييس إلي ما يشبه المسلمات الفكرية. فهالة الرشادة والدقة العلمية التي يتم إضفاؤها على المقاييس تحول نتائجها في ترتيب وتصنيف الفاعلين إلي مسلمات أو يقينيات يتم استخدامها أحيانا دون إدراك للسياقات المصدرة لها في خطابات السياسيين، وتقارير منظمات المجتمع المدني، وتحليلات مراكز الفكر والدراسات. حيث تُبني على تلك نتائج المقاييس افتراضات وأحكام، وعلاقات سببية لتفسير الأحداث، وصياغة اتجاهات للظواهر حول العالم، برغم ما قد يشوب بعض هذه المقاييس من أخطاء وإشكاليات تصل في بعض الأحيان إلي حد الاستدلال المضلل، والربط التعسفي والمغلوط بين معطيات ظاهرة ما ونتائجها، بخلاف عدم الشفافية، والتلاعب بعمليات الترتيب والتصنيف من الجهة المصدرة للمقياس.
فعلى سبيل المثال، تطرح موضوعات الملحق حول مؤشرات، كمدركات الفساد، والإرهاب العالمي، إشكاليات من قبيل عدم دقة أو شمول النظرة في بعض العلاقات السببية في تفسير الظواهر، كارتباط مكافحة الفساد بزيادة معدل النمو الاقتصادي، أو الربط بين الفقر والإرهاب، أو حتى معضلة الأوزان النسبية للعوامل المؤثرة في فشل الدولة، التي تثير مشكلة، مثل أي السببين أكثر وزنا وتأثيرا في هذا الفشل: الاستبداد أم خروج مناطق جغرافية من تحت سيطرة الدولة.
(❊) الهيمنة الغربية على إنتاج المقاييس وترويجها، حيث إن إنتاج المقاييس والترويج لها عالميا ارتبط بهيمنة بعض النماذج الفكرية والسياسية الغربية على السياسات الدولية، وانعكس ذلك تحديدا في مسالة بناء المفهوم الإجرائي الذي تقاس به الظواهر. إذ عادة ما يستند واضعو المقاييس إلي رؤاهم، وقيمهم، وتصوراتهم عن النموذج المثالي، أو المفترض أن تكون عليه الظواهر، محل القياس، وهو الأمر الذي ربما يحمل في طياته انحيازا، وتنميطا قد لا يمكِّن في بعض الأحيان من فهم دواخل وخصوصيات الظواهر ذاتها، كأن يضع مؤشر الدول الفاشلة مثلا السويد وإفريقيا الوسطي ضمن سياق مقارن في مدي قدرة الدولة على الوفاء بوظائفها، برغم التباينات الحادة في تطور فكرة الدولة، وذاتها، ووظائفها في البلدين.
وما يعمق معضلة تأثيرات الهيمنة الغربية على المقاييس أن المناطق الأخرى في العالم، ومنها منطقتنا العربية، تتعامل معها بمنطق الاستهلاك البحثي، والتبعية الفكرية، دون إنكار وجود مجهودات لبناء مؤشرات وطنية، ولكنها كانت على الأغلب محدودة التأثير، أو مجرد استنساخ لمؤشرات عالمية بغرض التمويل الغربي، مما يؤدي إلي سيادة الرؤية الأحادية الغربية في فهم الظواهر ومعالجتها.
فعلى سبيل المثال، مس أحد موضوعات الملحق حول تقارير التنمية الإنسانية العربية التي صدرت ما بين عامي 2002 و2009 إشكالية هيمنة الرؤية الغربية في النظر لقضايا التنمية، بما جعل هناك صعودا لقضايا على حساب أخرى، قد تكون أكثر تأثيرا في واقعنا العربي. بل ما يلفت النظر في مؤشر الإرهاب العالمي عدم اقترابه من الممارسات الإرهابية للمستوطنين الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر الذي يطرح معضلة الانحياز الغربي، وهيمنة الأجندات السياسية على المؤشرات العالمية. ذلك الأمر تكرر أيضا، وإن كان في مجال آخر، عندما تعرض أحد تقارير التنمية الإنسانية العربية لضغوط من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، لأنه تضمن انتقادات للغزو الأمريكي للعراق، والانتهاكات الإسرائيلية.
(❊) تحول نتائج المقاييس إلي “سلطة تقييم”. فحتى لو بدت المقاييس نظريا غير ملزمة من حيث نتائجها، فإنها عمليا تتحول إلي قوة مؤثرة مع ارتباطها بالتفاعلات الدولية. فأي مقياس -مهما تكن القضية موضع المعالجة- يستهدف في الأخير تحديد مدي توافق الأداء أو السلوك في هذه الظواهر مع المعايير الموضوعة في المؤشر، أي يحمل في طياته رسالة تقييمية تتجلي عند ربط نتائج الترتيب والتصنيف بسياسات الدول في “المنح” و”المنع”.
فيظهر “المنح” عندما يسعي الفاعلون، محل التقييم، إلي تعديل سلوكهم أو سياساتهم تجاه القضية موضع القياس، كي يحسنوا مراتبهم وتصنيفاتهم، كما الحال في بعض المؤشرات الاقتصادية التي تعطي رسالة غير مباشرة بأن الدولة قابلة لزيادة الاستثمارات مثلا، أو سياسات المعونة الأجنبية، أما “المنع”، فيتجلي عند رفض الدولة للمقياس، أو عدم السعي لرفع مراتبها، فتصبح حينئذ منبوذة، وموصومة، ومعاقبة، ولو رمزيا، في التفاعلات السياسية الدولية، كأن توصف بالدولة الفاشلة، أو الفاسدة، أو الاستبدادية، أو حتى تدخل ضمن قائمة سوداء تتاجر في البشر، أو تنتهك حقوق الإنسان.
ولعل إدراك الدول لما تحدثه المقاييس من تأثيرات سياسية واقتصادية يجعل بعضها يتخذ وضعية المقاومة لها. فعلى سبيل المثال، تبني الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة مماثلة بتهديده لمؤسسات التصنيف الائتماني بطردها من تركيا، وإيقاف التعاون معها، أو تمويل أنشطتها بخصوص دولته، وذلك حال تخفيض التصنيف لدولته بالتركيز على الاضطرابات السياسية فيها منذ 2013، بحسبان أن ذلك يمثل انحيازا سياسيا من هذه المؤسسات.
في الوقت نفسه، فقد استطاعت القوى الغربية، خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، توظيف تقارير التنمية الإنسانية العربية لدعم ضغوطها السياسية على الدول العربية، بينما لم تول الأخيرة اهتماما لما طرحته هذه التقارير من معضلات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، مثلت في إجمالها لاحقا البيئة المحفزة على إسقاط الأنظمة الاستبدادية في عام .2011 ولعل ذلك طرح معضلة التباين بين قدرة المقاييس على التوصيف، والتفسير، والتقييم، لكنها تفشل عند التنبؤ بمآلات الظواهر التي تقيسها، كما الحال في الثورات العربية، أو الأزمات الاقتصادية الكبرى، كما في اليونان، أو حتى ما يعصف بمنطقتنا العربية من حروب وصراعات أهلية أعقبت الثورات.
هذه الإشكاليات والتأثيرات التي تطرحها المقاييس هي مجرد نماذج وأمثلة مما طرحه الباحثون في موضوعاتهم في هذا الملحق، والذي سعي إلي بناء إطار نظري عام حول قوة المقاييس، عبر فهم لأنماط وآليات تأثيرها في سلوك الوحدات الدولية، واستجاباتها لها، وبعض إشكاليات صياغة المقاييس، وتوظيفها. ثم سعي الملحق في موضوعات تالية إلي اكتشاف أبرز الإشكاليات المطروحة في ثلاثة مؤشرات اكتسبت انتشارا وتأثيرا على المستوى العالمي، وتداخلا مع قضايا منطقتنا العربية، وهي: مؤشر مدركات الفساد، ومؤشر الإرهاب العالمي، ومؤشر الدول الفاشلة. وأنهي الملحق موضوعاته بمناقشة حالة تقرير التنمية الإنسانية العربية، بحسبانه محاولة إقليمية لبناء مقياس تنموي.
وبرغم مما قدمته موضوعات الملحق من طروحات مهمة حول مسألة المقاييس، يمكن النظر لها كاتجاهات أولية يستطيع الباحثون البناء عليها، أو إخضاعها للجدل والنقاش العلمي، فإن ثمة قضايا ذات طابع فني في بناء المقاييس، خاصة المتعلقة بالأساليب الإحصائية، لم يتسع المجال لمناقشتها لتعقدها، وربما احتياجها إلي ساحة بحثية وأكاديمية أخرى.
ويبقي أن مناقشة المقاييس وإشكالياتها، عبر موضوعات الملحق، لا تعني تقليلا لأهمية هذه المقاربة الكمية كوسيلة لفهم أدق للواقع، ولكن تدفع إلي النظر لها، كنقطة بدء لا تخلو من مشكلات فكرية وسياسية، كغيرها من المناهج المستخدمة في تفسير الظواهر الإنسانية، إضافة لأهمية فهم طبيعة ما تطرحه المقاييس من تأثيرات سياسية باتت ترتبط، بل وأحيانا تتحكم في طريقة تفكيرنا في إدارة القضايا الداخلية والخارجية في المنطقة العربية.
——————————-
(*) تقديم ملحق اتجاهات نظرية حول المؤشرات، مجلة السياسة الدولية، العدد 204، إبريل 2016
تعريف الكاتب:
باحث مصري في العلوم السياسية، مسئول تحرير موقع مجلة السياسة الدولية.