بين الشرعيتين الجديدة والقديمة
تظل إشكالية وجود ثلاث حكومات مرتبطةً بتكييف أوضاع “المؤتمر الوطني” و “مجلس النواب” وفق الاتفاق السياسي، حيث يظل الجدل حول شرعية الحكومات مرتبطاً بتمسك الجهات التشريعية بالإعلان الدستوري مظلةً أساسيةً، قبل القبول بالاتفاق السياسي.
وهنا، يمكن الإشارة إلى بدء عملية تحويل للمؤتمر الوطني، لتشكيل “المجلس الأعلى للدولة”، وهو ما يعد بمثابة خطوة نحو المرحلة الانتقالية الجديدة، لكن التطورات على مستوى “مجلس النواب” ظلت بطيئةً تجاه الاندماج في الاتفاق السياسي، وهي على نحو مماثل لرئاسة المؤتمر الوطني.
وبشكل عام، يمكن النظر إلى التغيرات داخل الجهات التشريعية على أنها تشير إلى وجود انقسام بين التوجهات العامة لأعضائها والهيئات القيادية للمجلسين، وهو ما يمكن ملاحظته في صدور قائمة مائة نائب في فبراير/ شباط 2016، تؤيد منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني. كما انضم ما يقرب من تسعين عضواً في “المؤتمر الوطني” لاجتماع “مجلس الدولة” المنعقد في طرابلس، في إبريل/ نيسان الجاري. ويمكن ملاحظة أن استمرار هذه التوجهات الداخلية يسير باتجاه دعم الدخول في مرحلة انتقالية أخرى، ومن ثم، يمكن قراءة تأجيل “النواب” منح الثقة لحكومة فائز السراج لا تعدو محاولةً لاحتكار المرحلة الجديدة، وتوفير مظلة حماية لـ”الجيش” وفق ترتيباته الحالية، وهي مطالب لا تصمد أمام تسارع الدعم الدولي لحكومة الوفاق واتساع نطاق مؤيديها في ليبيا.
بعد هذه التطورات، لا تبدو إشكالية وجود حكومتي “الإنقاذ” و”الحكومة الليبية المؤقتة” محل جدل سياسي أو قانوني، فمن جهة، توضح مؤشرات تشكيل مجلس الدولة، ومن جهة أخرى، استمرار إعلان غالبية أعضاء مجلس النواب تأييدهم لحكومة الوفاق، أن المستقبل السياسي للحكومتين لا يستند لمقومات شرعية.
وعلى الرغم من إعلان حكومة “الإنقاذ الوطني” استقالتها، إلا أنها ظلت تحتفظ بالمقرّات الحكومية، كما ظلت مهيمنة على العاصمة (طرابلس) من دون المدن الغربية الأخرى، وهو وضع يماثل انحسار سيطرة “الحكومة المؤقتة” على بعض المدن الشرقية، وهذه الأوضاع ما زالت تشكل تحدياً سياسياً، لكن فرص استمرارها تبدو ضعيفة، في رفض أو ممانعة المكونات المؤيدة للتخلص من مرحلة الانقسام والصراع الاجتماعي.
بين التشدد والغموض
وفيما يتعلق بانعقاد جلسة منح الثقة للحكومة، اشترط رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، حضور جميع أعضاء المجلس الرئاسي، ما يضع معوقات أمام انعقاد الجلسة، خصوصاً في ظل ثلاث مشكلات؛ نقص الحماية الأمنية اللازمة لأعضاء الحكومة، واستمرار الجدل حول وزارة الدفاع، غير أن المشكلة الأهم تتمثل في اعتبار منح الثقة مسألة دستورية أصلية، على الرغم من الجدل القانوني حولها، وتناولها صالح في كلمته في 2 أبريل/ نيسان 2016، من وجهة أنها قرارات وطنية مستقلة، لا تخضع للمساومات أو الضغوط الخارجية، ما يشكل قيوداً على منح الثقة لحكومة السراج، فاتجاهات خطاب رئيس مجلس النواب تؤكد على الطابع السياسي التعبوي الذي يجمع بين التاريخ المجيد للدولة تجاه الاستعمار والشروط الضرورية للدخول في المسار السياسي القادم.
ولا زالت الترتيبات الخاصة بوزارة الدفاع تعد أهم مشكلة تواجه حكومة السراج، ويتوقف حلها على تغيير الولاءات في المنطقة الشرقية، بشكل أساسي، وفيما يتعلق بوضع الجيش، ظهرت مؤشرات الأزمة في تصريحات رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، و(القائد العام) خليفة حفتر. وبينما أكد صالح على اعتبار الجيش مؤسسة مستقلة بعيدة عن الترتيبات الحالية المرتبطة بمنح الثقة للحكومة، فقد انتقد حفتر، في بيان صادر عن وزارة الدفاع في 13 أبريل/ نيسان 2016، اللقاءات بين السفراء الأجانب والمهدي البرعثي (المرشح لوزارة الدفاع)، ولم يتوقف عند هذا الحد، لكنها وصلت إلى محاولة اعتقال البرعثي لدى عودته إلى مدينة البيضاء. وتكشف هذه السلوكيات عن محاولات مستمرة لوقف “مسار الصخيرات”، أو إعادة تفسيره بما يلبي مطالب صارت لا تعبر عن المجموعات الفيدرالية، وتقترب من التطلعات الشخصية.
ويمكن ملاحظة أن غموض مجلس النواب وحفتر يكشف عن تراجع نفوذهما السياسي وانتقالهما إلى حالة الدفاع دون المبادرة، خصوصاً مع تذبذب أدائهم السياسي والعسكري. ومن المحتمل أن يتعزّز هذا الوضع في ظل التفاهمات بين قبيلتي العواقير ( قبيلة البرعثي) والمغاربة، وهي تفاهمات تتعلق بتأييد حكومة الوفاق، ما يشكل نقلة نوعية في الدعم الاجتماعي للمرحلة الجديدة، وهي تأتي في سياق تفاهمات أخرى بين قبائل المنطقة الشرقية، تم التوصل إليها في “أنطاليا ـ تركيا” في مارس/ آذار الماضي، وتذهب، في مجموعها، إلى ضرورة الخروج من حالة الصراع المسلح عبر حكومة موحدة، ما يضيق فرص استمرار الأوضاع العسكرية كما هي، في الوقت الراهن.
الأحزاب وحكومة الوفاق
بعد إعلان “الاتفاق السياسي”، انصبت ملاحظات “تحالف القوى الوطنية” على أن طريقة اقتسام السلطة (بيان 21 فبراير/ شباط 2016 )، عبر تشكيل حكومة جهوية، ليست ملائمة لحدوث التوافق المرغوب في المرحلة الانتقالية. ولذلك، خلص إلى أن التوافق على “برنامج وطني” يشكل مخرجاً للأزمة السياسية، غير أن اقتراحه لصياغة البرنامج تلائم الحالات الانتقالية التي لا تشهد صراعاً مسلحاً، والخالية أيضاً من الانقسامات الاجتماعية، حيث يرى أن بناء البرنامج الوطني يقوم على مشاوراتٍ اجتماعية واسعةٍ، لا تبدو متوفرة في الحالة الليبية.
وفي سياق انتقادات التحالف تشكيل حكومة الوفاق، صدر بيان في 23 فبراير/ شباط 2016، لتأييد “الجيش الليبي” في حربه ضد الإرهاب في بنغازي وكل مدن ليبيا، واعتبار الوحدات التابعة لحفتر لبناتٍ أولى لاستعادة هيبة الدولة. ويشير البيان إلى تناقضات التحالف تجاه العملية السياسية القائمة على اتفاق الصخيرات، حيث جاء تركيزه على سرد ملاحظات على تشكيل الحكومة والتأييد المطلق لـ”الجيش” في سياق شن حفتر حملة كبيرة تحت شعار “دم الشهيد”، وهي حملة مسلحة تستهدف السيطرة على بنغازي وضواحيها، كما جاءت في سياق عدم انعقاد جلسة البرلمان لمنح الثقة للحكومة، ما يمكمن اعتباره متناقضاً مع مطالب التحالف بحل الأزمة عن طريق الحوار السياسي.
وقد حدث في لقاء ممثلين عن التحالف مع المبعوث الأمم المتحدة، مارتن كوبلر، في اسطنبول في 30 مارس/ آذار 2016، تغير في تناول التحالف الوطني للحكومة الانتقالية الجديدة، حيث اقترح ممثلوه إجراء تعديلاتٍ على الاتفاق السياسي، قد تؤدي إلى انضمام “المؤتمر الوطني” والبرلمان إلى المسار المدعوم من المجتمع الدولي، ويمكن اعتبار هذا اللقاء وراء تغير موقف التحالف من حكومة الوفاق، حيث أشار في بيان 3 إبريل/ نيسان الجاري 2016 إلى دعم المسار الديمقراطي، فإنه يمكن ملاحظة أمرين؛ أنه ربط اعترافه الكامل بها بالحصول على ثقة البرلمان، كما اعتبر أن البرلمان وافق على “الاتفاق السياسي”، بما يعني التحفظ على المادة 8 من الملحق الإضافي، ما يدعم استمرار حفتر في قيادة “الجيش”، وهي تحفظات تبدو قليلة، ومن المحتمل أن تمهد للانتقال إلى التأييد الكامل للحكومة. وبشكل عام، تشير مواقف التحالف إلى وجود تغيرات داخلية، تعزز التقارب مع مسار حكومة السراج، على الرغم من الانتقادات التي وجهها رئيس التحالف (محمود جبريل) لتشكيلة الحكومة.
كان التغير في موقف التحالف الوطني التوجه الأساسي لـ”العدالة والبناء”، منذ صدور مقترح الاتفاق السياسي في 21 سبتمبر/ أيلول 2015، والذي بدا مستقراً في دعم المرحلة الانتقالية الجديدة، حيث اتخذ الحزب اتجاهين: الأول، محاولة الوصول إلى موقف موحد للمؤتمر الوطني، عبر المشاركة في حوارات قطر في يناير/ كانون ثاني 2016. والاتجاه الثاني، التواصل مع الجهات الضامنة للاتفاق السياسي، وهي الأطراف الدولية، ويتمثل التوجه العام لـ”العدالة والبناء” في أن الوصول إلى حالة الاستقرار والمصالحة، يساهم في تفكيك عناصر الأزمة، فضلاً عن دعم الحكومة، من دون المشاركة فيها، وهي خطوة تبدو ذات دلالة إيجايبة، تساعد في تجاوز الانقسامات السياسية.
تحديات “داعش”
تشير خبرة تنظيم “داعش” في ليبيا إلى أنه يواجه تحدياتٍ تمنع من تطويره، كما في حالتي العراق والشام، وهي تحديات تنبع من ثلاثة مصادر، وهي؛ الأول: وجود حالة من التدافع الاجتماعي المناهضة للحركات المتطرفة. وهنا واجه “داعش” رفضاً واضحاً في المدن الغربية، وخصوصاً صبراتة ومصراتة، بالإضافة إلى درنة، حيث تدرك المجالس العسكرية لهذه المدن أن وجود مسلحين خارج نطاق سيطرة المجتمع أو الدولة سوف يضفي تعقيداتٍ على المسار السياسي. التحدي الثاني: تبدو خصاص التنظيم في ليبيا تبدو ضعيفةً وأقل تطوراً، سواء من الكيانات المسلحة الليبية الأخرى، أو من الإمكانات التي يتمتع بها التنظيم في منطقة الشام، حيث أنه في ليبيا يعتمد، بشكل أساسي، على عناصر أجنبية غير قادرة على التكيف والتعامل مع المجتمع الليبي. التحدي الثالث: إدراك المجتمع الدولي خطورة وجود “داعش” في ليبيا، باعتباره تهديداً مباشراً لشمال “المتوسط”. وهنا تأتي أهمية الضربات النوعية لوقف انتشار التنظيم في المدن الليبية، وتمت ترجمة هذا الإدراك في مهام حكومة الوافق، وأيضاً في الزيارات الكثيفة لوزراء الدول الغربية وسفرائها طرابلس، سلطة شرعية، والإعلان عن توفير الدعم السياسي والمالي لها. ومن المتوقع أن يؤدي الدعم الدولي لكبح جماح “داعش” في ليبيا، بسبب عدم وجود اختلاف في السياسة الدولية، وتضمنها مع السلطة الجديدة. وهنا يشير اجتماع تونس، في 12 أبريل/ نيسان الجاري، إلى أن الملف الليبي يقع تحت الرعاية المباشرة للجماعية الدولية، فيما يتم تهميش الدور الإقليمي ودول الجوار، وهو ما يعتبر من ضمانات اتساق سياسة مكافحة “داعش”، والبدء بحزمة من السياسات الاقتصادية، تهدف إلى امتصاص التوتر الاجتماعية.
المسار المحتمل لحكومة الوفاق
بشكل عام ، يمكن القول إن استمرار المجلس الرئاسي في طرابلس من دون منح حكومته الثقة، سوف يكون مصدر توتر. ولكن، ليس من المتوقع أن تتفاقم المشكلات، بما يؤدي إلى إخراجه من العاصمة، فإن وجودهم في القاعدة البحرية الليبية يساهم في حدوث تغيير تدريجي في موازين القوة. ليس فقط بسبب انهيار حكومة “الإنقاذ الوطني”، وانكماش نفوذها. ولكن، بسبب وجود تطلعات اجتماعية لوقف الصراع المسلح.
وللمرة الأولى، تظهر حزمة متكاملة للدعم الدولي، تجمع بين الدعم السياسي للحكومة والاقتصاد والإعمار، بالإضافة إلى الدعم في بناء الجيش، وحوكمة المؤسسات كأطر عامة للمرحلة المقبلة، فالاجتماع الدولي المنعقد في تونس في 12 إبريل/ نيسان الجاري كشف عن تخلي الداعمين الدوليين عن الرؤية التقليدية التي حصرت المساعدات في جمع السلاح ومكافحة الإرهاب. وهنا لا يعد اختلاف منظور الدعم كافياً بحد ذاته، لكنه يتطلب تمكين الحكومة من بناء مؤسساتٍ وفق معايير الحوكمة، وإعداد سياساتٍ عامة تغطي احتياجات المجتمع. هذا ما يمثل الجوانب الأساسية لبقاء السلطة وقدرتها على مواجهة التحديات. ويمكن القول إن برامج الدعم المقترحة توفر إسناداً ملائماً لقيم حكومة السراج بمهامها، لكن المعضلة تكمن في تأهيل الجهاز الإداري لإدارة الموارد، حيث تشير الخبرات السابقة إلى هدر موارد كثيرة، بسبب ضعف الجهاز الإداري.
وعلى الرغم من أن “مجلس الرئاسة” لم يسيطر على المقرات الحكومية، فإنه حظي بتأييد مجالس بلدية عديدة، وهي حالة تقترب من الشرعية الشعبية، والتي تتمثل في بيانات الدعم التي أصدرتها المجالس البلدية في الغرب والجنوب والشرق، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني والتشكيلات العسكرية المختلفة، إضافة إلى بعض مجالس الأعيان والحكماء للمدن والمناطق الليبية المختلفة، ما يكسبه شرعية اجتماعية ودولية، يمكن تحويلها إلى شرعية سياسية.