يمكن القول إن تركيا حجزت لنفسها مقعداً حول الطاولة الدولية المعنية بتقرير مصير ليبيا. ففي موسكو أطلق الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، نداءً مشتركاً لوقف إطلاق النار في ليبيا، على رغم فشل الجهود الروسية لإقناع الجنرال خليفة حفتر بالتوقيع على بيان مشترك، بهذا الخصوص، مع حكومة فايز السراج. فحفتر المدعوم من مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، لم يرغب بالتفريط بالإنجاز الميداني الذي حققه في الأسابيع الأخيرة، فانسل مغادراً روسيا تجنباً لمزيد من ضغوط بوتين.
اتفاق التعاون العسكري الذي تم توقيعه بين تركيا وحكومة السراج المعترف بها أممياً، يتيح لأنقرة إرسال قوات عسكرية لدعم السراج، ووافق البرلمان التركي على مبدأ إرسال تلك القوات. صحيح أن تركيا لم ترسل قوات عسكرية إلى طرابلس، إلى الآن، لكن تقارير صحافية تتحدث عن إرسال مقاتلين سوريين من الفصائل الموالية لتركيا للمشاركة في القتال تحت مظلة حكومة السراج، إضافة إلى تزويد تركيا لها بوسائل دفاع جوي تركية ساهمت، إلى حد كبير، في التصدي للهجمات الجوية لقوات حفتر. هذا التدخل العسكري التركي، والتهديد بمزيد منه، أتاح لأنقرة أن تكون طرفاً اقليمياً فاعلاً في المعادلات الميدانية والسياسية في الصراع الليبي، في مواجهة المحور المصري ـ الإماراتي الذي يدعم قوات حفتر، وجزءًا لا يمكن تجاهله من أي حل سياسي محتمل.
لذلك فقد شارك الرئيس التركي في مؤتمر برلين الذي عملت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل على توفير أسباب نجاحه، على قدم المساواة مع ممثلي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى مصر والجزائر والإمارات العربية المتحدة، وممثلي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الإفريقي.
هل حقق مؤتمر برلين اختراقاً يمكن التعويل عليه؟
أحلام حفتر وداعميه بالاستيلاء السريع على طرابلس قد تجمدت حالياً، مقابل تراجع تركيا عن إرسال قوات عسكرية تركية للمشاركة المباشرة في القتال. وهو ما يعني أن التهديد التركي بإرسال القوات قد أثمر، مؤقتاً، عن نتيجة مرغوبة بالنسبة لأنقرة، أي إبعاد شبح السقوط الذي كان متوقعاً لطرابلس
تضمن البيان الختامي ما أرادت جميع الدول الفاعلة في الصراع الليبي إدخاله فيه، بمعنى أنه لم يسجل تنازلات متبادلة لا بد منها لإنجاح أي اتفاق بين قوى متصارعة. فكان التوافق على مبدأ وقف إطلاق النار بدلاً من اتفاق نار فعلي قابل للتطبيق. وكان التأكيد على مبدأ منع توريد السلاح إلى الأطراف المتصارعة في ليبيا، وهو مطلب أممي مطروح منذ سنوات ولا تحترمه الدول المنخرطة في الصراع، ولا شيء يدعو إلى الظن بأن تلك الدول ستمتثل له بعد مؤتمر برلين.
الملاحظ أن حفتر هو الذي يتهرب من أي التزامات، سواء في موسكو أو في برلين، لأنه يرى أنه الطرف المتفوق عسكرياً ولا مصلحة له في الموافقة على تسوية سياسية من شأنها الإبقاء على ازدواج السلطة أو الحد من طموحه في السيطرة على كامل التراب الليبي. من المحتمل أن أحلام حفتر وداعميه بالاستيلاء السريع على طرابلس قد تجمدت حالياً، مقابل تراجع تركيا عن إرسال قوات عسكرية تركية للمشاركة المباشرة في القتال. وهو ما يعني أن التهديد التركي بإرسال القوات قد أثمر، مؤقتاً، عن نتيجة مرغوبة بالنسبة لأنقرة، أي إبعاد شبح السقوط الذي كان متوقعاً لطرابلس في يد قوات حفتر.
بخلاف العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا، قبل أشهر، لا يتمتع التدخل العسكري التركي في ليبيا بشعبية واسعة في الداخل. وفي حين اصطفت أحزاب المعارضة وراء القرار الحكومي بغزو شرق الفرات وطرد «وحدات الحماية» الكردية بعيداً عن الحدود التركية، اعترضت الأحزاب نفسها على أي تدخل عسكري محتمل في ليبيا، وتم تمرير إجازة البرلمان لتدخل مماثل بأصوات نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية.
وبصورة مفارقة نجحت السياسة المبادرة في ليبيا في تحقيق نتائج ملموسة لمصلحة السياسة الخارجية التركية، في حين أن التدخل العسكري في شرقي الفرات لم يحقق ما كانت الحكومة تأمله منها من نتائج، بل إن ما اعتبر حينها «نصراً» عسكريا غاب في ظل الانتكاسة التركية في منطقة الصراع الساخن في إدلب.
في النتيجة، ما زالت التفاعلات الميدانية والسياسية سيالة ومتقلبة، سواء في سوريا أو في ليبيا أو غيرهما من دول الاقليم. فلا يمكن الحديث عن رابحين صريحين وخاسرين صريحين وبصورة نهائية، بما يزيد من الثقل السياسي لتركيا أو غيرها من الدول المنخرطة في الصراعات العابرة للإقليم. ما زال أمامنا سنوات من هذه الصراعات قبل أن تقرر القوى الفاعلة إرساء ستاتيكو جديد يحدد أحجام الدول وأوزانها.
بكر صدقي
القدس العربي