منذ يوليو/تموز الفائت، لا يكاد يمر يوم في تركيا دون ورود أخبار عن سقوط قتلى بين أفراد الجيش أو الشرطة أو المسلحين الأكراد في مناطق الجنوب الشرقي، أو تفجير لغم أرضي أو سيارة انتحارية في إحدى المدن، أو غارات تركية على معسكرات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل شمال العراق.
هذه الصورة المختلفة كليا عن حالة التهدئة التي سادت بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية بين 2013 و 2015، والأكثر تشابها مع تسعينات القرن الماضي، كافية لإظهار درجة الخطوة التي وصلتها القضية الكردية في تركيا، رغم ما أنجزته حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة من إصلاحات وما قطعته عملية التسوية الداخلية من أشواط.
مشكلة إقليمية
بالنظر إلى توقيت نقض العمال الكردستاني الهدنة واستئنافه العمليات العسكرية فجأة بعد انتخابات يونيو/حزيران 2015 التي أفقدت العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى منذ 2002، وعلى هامش تطورات الأزمة السورية، ثم تصاعد وتيرة عمليات التفجير والهجمات الانتحارية بعد أزمة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، فلا يمكن إغفال البعدين الإقليمي والدولي في الأزمة، تأثرا وتأثيرا.
“يبدو أن حزب العمال بشقيه العسكري والسياسي يتداول إمكانية نكوصه عن العملية السياسية كحل للمشكلة الكردية في تركيا تحت سقف الدولة وسياق المواطنة الكاملة المتساوية، نحو مشاريع الإدارات الذاتية والحكم الذاتي وربما الانفصال على المدى الإستراتيجي، ولذلك شواهد عدة منها حالة التصعيد العسكري الفجائية”
ويضاف إلى إشارات العامل الخارجي في التصعيد الحالي تطوران مهمان آخران:
الأول، تفعيل عدد من المنظمات اليسارية الهامشية، التي بقيت على مدى سنوات طويلة غائبة عن الفعل والإعلام، في تركيا مؤخرا بعد التوتر التركي الروسي، وبعمليات عسكرية متتالية.
الثاني، الإعلان عن تشكيل ما سمي بـ”حركة الثورة المتحدة للشعوب” من عدة فصائل يسارية مسلحة، في مقدمتها حزب العمال الكردستاني، والحزب الشيوعي الماركسي اللينيني، والحزب الشيوعي التركي الماركسي اللينيني، وتنسيقية الثوار البروليتاريين وغيرهم، لمواجهة ما أسموه نظام التسلط للجمهورية التركية وحزب العدالة والتنمية “الفاشي”.
حزب العمال الكردستاني الذي حظي ويحظى بدعم سياسي و/أو عسكري من عدة دول إقليمية وعالمية مثل روسيا وألمانيا وإيران وسورياوإسرائيل وفق الرواية الرسمية التركية، رأى في الثورة السورية وتطوراتها اللاحقة وخصوصا ضعف سيطرة الدولة المركزية على شمال البلاد فرصة تاريخية لتحقيق حلم الأكراد بكيان سياسي لهم في المنطقة، خصوصا مع وجود نموذج إقليم شمال العراق على هامش أزمة شبيهة هناك.
وعليها فيبدو أن الحزب، بشقيه العسكري والسياسي يتداول إمكانية نكوصه عن العملية السياسية كحل للمشكلة الكردية في تركيا تحت سقف الدولة وسياق المواطنة الكاملة المتساوية، نحو مشاريع الإدارات الذاتية والحكم الذاتي وربما الانفصال على المدى الإستراتيجي، ولذلك شواهد عدة منها حالة التصعيد العسكري الفجائية، ودعوات قيادات حزب الشعوب الديمقراطي (الذراع السياسية للحزب) لإنشاء إدارات ذاتية في تركيا بما يناقض الدستور التركي، ومشاركة بعض برلمانييه في جنازات وبيوت عزاء انتحاريين فجروا أنفسهم في المدن التركية وقتلوا عشرات المدنيين!
هذه التصريحات والمواقف المتواترة من قيادات “الحركة السياسية الكردية” لا تشي فقط بإرهاصات تبدل قرارها الإستراتيجي بخصوص الحل، بل تظهر أيضا عدم حرصها على وضعها القانوني كحزب سياسي كبير يعمل دستوريا تحت قبة البرلمان التركي، بما يوحي بأن هناك تعمدا لهذا التناقض مع الدستور رغبة في العقاب والحظر بما يعيد تغذية سردية المظلومية الكردية في تركيا، ولذلك أسبابه وأهدافه التي يتوخاها.
الحاضنة الشعبية
ذلك أن عدوان العمال الكردستاني وحرب الشوارع التي يخوضها لا يلغيان المظلومية الكردية التي قللت إصلاحات الحكومات التركية المتعاقبة منها دون أن تنهيها تماما، ولذلك تبقى الحاضنة الشعبية للحزب (الطيف الكردي في الشعب) ساحة للتنافس بين الطرفين باعتبارها محددا رئيسا لمآلات هذه المواجهة والمشكلة الكردية برمتها.
لقد فقد الكردستاني جزءا مهما من حاضنته الشعبية بعد أن رأت أن تصعيده غير مبرر وتحديدا داخل المدن والأحياء ذات الكثافة السكانية العالية بما رفع كلفة المواجهة البشرية والاقتصادية بعد سنوات الرخاء. ويتبدى ذلك في عدة مؤشرات، أهمها ترك الكثيرين لأماكن سكنهم، وتعاونهم مع القوى الأمنية التركية، ورفضهم المشاركة في المظاهرات التي دعا لها حزب الشعوب الديمقراطي، فضلا عن تراجع شعبية الأخير في استطلاعات الرأي بعد أن فشل في وضع حد فاصل وواضح بينه وبين حزب العمال وظهر وكأنه مجرد ظل سياسي له فاقد لأي استقلالية في القرار.
“تبدو القيادة التركية اليوم بين نارين، بين مطرقة حزب العمال بأجندته الخارجية وعدم ثقتها بالتزامه المستقبلي بالحل، وسندان عدم وجود شريك كردي آخر ينافسه في القوة والشعبية والشرعية بين أكراد تركيا، ولعل ذلك ما يفسر تضارب تصريحات بعض القيادات التركية”
تسعى الحكومة التركية لاستثمار هذه الحالة في مواجهة الحزب، من خلال تأكيدها على التفريق الكامل بين الحزب كمنظمة “إرهابية” وبين المكون الكردي من الشعب، وعبر التزامها بتسريع ملف إعادة إعمار المناطق المتضررة وتأمين عودة أهلها المهجرين إليها. فيما يعمل حزب الشعوب الديمقراطي على إذكاء روح المظلومية والثورة لدى الشباب، ويسعى العمال الكردستاني لزيادة فاتورة الدم ليعزز الهوة بين الدولة/الحكومة التركية وأكراد الجنوب، لإعادة كسب الأخيرين إلى جانبه باعتبار أن نسبة لا بأس بها من المسلحين هم من أبناء تلك المناطق.
سيناريوهات الحل
كل هذه التطورات، وما سبقها من تكديس حزب العمال الكردستاني للسلاح حتى خلال فترة الهدنة وعملية التسوية، أدت إلى أزمة ثقة عميقة بين الطرفين، وخصوصا من جهة الحكومة بالحزب.
ترى الحكومة أن الحزب غير جاد بمناداته بين الحين والآخر للعودة لطاولة المفاوضات وتعتبرها محض مناورات منه لكسب الوقت والتغطية على خسائره الكبيرة في المواجهات الأخيرة، ولذلك لا تبدو في وارد التجاوب مع هذه الدعوات أو مع الضغوط الممارسة عليها داخليا وخارجيا لوقف العمليات العسكرية والأمنية وإعادة إحياء عملية التفاوض معه.
هنا، تبدو الحكومة أكثر قربا من مقاربة المؤسستين الأمنية والعسكرية وأبعد نسبيا عن رؤيتها السابقة بضرورة الحل الشامل، أي السياسي، الاقتصادي، التنموي، الاجتماعي، الأمني، وهو ما يفسر تصريحات الرئيس التركي في 28 مارس/آذار الفائت، حين تحدث عن أن حصيلة المواجهات منذ يوليو/تموز الفائت هي: 355 “شهيدا” من الجيش والشرطة في مقابل 5357 “قتيلا” من “الإرهابيين”، قائلا “المعادلة الآن أنهم يقتلون منا واحدا، فنسقط منهم عشرة”.
وكما يعرف حزب العمال الكردستاني تمام المعرفة عجزه عن هزيمة الدولة عسكريا، يدرك صانع القرار التركي أن الحل الأمني لوحده لن يكفي لإنهاء المشكلة، فقد جُرِّب سابقا عدة مرات ووصل الحال بالكردستاني إلى حالة قريبة من التفكك والفناء، قبل أن تعيد الظروف له مشروعيته لدى بعض الشباب الكردي فضلا عن الدعم الخارجي.
وبالتالي تبدو القيادة التركية اليوم بين نارين، بين مطرقة حزب العمال بأجندته الخارجية وعدم ثقتها بالتزامه المستقبلي بالحل، وسندان عدم وجود شريك كردي آخر ينافسه في القوة والشعبية والشرعية بين أكراد تركيا، ولعل ذلك ما يفسر تضارب تصريحات بعض القيادات التركية.
ففي حين ألمح رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو إلى إمكانية العودة لعملية التسوية في حال عاد الكردستاني إلى أوضاع “ما قبل 2013″، أكد الرئيس أردوغان بكلمات حازمة وحاسمة استبعاد هذا الخيار من حسابات تركيا، حيث قال “ليس هناك ما يمكن الاجتماع من أجله أو التفاوض حوله”، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين دعا البرلمان إلى سن تشريعات تتيح مقاضاة من يدعم الإرهاب من سياسيين وأكاديميين وإعلاميين تمهيدا لتجريدهم من جنسيتهم التركية.
“قد يكون من الأفضل لصانع القرار التركي عدم الانجرار خلف التصرفات الاستفزازية لقيادات وكوادر الحزب بمشاريع القضاء وسحب الحصانة البرلمانية. فالبديل الأنجع هو تشجيع جو الحوار السياسي وسد الثغرات أمام سردية المظلومية ومحاولات العودة للعمل السري في الظلام”
كل هذه التداعيات الداخلية والتدخلات الخارجية لا تعني أن حكومة العدالة والتنمية بلا خيار إزاء المشكلة الكردية، بل هي مضطرة لامتلاكه، لأن غيابه يعني فتح الباب على المدى البعيد على تدويل المشكلة وتحفيز سيناريوهات الانفصال بمختلف مستوياتها، بالتزامن مع خطوات المشروع السياسي الكردي في الشمال السوري، وهو ما تعتبره أنقرة خطا أحمر لأمنها القومي.
تدرك القيادة السياسية التركية مدى حاجتها لبديل عن -أو على الأقل شريك آخر مع- حزب العمال في عملية التسوية رغم صعوبة ذلك خصوصا على المدى القصير، ولذلك تسعى للتواصل مع أطراف مختلفة، منها العشائر الكردية وبعض الأحزاب ذات التوجه الإسلامي أو المحافظ والشخصيات الاعتبارية ومؤسسات المجتمع المدني الناشطة في المناطق ذات الأغلبية الكردية.
وتعي الحكومة التركية أن التطورات الإقليمية ومفردات العولمة تصعّب من سيناريوهات الحلول المحلية في الأزمات المشابهة، ولذلك فهي مهتمة بدراسة التجارب المشابهة في دول مثل إيرلندا وإسبانيا وسريلانكا وجنوب أفريقيا، ولذلك فهي على تواصل مع منظمات مجتمع مدني تركية تقوم منذ مدة بزيارات لهذه البلدان وتشارك في وفودها بغية الاستفادة من هذه التجارب.
وإضافة لما سبق التأكيد عليه من أهمية تنفيذ وتسريع مشروع إعادة الإعمار والإسكان في المناطق التي شهدت وتشهد مواجهات عسكرية، يجب على الحكومة التركية أن تدرك أهمية حزب الشعوب الديمقراطي ومحورية دوره في المعادلة، كحزب قومي كردي ممثل في البرلمان وذي علاقات وطيدة -بل شبه عضوية- مع العمال الكردستاني، بما يؤهله دائما لأن يلعب دور الوسيط بين الطرفين.
وعليه، قد يكون من الأفضل لصانع القرار التركي عدم الانجرار خلف التصرفات الاستفزازية لقيادات وكوادر الحزب بمشاريع القضاء وسحب الحصانة البرلمانية أو التهديد بسحب الجنسية والوصم بالإرهاب وما إلى ذلك. فالبديل الأنجع هو تشجيع جو الحوار السياسي وسد الثغرات أمام سردية المظلومية ومحاولات العودة للعمل السري في الظلام، والتعامل بحكمة الأب وشفقة الأم الحريصيْن على ابنهما أكثر من نفسه وليس بحرفية القاضي في بحثه عن عقوبات مناسبة لأخطاء مقترَفة.
صحيح أن المشكلة الكردية في تركيا تمر بمرحلة صعبة وتبدو على مفترق طرق تاريخي وتحمل مخاطر التدويل والخروج عن السيطرة، إلا أن الفرصة لم تفت بعد على تفعيل الرؤية السياسية الحكيمة بعيدة النظر والمستعدة للتضحيات والتنازلات الصعبة في سبيل الإنجاز التي طالما اتسمت بها سياسات العدالة والتنمية حتى الآن فيما يتعلق بالقضية الكردية في تركيا.
سعيد الحاج
الجزيرة نت