من شأن التسريبات الأخيرة حول أعمال شركات الأوفشور، التي أميط عنها اللثام، فيما بات يعرف إعلاميًا باسم «وثائق بنما»، أن تنشط الجهود الحكومية لكبح جماح أعمال التهرب الضريبي غير القانونية فضلاً عن تجنب سداد الضرائب بالمقام الأول.
ومن شأنها كذلك أن تضيف زخمها المعقول على حالة الإحباط الشعبي العامة التي تثير قدرًا من التحدي لسلطات بعض المسؤولين الحكوميين، حيث تؤدي الضجة المصاحبة للتسريبات الكبيرة إلى ضرورة النزوع إلى تدابير قوية لإنفاذ القوانين المحسنة. ولكن، رغم ذلك، سيكون هناك نوع من العواقب غير المقصودة التي تؤدي إلى مزيد من التآكل في المؤسسات السياسية وفاعليتها، بما في ذلك المقدرة على الحكم من المركز، الذي يواجه اختبارات قاسية جدًا في الوقت الراهن.
في أعقاب الأزمة المالية العالمية، وباعتبار الزيادة المقلقة للتفاوت في الثروات، فإن الفئة المحكومة سوف تثبت قبولاً أقل بكثير من حيث التمييز القانوني ما بين التهرب الضريبي والتجنب الضريبي. وصار يُنظر إلى هذين الجريمتين الآن ليس فقط من زاوية «الخداع الضريبي»، ولكن من زاوية «الإكراميات الجائرة» للفئة الأفضل حالاً من المجتمع مع الأعضاء الأكثر اتصالاً ونفوذًا في المجتمع بكثير من البلدان.
وبالنظر إلى «وثائق بنما»، وهي كنز المستندات البالغ أكثر من 11 مليون مستند من أوراق شركة «موساك فونسيكا»، المؤسسة القانونية الخاصة في بنما، فإن تلك الوثائق تشير إلى أنه في كل من الدول المتقدمة والنامية، بعض من أصحاب السلطة، وبعض من أصحاب النفوذ إليهم، إلى جانب حفنة من المشاهير والأثرياء، استخدموا خدمات تلك المؤسسة في إنشاء وإدارة شركات الأوفشور التي صُممت بالأساس لحماية رؤوس الأموال والحد من الضرائب قدر المستطاع.
كانت التداعيات السياسية لتلك التسريبات عاجلة وفورية، ومن شأنها أن تتمدد وتتواصل. وبالفعل، أسفرت الفضائح عن استقالة رئيس الوزراء في آيسلندا، وحالة من الاستنكار السياسي الكبيرة، تلك التي تطلبت من رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أن يفرج عن إقراراته الضريبية، وكان من تداعياتها أيضًا نهاية شهر العسل السياسي للرئيس الأرجنتيني الجديد موريسيو ماكري.
وبالإضافة إلى ذلك، تكثف دول مثل ألمانيا جهودها لاستعراض فرض المزيد من القيود على الخطط القانونية، لتجنب سداد الضرائب التي يستفيد منها الأثرياء في المقام الأول. وكما كان الحال مع التحركات الأولى السابقة للحد من عمليات غسل الأموال، فسوف يكون التركيز في الوقت الراهن على متطلبات الإبلاغ والتقارير الأكثر صرامة، وتحسين تبادل البيانات والمعلومات دوليًا، وجهود التحقق وإنفاذ القانون بشكل منسق ووثيق عبر الحدود الدولية.
سوف تكون مثل هذه التغيرات واضحة تمامًا، وسيكون لها تأثير ملموس بالنسبة لأولئك الذين، حتى الآن، وجدوا أنه من السهولة استخدام الكيانات المالية الخارجية «أوفشور» في الحد من مدفوعاتهم الضريبية. والتأثيرات الناجمة عن تلك الإجراءات على المستويين السياسي والحكومي، حيث يكون تأثيرها طفيفًا، قد تكون ذات عواقب أكثر تبعية بالنسبة لشرائح أوسع من المجتمع.
تعد «وثائق بنما» من قبيل الضربات الجديدة إلى مختلف المؤسسات السياسية، حيث تعمل على مضاعفة الاستياء الشعبي نحو الحكومات التي يُنظر إليها بالفعل من جانب شرائح معينة من المجتمعات على أنها تغض الطرف عمدًا عن حالات بل جرائم الخداع الضريبي. ولقد أثير المزيد من هذا السخط الشعبي إثر الإفصاحات التي تفيد بأن بعضًا من كبار المسؤولين الحكوميين قد استفادوا كثيرًا كذلك من الملاذات المالية الخارجية. وعلى الرغم من أن أغلب الحالات لم تخرق القانون بالمعنى المعروف، فإن تلك الوثائق المسربة سوف تغذي الاعتقاد السائد بأنه يُسمح للمميزين من أبناء المجتمع باللعب عن طريق قواعد مختلفة تمامًا.
وفي واقع الأمر، وبالنسبة للكثيرين، تذكرنا «وثائق بنما» بالظاهرة الأوسع نطاقًا التي برزت في الفترة السابقة، في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وهي تصور وجود نظام يعمل ويدار من قبل مؤسسة سياسية تقوم على خدمة الأثرياء وذوي النفوذ وتفشل في محاسبة ومساءلة تلك النخبة عن الأضرار التي يسببونها لبقية شرائح المجتمع. لا تزال هناك بقية متبقية من الاستياء والسخط حيث قُدم عدد قليل للغاية من المصرفيين الكبار إلى العدالة لدورهم في الكارثة المالية التي أسفرت عن بؤس كبير ودفعت بالعالم أسره إلى سنوات مدمرة من الركود المستمر.
ومن خلال تأجيج مشاعر الغضب وتغذية الحركات المناهضة للمؤسسات السياسية، فمن شأن «وثائق بنما» أن تجعل الأمر عسيرًا للغاية على الأحزاب المؤسسية للعمل سويًا وتنفيذ السياسات الرامية إلى تجاوز سنوات النمو الاقتصادي البطيء، وتفاقم حالة عدم المساواة المجتمعية، والاستقرار المالي المصطنع.
وبالإضافة إلى ذلك، أدى تطوران مهمان مؤخرا إلى مزيد من تآكل مصداقية المؤسسة السياسية وفشل الحكومة الهولندية في إقناع المواطنين بدعم اتفاقية التجارة والتعاون بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، وتحول عدد متصاعد من أعضاء المعسكر الجمهوري (بما في ذلك السيناتور ليندسي غراهام، وميت رومني، وسكوت والكر) الذين اصطفوا وراء المرشح الرئاسي تيد كروز باعتباره مرشحهم المفضل للحزب الجمهوري.
كما سوف تضعف الشهية للحكم من قبل الوسط السياسي ما بين الحزبين الكبيرين، وبالتالي يجعل الأمر أكثر صعوبة لتأمين التأييد لصالح الإصلاحات الهيكلية الداعمة للنمو الاقتصادي، وتحسين إدارة الطلب، والمزيد من حلول الوقت المناسب للمستويات العالية للغاية من الإفراط في المديونية.
ليس هناك شك في أن «وثائق بنما» سوف تسفر عن جهود عظيمة في الحد من تقليل الضرائب (سواء عن التجنب القانوني لسداد الضرائب أو التهرب غير القانوني من سدادها) وذلك من قبيل الأنباء السارة بالنسبة للنظم الديمقراطية الليبرالية التي تعتمد على سيادة القانون الذي يعد نزيها وذا مصداقية. ولكن على المدى القصير، سوف يترافق ذلك بمقاومة أعنف لنوع من الوحدة السياسية المطلوبة في كثير من البلدان لتحقيق النمو الاقتصادي المرتفع والاستقرار المالي الحقيقي.
د. محمد العريان
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط