العوائد المتشابكة: لماذا تتكيف المجتمعات النامية مع الفساد؟: حالة تسريبات بنما

العوائد المتشابكة: لماذا تتكيف المجتمعات النامية مع الفساد؟: حالة تسريبات بنما

4542

لم تتسبب التسريبات المتتالية عن ممارسات الفساد المالي في إثارة جدل واسع النطاق في الدول النامية مقارنةً بردود الأفعال الاحتجاجية الحادة في الدول المتقدمة، فعلى الرغم من تسبب الفساد وعدم المساواة وغياب العدالة في تفجير الثورات العربية ضمن عوامل أخرى، إلا أن السنوات الخمس الماضية كانت كفيلة بتحجيم ردود الأفعال المجتمعية على الفساد، وهو ما يرجع -وفق بعض التفسيرات- إلى تحولات ثقافية واجتماعية ممتدة أدت إلى تصاعد درجة التكيف مع الفساد وتطبيع ممارساته التي أضحت جزءًا طبيعيًّا من ممارسات الحياة اليومية للأفراد.

عصر التسريبات:

شهد مطلع شهر أبريل 2016 نشر “تسريبات بنما” التي وصفها البعض بأنها أكبر تسريبات عن الفساد في هذا العقد؛ إذ وصل حجمها إلى ما يعادل 2,62 تيرابايت، أي ما يزيد عن ألف جيجابايت من البيانات مدونة فيما يزيد على 11,5 مليون ملف متنوع ما بين رسائل إلكترونية، وقواعد بيانات، وصور، وملفات بصيغة pdf، ويوضح الشكل التالي حجم تسريبات بنما مقارنة بعدد من التسريبات الكبرى مثل: تسريبات سويسليكس في عام 2015، وتسريبات لوكسمبورج في عام 2014، وتسريبات الأوف شور في عام 2013، وتسريبات ويكيليكس في عام 2010.


المصدر:
Frederik Obermaier, Bastian Obermayer, Vanessa Wormer, Wolfgang Jaschensky, About the Panama Papers, Süddeutsche Zeitung, Available on:
http://panamapapers.sueddeutsche.de/articles/56febff0a1bb8d3c3495adf4/

وقد وصلت تسريبات بنما من مصدر مجهول إلى الصحيفة الألمانية زود دويتشه تسايتونج Süddeutsche Zeitung منذ عام تقريبًا، وقد احتاجت الصحيفة إلى التعاون مع مؤسسة الصحافة الاستقصائية (ICIJ)، وما يزيد عن 400 صحفي في 80 دولة مختلفة لتحليل هذا الكم الهائل من البيانات التي تغطي من عام 1970 إلى عام 2015.

وتكشف هذه الوثائق عن قيام شركة (موساك فونسيكا) للاستشارات القانونية والتي تقع في جزيرة بنما بمساعدة بعض عملائها من الساسة والقادة ورجال الأعمال الشهيرين من مختلف دول العالم في تحويل أموالهم إلى الخارج ليتم إدارتها بواسطة شركات تتبع ملكيتها لملاك آخرين كواجهة صورية، وعادة ما يتم اختيار الدولة التي ستقع بها هذه الشركات الوهمية بناءً على سهولة النظام الضريبي بها، وعدم اقتطاعه نسبًا كبيرة من أرباح الشركات، وتعرف هذه الدول باسم الملاذات الضريبية Tax haven، ويوضح الإنفوجرافيك التالي آلية عمل شركة موساك فونسيكا.

المصدر: دويتش فيله العربية.

وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى أن تسريبات بنما لم تكن الأولى من نوعها التي تكشف عن وقائع فساد كبرى، ففي نوفمبر 2014 نشر الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين وثائق تفيد بقيام (جان كلود يونكر) رئيس المفوضية الأوروبية بمنح تسهيلات لشركات عالمية كبرى لمساعدتها في تخفيض ضرائبها، كذلك كشفت تسريبات الأوف شور في عام 2013 عن معلومات تخص 120 ألف شركة من التي تعمل في غسيل الأموال والتهرب الضريبي، ومعلومات عن 12 ألف وسيط، وما يقدر بحوالي 130 ألف عميل لهذه الشركات في 140 دولة مختلفة.

وتلقت صحيفة لوموند الفرنسية في فبراير 2014 تسريبات من الأرشيف الرقمي لأحد البنوك السويسرية الكبرى الذي يمتلك فروعًا في العديد من دول العالم، وقد أفادت هذه التسريبات بأن البنك قد ساعد عملاء من أكثر من 200 دولة على التهرب الضريبي عن طريق حسابات مصرفية تصل قيمتها إلى 119 مليار دولار، وقد شملت هذه التسريبات عددًا من الرؤساء والشخصيات السياسية وبعض الأشخاص المتورطين في عمليات الجريمة المنظمة، وقام بتسريب هذا الأرشيف عن طريق أحد موظفي البنك، وقام بتسليم العدد الأكبر من الوثائق إلى السلطات الفرنسية، فيما تعد هذه الأرقام المعلنة مجرد جزء مما تم تسليمه إلى صحيفة لوموند.

وفي السياق ذاته، قام موقع ويكيليكس منذ عام 2010 بنشر العديد من وقائع فساد في دول مختلفة من العالم، وقد قام بعض المحللين باعتبار ما سربه الموقع عن الفساد في عائلة الرئيس التونسي السابق زين العابدين في أكتوبر 2010 أحد المحفزات لقيام ثورة تونس في ديسمبر 2010.

وقد تكون التسريبات في بعض الأحيان محلية على غرار قضية مرسيدس في عام 2010، والتي بدأت عندما قامت إحدى المحاكم الأمريكية بالتوصل إلى أن بعض المسئولين في شركة مرسيدس قد قاموا بدفع رشوة لعدد من المسئولين في دول مختلفة من العالم ومنها مصر، وعقب هذا قامت بعض الصحف المصرية بنشر تسريبات تتصل بمخالفات تخص هذه القضية، مثل قيام بعض المسئولين بمخالفة قانون المزايدات والمناقصات وإصدار أوامر للشراء بالأمر المباشر.

بيد أن هذه التسريبات قد تُواجَه بالتشكيك في كثير من الأحيان، لا سيما وأن مصدرها قد يكون غير معروف في الغالب، وقد تتعرض للتلاعب والتزوير من بعض الأشخاص أو الجهات، يُضاف إلى ذلك رفض بعض الأشخاص لها تحت دعوى نظرية المؤامرة والاستهداف، كما أن التوظيف السياسي لهذه التسريبات يؤدي عادةً إلى التركيز على شخصية بعينها، مع تجاهل باقي المعلومات الواردة بالتسريبات مهما بلغت درجة أهميتها.

دلالات تسريبات الفساد:

تتعدد الدلالات التي تحملها تسريبات الفساد مؤكدة أن الفساد لم يعد على نفس وضعه السابق، بل أصبح يأخذ أشكالا أكثر تعقيدًا وتطورًا، ومن ثم يجب الإشارة إلى أهم هذه الدلالات فيما يلي:

1- عالمية شبكات الفساد: حيث أصبح الفساد بمثابة شبكة عالمية Global Network تتعدد مصالح المستفيدين منها لتصل إلى خارج إقليم الدولة، وعادة ما يكون هؤلاء المستفيدون من شبكات الفساد من أصحاب النفوذ السياسي والنفوذ الاقتصادي، مما يجعل أي محاولة لتتبعهم والإيقاع بهم يعني التأثير على مصالح العديد من الأشخاص الذين قد يكونون من خارج شبكة الفساد، بيد أن أي إضرار بهؤلاء يعني إضرارًا بمصالحهم، مما يجعل هناك نوعًا من الحماية المجتمعية لهم يمكن أن يطلق عليها “الحماية المصلحية”.

من ناحية أخرى، فإن قدرة الدولة على الإيقاع بكافة أطراف عملية الفساد الذين يقومون بتهديد مصالحها تظل محدودة ومقتصرة في كثير من الأحيان على حدودها، فيما تستمر الشبكة في التوسع ومحاولة جذب فاعل جديد بديل كلما تم الإيقاع بأحد أطراف الشبكة. وعلى سبيل المثال أشارت الوثائق التي تم تسريبها إلى شبكة فساد تضم 12 من القيادات السياسية، وحوالي 61 شخصًا من المقربين من الزعماء، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال والشخصيات العامة، ويمكن من خلال الإنفوجرافيك التالي توضيح شبكة الشركات المتعاونة مع شركة موساك فونسيكا:

المصدر: https://briankilmartin.cartodb.com/me
2- ثغرات النظم الرأسمالية: على الرغم من ادعاءات العديد من الدول بأنها تسعى لإيجاد نظم مالية ومحاسبية تؤدي إلى مكافحة الفساد، فإن هذه الأنظمة لا تزال تعاني من ثغرات متعددة تستغلها شبكات الفساد من أجل تهريب أو إدخال الأموال غير المشروعة، ومن الغريب أن هذه الثغرات عادةً ما توجد في الدول المتقدمة التي يُفترض بها أن تكون أكثر قدرة على صياغة أنظمة مالية ذات شفافية عالية، وممارسة الضغط من أجل إنفاذها. فعلى سبيل المثال يؤكد تقرير فرع منظمة الشفافية الدولية في نوفمبر 2015 أن “بريطانيا تسمح بدخول العديد من مليارات الجنيهات الإسترلينية بطرق متخفية”.

وفي هذا السياق، حذر (نيك ماكسويل) مدير قسم الدعم والأبحاث في فرع المنظمة بالمملكة المتحدة، من إمكانية استغلال الثغرات الموجودة بالنظام البريطاني لإدخال أموال مشبوهة إلى الدولة، ولهذا لم يكن من الغريب أن تحتل جزر العذراء البريطانية المركز الأول كملاذ ضريبي حسبما ورد في تسريبات بنما.

ويُرجع بعض المحللين عدم قيام هذه الدول بتعديل نظمها المالية إلى سعيها للحفاظ على التدفقات المالية القادمة أيًّا كان مصدرها من أجل ضمان استمرار تدفق دورة رأس المال، وعدم حدوث ركود اقتصادي، بالإضافة إلى وجود جماعات ضغط قوية داخل هذه الدول من مصلحتها استمرار تدفقات الفساد، كما أن النظام الرأسمالي يتسامح مع الملاذات الضريبية من أجل أن تستمر هذه الوفورات المالية داخل النظام.

3- تفاوت ردود الأفعال: حيث تلاقي اتهامات الفساد في الدول النامية في كثير من الأحيان تشكيكًا، سواء من جانب الحكومة أو من جانب الأفراد، وذلك على النقيض من الدول المتقدمة. فعلى سبيل المثال بعد تسريب وثائق بنما اضطر رئيس الوزراء الأيسلندي (سيمجموندور غونلونسون) إلى تقديم استقالته بعد خروج عدة مظاهرات ضده أمام البرلمان الأيسلندي مطالبة برحيله، والتحقيق معه، بعد أن أشارت الوثائق إلى إخفائه ملايين الدولارات في أصول عائلية. كما تظاهر المئات من البريطانيين ضد رئيس الوزراء (ديفيد كاميرون) في 9 أبريل 2016 بسبب امتلاك والده إحدى شركات الأوف شور في بنما.

كما جرت تحقيقات بشأن الوثائق في دول مختلفة، ومنها على سبيل المثال: فرنسا، وإسبانيا، والنمسا، وهولندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وصرح المتحدث باسم وزارة العدل الأمريكية في 5 أبريل 2016 بأن وزارة العدل ستقوم بدراسة المعلومات والتحري عنها. فيما اختلفت ردود الفعل كلية في الدول النامية، فلم تقم أي دولة نامية سوى تونس بفتح تحقيقات للتأكد من تورط شخصيات تونسية في الأمر، بل قامت بعض وسائل الإعلام والصحافة بالتشكيك في الأمر، واعتباره مؤامرة من الدول الكبرى لزعزعة الاستقرار، وانتشر هاشتاج على تويتر “وثائق بنما مؤامرة” و”ضد المؤامرات”.

محفزات التكيف مع الفساد:

على الرغم من تعدد تسريبات الفساد التي تكشف سهولة التوصل إلى الفساد وانتهاء عصر الخصوصية، لا يزال الفساد في انتشار مستمر، لا سيما في الدول النامية، ولعل من أهم العوامل الداعمة والمحفزة لانتشاره ومن ثم التكيف معه ما يلي:

1- ثقافة تطبيع الفساد: تعرضت المعايير القيمية للحكم على الفساد للتآكل في ظل تغلغل الفساد في كافة ممارسات الحياة اليومية، سواء على مستوى علاقات الأفراد، أو ضمن التفاعلات المؤسسية، بحيث أصبح جزءًا طبيعيًّا من النسق القيمي للأفراد، وهو ما أدى إلى تراجع اتجاهات وصم الفساد باللا أخلاقية نتيجة تصاعد مستويات التكيف المجتمعي مع الفساد.

2- التشارك في العوائد: أدى ضعف حكم القانون والانتقائية في تطبيق القواعد العامة في الدول النامية إلى اتساع نطاق شبكات المنتفعين من الفساد، بحيث أدى التشارك في العوائد بين عدد كبير من الفاعلين والأفراد بدرجات متفاوتة إلى خلق مصالح قوية في استدامة ممارسات الفساد لدى قطاعات مجتمعية متعددة، وهو ما يُفسر استيعاب المجتمعات للتسريبات، واقتصار ردود الأفعال على الاستنكار محدود النطاق.

3- انتشار اقتصاديات الفساد: يرتبط التكيف مع الفساد في الدول النامية بحالة الضعف الهيكلي التي تعاني منها الدولة، وعدم قدرتها على ضبط التفاعلات المجتمعية، خاصة في بؤر الصراعات الداخلية، وهو ما أدى لتبلور دورات اقتصادية كاملة تقوم على الفساد، بداية من اقتصاديات الصراعات الداخلية التي تقوم على الأنشطة غير الشرعية، والاتجار في المخدرات والبشر والأعضاء والسلاح، وتهريب البترول والآثار، واقتصاديات الحدود القائمة على التهريب، واستغلال المساحات الرخوة في المناطق الفاصلة بين الدول واقتصاديات الهجرة غير الشرعية، وهو ما أدى لتآكل التمايزات القيمية نتيجة غياب المعايير القانونية.

4- صعود العزوف الاجتماعي: على الرغم من استنكار بعض القطاعات المجتمعية خاصة من الشباب لممارسات الفساد فإن هذا الاستنكار اقتصر على السخرية والتهكم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يرجع إلى حالة اللا مبالاة والعزوف السياسي للشباب عقب الثورات العربية التي تسبب انحسارها في تعميق الهوة الجيلية الفاصلة بين الشباب والنخب السياسية والمجتمعية، مع تراجع الآمال في حدوث حراك جيلي في مستويات السلطة ومؤسسات الحكم، بالإضافة إلى أن الثورات العربية قد أدت لتراجع شعبية الاتجاهات الراديكالية في مواجهة الفساد.

5- هيمنة الكيانات التقليدية: تتسم الأبنية المجتمعية في عدد كبير من الدول النامية بتصدر الانتماءات الأولية القبلية والعائلية والطائفية مقارنة بتراجع روابط المواطنة، وهو ما يزيد من التسامح مع الفساد إذا كانت عوائده تفيد المنتمين للقبيلة أو العائلة أو الطائفة وتتسبب في إثرائهم على حساب الدولة، وهو ما يزيد من حالة التآكل في إلزامية القوانين والقواعد التي يتم تطبيقها بصورة انتقائية.

6- تصدر التفكير التآمري: عادةً ما يلجأ المتهمون في تسريبات الفساد لتوظيف الخطاب التعبوي الذي يقوم على وصم الغرب بالتآمر على الدول، ومحاولة تفكيك المجتمع مع التشكيك في مصداقية التسريبات ومصادرها، خاصة وأن أغلب التسريبات تتسم بطابع غير رسمي، وقد تتعرض بعض الوثائق للتلاعب والتعديل من جانب البعض لتوجيه الاتهامات لبعض الأفراد، وهو ما يتم استغلاله لنفي صحة التسريبات، أو استخدامها كقرينة قانونية على التورط في الفساد.

وإجمالا لا يتوقع أن تتسبب التسريبات الأخيرة في إحداث مراجعة سياسية ومجتمعية أو إثارة احتجاجات جماهيرية في الدول النامية للاعتراض على تورط بعض رموز النخب السياسية في التسريبات بسبب تصاعد حالة التكيف مع الفساد في هذه الدول، واتساع نطاق المستفيدين من الفساد، وتزايد مستويات التطبيع الاجتماعي مع الفساد.

منى مصطفى محمد

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية