تمثل قضية تدهور البيئة تحديًا للاقتصاديين, لأنها تلقي الضوء على أهم مجالات فشل السوق في التعبير عن ثروات المجتمع الطبيعية والتي تؤسس القاعدة التي تقوم عليها عمليات النمو الاقتصادي. من أمثلة هذا الفشل مثلا أن الغابة الطبيعية لا تدخل في الحسابات الاقتصادية القومية إلا حين إزالتها وتداول أخشابها في السوق, في حين يتم تجاهل المنافع البيئية التي توفرها الغابة سواء في امتصاص ثاني أكسيد الكربون وصد الرياح والعواصف وتحسين الطقس والتربة عامة, فضلا عن ملايين الكائنات الدقيقة والضخمة التي تقطنها.
من ناحية أخرى يتم إدراج الموارد الطبيعية كالبترول والمعادن المستخرجة من باطن الأرض في الحسابات القومية باعتبارها دخلا قوميا, رغم أنها موارد مستنزفة ستنتهي وتحرم منها الأجيال القادمة. بمعنى أن يستهلك الإنسان رأس ماله ولا يبقي لأبنائنا وأحفادنا نفس الفرص التي لديه, إن لم يكن أفضل, كما تقتضي مفاهيم التنمية المستدامة.
هناك ثمة تناوب بين النمو الاقتصادي والتدهور البيئي, ففي حين يؤدي التدهور البيئي لآثار سلبية على النمو والنشاط الاقتصادي, فإن هذا النشاط نفسه سبب في هذا التدهور. من ناحية أخرى، فإن زيادة التشدد في وضع معايير متشددة للتحكم والرقابة لتخفيف التدهور البيئي ستعمل على كبح النمو وتخصيص الموارد لتمويل سياسات التخفيف, كما أن التراخي في الرقابة على التلوث البيئي سيؤدي بشكل غير مباشر لكبح النمو المستقبلي نتيجة للأضرار الناجمة للتدهور البيئي على أنشطة اقتصادية كالزراعة والسياحة وقطاعات الصحة والبنية التحتية.
إن استنزاف الموارد الطبيعية غير المتجددة هو أحد أشكال تدهور البيئة. ما لم يتم القيام باستثمارات تعويضية تحافظ على رأس المال الطبيعي وتضمن تجدده
أولا: مفهوم البيئة Environment
تشمل البيئة ثلاثة مكونات هي:
• العناصر الطبيعية (Ecology) : وتشمل الماء والهواء والتربة بما فوقها وما تحتها كالمعادن والنباتات الطبيعية والحيوانات وتفاعلاتها الكلية.
• العناصر الصناعية Man made products)): أي كل ما صنعه الإنسان من تكنولوجيا ومصانع وكبار وسفن…إلخ.
• العناصر الاجتماعيةSocial Environment) ): أي المنظومة الثقافية والسياسية والتنظيمية للمجتمعات البشرية.
وانطلاقا من مفهوم تكوين البيئة يمكن تعريفها على أنها مجموعة الموارد الطبيعية والصناعية والاجتماعية المتاحة في وقت معين.
تعريف المعايير البيئية: تعرف المعايير البيئية عامة بأنها شروط يجب توافرها في المنتجات سواء في مدخلات إنتاجها أو المواد المكونة لها أو أساليب إنتاجها أو عبواتها، وكذلك مواصفات محددة لكميات الملوثات الخارجة أثناء الإنتاج وكيفية التعامل معها. وتتخذ هذه المعايير شكلًا تشريعيًا يعتمد إما على الإجراءات الآمرة القائمة على الرقابة والجزاء، أو الإجراءات القائمة على أدوات السوق0
ينقسم التدهور البيئي إلى نوعين:
أولهما استنفاد الموارد الطبيعية غير المتجددة,أي النضوب الكامل لها, وخاصة للموارد المعدنية والوقود الأحفوري. وثانيهما تلوث الموارد الطبيعة المتجددة, كالماء والهواء والأرض. ويشمل الانبعاثات السامة والنفايات والإخلال بالنظم البيئية.
ثانيا : مجالات فشل السوق
يظهر فشل السوق في الاقتصاد البيئي إذا كانت حقوق الملكية المصاحبة للسلع والموارد غير فاعلة أو غير مكتملة. ويعد التدهور البيئي مؤشرًا على فشل السوق الذي ينتج عن الآثار الخارجية المصاحبة للاستهلاك أو لإنتاج أي سلعة. أو نتيجة الإفراط في استخدام الموارد المتاحة بشكل عام.
هناك بعض الجوانب المهملة في الحياة الاقتصادية تفرض نفسها ولم تدخل في صلب التحليل الاقتصادي بعد. أهمها هو عدم اعتبار الموارد الطبيعية أصولًا إنتاجية, فلا تزال هذه الموارد مستبعدة من مفهوم “الاستخدام الأمثل” للموارد. كما أن تعبير “أقل تكلفة”لا يزال يقصد به أقل تكلفة بالنسبة للعوامل الإنتاجية الداخلة في العملية الإنتاجية مباشرة، ولا تؤخذ بالاعتبار الخسائر البيئية والتكاليف الاجتماعية,أي التكاليف على مستوى المجتمع وعلى مستوى الاقتصاد ككل والتي تسمى بالتكاليف الخارجية.
أمثلة على فشل السوق
1 – هل يعقل مثلا أن الغابة الطبيعية لا تدخل في الحسابات الاقتصادية القومية إلا حين إزالتها وتداول أخشابها في السوق, في حين يتم تجاهل المنافع البيئية التي توفرها الغابة سواء في امتصاص ثاني أكسيد الكربون وصد الرياح والعواصف وتحسين الطقس والتربة عامة, فضلا عن ملايين الكائنات الدقيقة والضخمة التي تقطنها.
2 – لا تحتسب تكلفة زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يتسبب بارتفاع درجة حرارة الأرض ولا تحسب أيضًا تكلفة زيادة غازات الكلورفلوركربونات وأول أكسيد الكلور التي تتسبب في ثقب طبقة الأوزون.
3 – وهل من المعقول أن يتم إدراج البترول والغازوالخامات الطبيعية والمعادن المستخرجة في الحسابات القومية باعتبارها دخلا قوميا, في حين أنها ريع ناجم عن موارد مستنزفة من رأس المال الطبيعي غير المتجدد، والتي ستنتهي يوما ما وتحرم منها الأجيال القادمة. فطبيعة الدخل تقتضي كونه متجددا في كل فترة زمنية, فهل من الرشادة أن يستهلك الإنسان رأس ماله ويعتبر ذلك تدفقا للدخل؟
إن استنزاف هذه الموارد الطبيعية غير المتجددة هو أحد أشكال تدهور البيئة. وما لم يتم القيام باستثمارات تعويضية تحافظ على رأس المال الطبيعي وتضمن تجدده، فإن النمو المستند إلى الموارد الطبيعية لن يكون متواصلًا ولا طويل الأجل.
أمثلة على التكاليف الاجتماعية للتدهور البيئي:
1- نقص التنوع الحيوي: بمعنى انخفاض حصيلة ونوعية الصيد السمكي في البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات. وانقراض العديد من الكائنات نتيجة انهيار النظم البيئية الطبيعية التي تعيش فيها. وهو ما يؤثر بشكل خاص على خصوبة التربة والإنتاج الزراعي على المدى البعيد.
2- الأضرار الصحية الناجمة عن التلوث, مثل القمامة وتلوث مياه الشرب وسوء الصرف الصحي.
3- الآثار السلبية على السياحة والانخفاض النوعي لأهمية وقيمة مناطق الاستجمام والراحة.
4- انخفاض قيمة المساكن وإيجاراتها بسبب الضوضاء وسوء المناظر والتلوث المادي والمعنوي.
يعني الاقتصاد البيئي بكيفية تأثير النشاط الاقتصادي والسياسي على البيئة التي نعيش فيها. وكيفية تأثير معايير حماية البيئة على النمو الاقتصادي, أي الآثار الاقتصادية للسياسات البيئية
ثالثا: الاقتصاد البيئي
ويقصد به دراسة كيفية حماية البيئة بأقل التكاليف الماديةُ. ويعنى الاقتصاد البيئي بكيفية تأثير النشاط الاقتصادي والسياسي على البيئة التي نعيش فيها. ومن ناحية أخرى كيفية تأثير معايير حماية البيئة على النمو الاقتصادي, أي الآثار الاقتصادية للسياسات البيئية. فهي علاقة متبادلة بين الاقتصاد والبيئة, فالنشاط الاقتصادي يؤدي لتدهور البيئة, كما أن تدهور البيئة يؤثر بدوره سلبيا على النمو الاقتصادي بعيد المدى.
حيث تقدم البيئة للاقتصاد الموارد الطبيعية التي تتحول عبر عملية الإنتاج والطاقة إلى سلع استهلاكية، ثم تعود هذه الموارد الطبيعية والطاقة في النهاية إلى البيئة في صورة مخرجات غير مرغوبة. كما يتلقى المستهلكون أيضًا خدمات بيئية مباشرة كالهواء النقي والمياه العذبة والسياحة والصيد والرحلات، وفي النهاية يستخدمون البيئة كمستودع للتخلص من المخلفات الناتجة عن استهلاك السلع والخدمات، وبالتالي توصف العلاقة بين البيئة والنظام الاقتصادي بأنها نظام مغلق.
وينظر للبيئة في علم الاقتصاد على أنها أصل رأسمالي مركب، ولذلك يرغب الاقتصاديون في منع أي تدهور يمكن أن يحدث لقيمة هذا الأصل الرأسمالي المركب حتى يستطيع الاستمرار في توفير خدماته للإنسان لأطول فترة ممكنة بنفس الكفاءة.لذا فهو يعني بالدراسات النظرية والتجريبية للآثار الاقتصادية للسياسات البيئية في جميع أنحاء العالم. وتشمل القضايا الخاصة تكاليف ومنافع السياسات البيئية البديلة لمعالجة تلوث الهواء والمياه والتربة، وحماية التنوع البيولوجي والاحترار العالمي.
لقد أدى مزج البعد البيئي بالإطار الاقتصادي إلى تغير مفهوم التنميةالاقتصادية من مجرد زيادة استغلال الموارد الاقتصادية النادرة لإشباع الحاجات الإنسانية المتعددة والمتجددة إلى مفهوم “التنمية المستدامة ” والتا تعرف بأنها التنميةالتي تفي باحتياجات الحاضر دون التعدا على حق الأجيال القادمة في تحقيق متطلباتهم، فالتنمية المستدامة لا تعني التوقف عن استغلال الموارد الاقتصادية مثل المياه والنفط والغابات، ولكنها تؤكد على حقوق الأجيال القادمة في هذه الموارد، وخاصة إذا كانت موارد قابلة للنضوب أو غير متجددة كالنفط مثلًا, بحيث ينبغي تعويضهم عما يستنفده هذا الجيل منها.
تكمن أهمية الاقتصاد البيئي في حقيقة أن كل الأنشطة الاقتصادية التي يقوم بها الإنسان ترتبط بالبيئة التي تقدم جميع أنواع الموارد, والتي تُلقي بها كل ملوثات الأنشطةالبشرية. لذلك من الضروري تقدير أهمية المنتجات والخدمات التي تقدمها لنا الأنظمة البيئية على الأرض للحفاظ على استدامة الموارد والطاقة دون الإخلال بتوازن البيئة الطبيعية. والنظر إلى الموارد البيئية على أنها أصول أساسية للاقتصاد العالمي ينبغي حمايتها.
ويقوم الاقتصاد البيئي باستكشاف فشل السوق في تقييم المكونات البيئية الطبيعية, والتأثيرات الخارجية وحقوق الملكية, والنظر إلى البيئة على أنها من الأصول الرأسمالية. وعلى سبيل المثال فإن المشكلات المعتادة التي قد يواجهها الاقتصاد البيئي هي كيفية تأثير الالتزام بحماية البيئة وبالمعايير البيئية على تكاليف الإنتاج، ومن ثم على النمو الاقتصادي والتنافسية الإقليمية في حالة تطبيقها.
العلاقة بين الاقتصاد والبيئة
(1) يرتكز مفهوما علم الاقتصاد والبيئة على عنصر الموارد.
(2) الهدف النهائي لعلم الاقتصاد هو إشباع الحاجات الإنسانية المتعددة والمتجددة, وهذا الإشباع لن يتحقق إلا من خلال سلامة الموارد البيئية.
(3) السلوك الإنساني هو المتسبب الأساسي في التدهور البيئي, لذا يهتم علم الاقتصاد بموضوع التدهور البيئي نظرًا للآثار الاقتصادية المترتبة عليه.
(4) تتمثل المشكلة الاقتصادية في الندرة النسبية للموارد ويعمق هذه الندرة استنزاف الموارد غير المتجددة وتلوث المتجددة منها, ومن ثم فإن إدارة البيئة لا يمكن أن تنفصل عن مجال علم الاقتصاد.
(5) علم الاقتصاد البيئي يهتم بموضوعين أساسيين:
(أ) تحديد الآثار الاقتصادية للتدهور البيئي.
(ب) استخدام الأدوات الاقتصادية للحد من التدهور البيئي.
أهمية علم اقتصاد البيئة
علم اقتصاد البيئة يقيس بمعايير التواصل والاستدامة Sustainability )) مختلف جوانب الحياة الاقتصادية لحماية توازنات النظم البيئية لضمان نموًا مستديمًا.
• مبررات تطوير حسابات اقتصادية بيئية:
1- ضرورة وجود معلومات كاملة عن الموجودات والموارد البيئية والتغيرات التي تطرأ عليها وعن الخسائر في الموجودات البيئية,وخاصة وأن الموارد البيئية أصبحت نادرة,ومشكلة البيئة هي مشكلة ندرة بالمعنى الواسع.
2- معرفة وتقويم العلاقات المتبادلة بين النشاط الاقتصادي والبيئة,والتعرف على تأثير النشاط الاقتصادي في موجودات البيئة وتأثير المنتجين والمستهلكين على البيئة من جهة, والتأثير العكسي من جهة أخرى, أي التعرف على تأثير التغيرات البيئية في النشاط الاقتصادي.
3-الحاجة لهذه الحسابات كأداة مساعدة في اتخاذ القرارات الاقتصادية بل حتى السياسية .
وذلك وصولا إلى التنمية المستدامة التي تحقق نموًا اقتصاديًا متعددًا ومتنوع المصادر مع استخدام الموارد وإدارتها بشكل يفي باحتياجات الحاضر, ولا يجور على حقوق واحتياجات الأجيال القادمة,بما يضمن لها الاستمرار بحياة كريمة.
تطور الاقتصاد البيئي:
كان المفهوم الكلاسيكي لا يأخذ الجانب البيئي بعين الاعتبارفي النشاط الاقتصادي، فالاستخدام الأمثل للموارد وفق المفهوم الكلاسيكي للنمو الاقتصادي، يعني الموارد التي تقيم نقديا في السوق، وتستخدم في العملية الإنتاجية، ولا تعتبر الموارد الطبيعية أصولا إنتاجية. وبالتالي لا تدخل ضمن إطار الاستخدام الأمثل، ولا تزال الموارد الطبيعية مستبعدة من الاستخدام الأمثل ولا تأخذ بعين الاعتبار الخسائر البيئية والتكاليف الاجتماعية، أي التكاليف على مستوى المجتمع، وعلى مستوى الاقتصاد ككل، والتي تسمى بالتكاليف الخارجية. فعند إنتاج منتج صناعي مثلا، لا يحسب ضمن بنود التكلفة على سبيل المثال: كم طنا من الأسماك قد دمر في البحيرة؟ أو في البحر المجاور، أو كم شخصا تضرر ومرض نتيجة الغازات والغبار المنطلق؟ وكم سيكلف علاجهم وما خسائر الإنتاج الناجمة عن التوقف عن العمل بسبب المرض؟
لقد فشلت مدارس الفكر الاقتصادي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي في تناول القضايا البيئية الخاصة بالإنتاج والاستهلاك مثل تخصيص الموارد والآثار البيئية والتلوث لأنها نظرت إلى تلك القضايا على أنها قضايا اجتماعية بحتة. وقد ترتب على إهمال البعد البيئي من جانب المؤسسات والحكومات أن زاد مستوى الضرر البيئي والتلوث حول العالم, واستنزاف الموارد غير المتجددة.
ومن هنا ظهرت المبادئ والسياسات البيئية كاستجابة لدمج المشكلات البيئية وتضمينها بالاقتصاد مثل مبدأ “الملوث يدفع” ومبدأ سيادة الدولة والبيئة الدولية والمبدأ الوقائي والاحترازي ومبدأ التنمية المستدامة.
وأصبح للاقتصاد البيئي حاليًا دور مهم في مواجهة القضايا البيئية المعاصرة على كلا المستويين الدولي والوطني. ومن الضروري فهم الأسباب والتبعات الناتجة عن سوء استخدام الموارد البيئية والتدهور البيئي والتلوث وتغير المناخ. يعد الاقتصاد البيئي الجزء الرئيسي في عملية إعداد سياسات بيئية حول العالم.
الأسئلة المحورية في الاقتصاد البيئي
1- إذا كانت حماية البيئة مكلفة، فكم ينبغي أن ننفق على مكافحة التلوث؟
2- هل يتحتم علينا تقبُّل درجة معينة من التلوث بسبب المنافع الاقتصادية المرتبطة به؟
3- كيف يتسنى لنا تقييم المنافع التي يُحصِّلها الناس من بيئة أقل تلوثًا؟
4- ما الصورة التي يجب أن تخرج بها السياسات والمعايير البيئية؟
1- هل يجب أن نتبنى معايير بيئية إجبارية أم معتمدة على السوق، أي باستخدام ضرائب وغرامات التلوث أو تراخيص الانبعاثات لحفز الإنتاج والاستهلاك “النظيفَيْن“؟
فشلت مدارس الفكر الاقتصادي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي في تناول القضايا البيئية الخاصة بالإنتاج والاستهلاك، لأنها نظرت إلى تلك القضايا على أنها قضايا اجتماعية بحتة
رابعا: الطلب على نوعية البيئة
يختلف الطلب على نوعية البيئة اختلافًا جوهريًا عن الطلب على معظم السلع والخدمات للأسباب التالية:
1- معظم المنتجات التي يستهلكها الفرد خاصة يتمتع بحق ملكيتها ومن ثم يستبعد الآخرين من الحصول على منافع منها.
2- السلع العامة مثل الهواء والشمس فلا يمكن للفرد الحصول على حق امتلاكها وحده ولا يحق له استبعاد أي شخص من الانتفاع بخدماته.
3- التكلفة الحدية لتوفير السلع العامة إلى شخص آخر إضافي تساوي صفرا، في حين تكون تكلفة استبعاد أي شخص من استهلاك هذه السلعة عالية جدا.
4- تعتبر نوعية البيئة سلعة عامة فإذا تم توفير الهواء النقي لأحد الأشخاص في منطقة ما فإنه سيتوفر بالتساوي للأشخاص الآخرين داخل نفس المنطقة.
1- أصبح الهواء النقي سلعة غير متاحة للجميع نتيجة التلوث، وبالتالي يتكلف الإنسان كثيرًا للحصول عليه في المناطق الخلوية والشواطئ.
تقييم رأس المال الطبيعي
في ظل التخلف التكنولوجي لم يكن ينظر إلى نضوب الموارد كمشكلة خطيرة. فكان السعي لاستنزاف المزيد والمزيد من الموارد الطبيعية, ولكن مع التطور التكنولوجي لم يعد توافرالسفن والشباك المجهزة الأحدث هي القضية الأهم, وإنما أصبحت القضية الأهم هي كميات الأسماك في المياه, بعد الصيد الجائر الذي حدث لها سعيا وراء تراكم الأرباح ورؤوس الأموال, دون القلق على استنزاف موارد الطبيعة, وحرمان الأجيال القادمة من أبنائنا وأحفادنا من خيرات الطبيعة المتاحة لنا الآن.
ولكن المأخذ هنا هو أن مبدأ الاستعاضة محدود, لأن رأس المال الطبيعي يمكن أن يستثمر في مجالات عديدة، في حين أن رأس المال الذي يجمعه الإنسان يفتقر إلى مثل هذه الصفة. ولا يمكن مقايضة المصادر البيئية بموارد اصطناعية أوجدها الإنسان لأسباب أخرى، خاصة وأنه لا توجد بدائل اصطناعية لكثير من الأصول البيئية.
كذلك رأس المال البيئي يتميز بأنه لو أتلف لكان قد فقد إلى الأبد، وذلك على عكس رأس المال الاصطناعي والذي يمكن إعادته بعد إتلافه. إضافة إلى أن فهم الإنسان لفعل الطبيعة فهم محدود، وبالتالي فإن خفض رصيد رأس المال الطبيعي يعتبر إستراتيجية محفوفة بالمخاطر.
خامسا: العلاقة المتبادلة بين الفقر والبيئة
الفقر هو سبب أساسي ونتيجة حتمية لتدهور البيئة. حيث يؤدي تدهور البيئة لتفاقم حدة الفقر من خلال:
1- تفاقم المشاكل الصحية: فالفقراء أكثر معاناة من التلوث وتدهور الموارد من الأغنياء. لأن الفقراء لايستطيعون حماية أنفسهم من تلوث المياه بما تحمله من أمراض معدية.هناك مليار نسمة في الدول النامية لايستطيعون الوصول لمياه شرب نقية. وملياران ليس لديهم صرف صحي ملائم.
2- يقضي الفقراء في الغالب وقتا أطول في الشوارع, لذا فهم أكثر تعرضا لتنفس هواء ملوث بعوادم السيارات والمصانع وحرق المخلفات الزراعية ونفايات البيوت. أيضا داخل المنازل (خاصة في الريف) فغالبا ما يقومون بالطهو بوقود رخيص كالخشب أو روث البهائم أو مخلفات المحاصيل, فيتنفسون أدخنة خطيرة, ويشربون من طلمبات مقامة قرب حظائر الماشية, فيتسرب إليها مياه جوفية ملوثة عضويا وكيماويا من المبيدات والأسمدة.
3- تدني الإنتاجية: غالبا ما تتعرض أراضي الفقراء للتعرية وانخفاض إنتاجيتها, وحيث إنها هي مصدر رزقهم, فإنهم يتعرضون لتدني مستويات الاستهلاك والتغذية. كما يقل دخل الفقراء بتحويل وقت أكبر لسد احتياجاتهم الملحة مثل جمع النباتات والحيوانات الغذائية والبحث عن الوقود ومواد البناء.
4- عندما يشتد الجفاف بفقراء أفريقيا ويقضي على مستجمعات المياه ويستنزف التربة, وتهلك الحيوانات الداجنة, وأغلب مظاهر الحياة, حينئذ يهاجر الفقراء لدول مجاورة غالبا ماتكون فقيرة أيضا, فيشكلون المزيد من الأعباء عليها وعلى المجتمع الدولي كله, لحاجاتهم السريعة للمأوى والغذاء, وهذه الظاهرة تشكل كارثة بيئية تؤرق ضمير البشرية.
أما التأثير العكسي للفقر على البيئة فيندرج تحت عنصرين:
1- ارتفاع المعدل الاجتماعي للتفضيل الزمني: ويعرف بأنه ” القيمة الإضافية التي يحددها الناس للاستهلاك اليوم بدلا من المستقبل” وهو الذي يحدد سعر خصم المستقبل, والذي يحدد بدوره الوزن الذي يضعه المجتمع للحاضر مقابل المستقبل, ويرتفع هذا المعدل لدي الفقراء, حيث يصعب على من يكافح للرزق يوما بيوم عند حد الكفاف أن يفكر في المستقبل, فعندما لايجد الفقير قوت يومه بسهولة, فلن يضع خططا للاستثمار المستقبلي, في حماية التربة (بإراحتها أو بتنويع المحاصيل) مثلا. فيحدث الاستنزاف السريع للنترات وتفقد خصوبتها.
2- نقص الوعي بالأساليب الحديثة وضعف فاعلية برامج الإرشاد الزراعي, وانخفاض كفاءة خدمات الائتمان والتأمين يؤدي لافتقاد الفلاحين للإحساس بالأمان في المستقبل, وهو ما يدفعهم للإفراط في استنزاف الموارد الطبيعية المتاحة أمامهم.
3- إن الفقر وانخفاض الدخل هو السبب الجذري لتلويث مياه الشرب, خاصة في ظل عدم كفاية الصرف الصحي. كما أنه أيضا السبب في تلوث الهواء بالمنازل والشوارع بالقمامة.
هناك مليار نسمة في الدول النامية لايستطيعون الوصول لمياه شرب نقية. وملياران ليس لديهم صرف صحي ملائم
سادسا: الآثار البيئية لسياسات التكيف الهيكلي
ماهية سياسات التكيف
شهدت الدول النامية انخفاضا حادا في معدلات نموها التي أصبحت سالبة أحيانا في بداية الثمانينات نتيجة السياسات الانكماشية بالدول الغربية التي رفعت معدلات الفائدة بها لكبح التضخم, مما أرهق الدول النامية التي عجزت عن سداد ديونها وخدماتها, وواجهت صعوبات في موازين مدفوعاتها بسبب تذبذب أسعار السلع الزراعية الناجم عن الدعم والإعانات التي قدمتها الدول الأوربية لمزارعيها, وهو ماجعل منتجاتهم أرخص من الواردات من الدول النامية, فزادت الأعباء عليها ولجأت للمانحين الأجانب وخاصة صندوق النقد الدولي الذي وضع لها برامج تستهدف أساسا تمكينها من خدمة ديونها. واشترط لمساعدة هذه الدول ماليا أن تنتهج سياسات للإصلاح والتكيف الهيكلي لتخفيف الضغط على النقد الأجنبي عن طريق خفض الطلب المحلي, ومكافحة التضخم وخفض الواردات مع تحرير التجارة وخفض قيمة العملة المحلية على أمل زيادة الصادرات وجعلها تقود النمو بسياسات انكماشية تزيد من معاناة الفقراء.
آثار برامج التكيف على البيئة
1- أدى إضعاف قدرة الدولة وتحجيم دورها في عمليات التنمية, لضعف قدرتها على وضع المعايير والسياسات اللازمة لحماية البيئة وتمويل برامج مراقبة التلوث, مما أثر سلبيا على زيادة التدهور البيئي وخاصة استنزاف الموارد الطبيعية.
2- أدي التقشف وخفض الإنفاق الحكومي وخفض الأجور والاستثمارات في القطاعين العام والحكومي لانخفاض الدخول الحقيقة للعاملين فيه وانضمام الكثير منهم لقوافل الفقراء. تضافر ذلك مع البطالة وسوء توزيع الدخل, وكذلك انخفاض الإعانات الغذائية والصحية لزيادة حدة الفقر وانتشاره مما أثر سلبيا بالضرورة على البيئة.
3- أدى ارتفاع معدل الفائدة لمحاولة المنتجين تعظيم العوائد الحالية على حساب الاستثمار المستقبلي, وهو ما عجل أيضا من استنزاف الموارد الطبيعية.
4- عملت برامج الخصخصة على عدم تفعيل الأسعار الاجتماعية لاستخدام الموارد, وهي الأسعار التي تعكس تكلفة الفرصة التي تسهم في التنمية المتواصلة المستدامة.
سابعا: هجرة الصناعات الملوثة
بدأ تشديد المعايير البيئية في الدول المتقدمة منذ بداية السبعينيات, وهو مافرض مزيدا من التكاليف على الأنشطة الاقتصادية. واحتدم الجدل حول تأثير هذه المعايير البيئية التي انتهجتها الدول المتقدمة على تنافسية صادرات هذه الدول من ناحية, وعلى نوعية وسلامة البيئة بدول أخرى.
فإذا قامت إحدى الدول أو مجموعة دول بتشديد المعايير البيئية بها, فهل ستتأثر بيئة دولة أخري نتيجة التغير في التخصص الدولي؟ وما شكل هذا التغير؟ وهل ستتغير أنماط التنافسية الدولية؟
تشير نظرية هكشر-أولين إلى أن الدول التي يتماثل فيها كل من الطلب والتكنولوجيا, عندما تمتلك إحداها وفرة طبيعية في عنصر إنتاجي معين بشكل أكثر من الآخرين, فإنها ستقوم بتصدير السلع التي يتطلب إنتاجها كثافة في استخدام هذا العنصر. فإذا كان تراخي السياسة البيئية في دولة سيقلل من تكلفة استغلال البيئة ومواردها الطبيعية كالطاقة والمعادن, ويقلل أيضا من تكلفة تلويث الأنشطة الاقتصادية للماء والهواء, حينئذ سيزيد عرض الموارد البيئة بسبب انخفاض تكلفتها. وفي نفس الوقت سيعمل انخفاض مستويات الدخول والتفضيلات الاجتماعية على انخفاض الطلب على البيئة النظيفة, أي يؤثر كل من عنصري العرض والطلب على تخصيص الموارد والأسعار النسبية للمنتجات القابلة للتجارة الدولية, وبالتالي تتأثر أنماط التنافسية.
ظاهرة ملاجئ التلوث
تجتذب الدول النامية الأنشطة الأكثر اعتمادا على الموارد الطبيعية وخاصة تلك كثيفة استخدام الطاقة, وتلك الأكثر تلويثا للبيئة, بسبب تراخي المعايير البيئية بهذه الدول، مما يؤدي لخفض تكاليف إنتاجها. أما في الدول المتقدمة فإن ارتفاع التكاليف البيئية الناجم عن تشديد المعايير البيئية بها قد يقلل قدرتها التنافسية على إنتاج وتصدير السلع كثيفة التلوث, بما ينعكس على زيادة وارداتها وانخفاض صادراتها من هذه السلع.
على الجانب الآخر فإن تحرير التجارة وخفض القيود على الواردات سيعمل على خفض مخرجات هذه السلع كثيفة التلوث بالدول المتقدمة, وبالتالي خفض الملوثات المصاحبة لإنتاجها. وبالطبع سيتم تصدير هذا التلوث للشركاء التجاريين, أي الدول النامية. وهو مايعني ببساطة أن الدول النامية ستمتص جزءا من التكاليف الاجتماعية للتلوث التي تحدث في الدول المتقدمة, وذلك من جراء توطين إنتاج هذه السلع بها, وهو ما يعرف بظاهرة ملاجئ التلوث.
ما الصناعات كثيفة التلوث؟
1- التعريف الأول: “هي تلك الصناعات التي تنخفض فيها مرونة الإحلال بين استغلال البيئة وعناصر الإنتاج الأخرى”، ومعناه أنها تلك الصناعات التي يصعب فيها خفض مدخلات إنتاجها غير المتجددة كالطاقة والمعادن, أو الحد من إساءتها للبيئة بانبعاثاتها وتدفقاتها الملوثة. وإحلال كل ذلك بعناصر الإنتاج الأخرى المعروفة كالعمل ورأس المال والتكنولوجيا.
2- التعريف الثاني: “هي تلك الصناعات التي تزيد فيها نسبة ( نفقات مكافحة التلوث / إجمالي تكاليف الإنتاج ) عن نحو 2%. وهو تعريف يعتمد على قياس الإنفاق على مكافحة التلوث.
وبناءا على التعريف الثاني تكون أقذر الصناعات هي: الإسمنت – صناعة اللب والورق – تكرير البترول – الكيماويات العضوية – غير العضوية – الأسمدة – الجلود – الحديد والصلب – المعادن غير الحديدية كالألومنيوم والنحاس – الفخار والسيراميك.
تطور ظاهرة ملاجئ التلوث
منذ مؤتمر ستوكهولم سنة 1971م ظهرت الموجة العالمية الأولي للاهتمام بالبيئة, وبدأت أغلب الدول النامية في تشديد المعايير البيئية بها وتطبيق سياسات بيئية أكثر حزما, وهو ما أدي لتزايد تكاليف الإنتاج بشكل عام, وبشكل خاص تلك السلع كثيفة التلوث. وهو مادفع البعض للمطالبة بنقل هذه الصناعات للدول النامية التي لا تزال البيئة فيها نظيفة نسبيا, بعكس الدول المتقدمة التي تفاقم فيها التلوث الصناعي.
وأوصى الكونجرس الأمريكي بنقل المراحل الأولى لصناعة النحاس بالذات للدول النامية بسبب ارتفاع تكاليف التحكم في التلوث الناجم عنها. ويبدو أن تلاحق الأحداث بعد ذلك قد دفع بالدول المتقدمة لنقل المراحل المبكرة لتجهيز الخامات في الصناعات المختلفة للدول النامية, باعتبارها أكثف المراحل تلويثا للبيئة. حيث يزيد فيها حجم ووزن النفايات, وعادة ماتحتاج لمساحات كبيرة لتخزين الكتل الضخمة من الخامات في مكان إنتاجها. كما تستخدم هذه الصناعات أيضا الطاقة بشكل أكثر كثافة في المراحل التالية والمتقدمة من تصنيع الخامات. لأن عمليات الإعداد الأولى للمواد الخام كالحديد والألومنيوم عادة ما تتطلب معدلات ضخمة من درجات الحرارة والضغط والقدرة الميكانيكية.
منذ مؤتمر ستوكهولم سنة 1971 ظهرت الموجة العالمية الأولى للاهتمام بالبيئة, وبدأت أغلب الدول النامية في تشديد المعايير البيئية بها وتطبيق سياسات بيئية أكثر حزما
الطرح النظري
تعرف القدرة الاستيعابية للبيئة بأنها” قدرة المكونات الطبيعية للبيئة على تحمل وتدوير الملوثات وامتصاص التدهور البيئي عامة”.
• وجهة نظر الاقتصاديين:
كانت النظرة الاقتصادية لهجرة الصناعات القذرة هي الاستجابة الملائمة والفاعلة لاختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية بين الدول, وهو ما يعني اختلاف المعايير البيئية بين الدول طبقا للقدرة الاستيعابية لبيئة كل منها. وهذا الاختلاف سيعمل على اختلاف تكاليف الالتزام البيئي, مما سيحدث تغيرات في أنماط توطن المشروعات وتدفقات رأس المال وللتكنولوجيا للاتجاه نحو موازنة التكلفة الاجتماعية مع المنفعة الاجتماعية على المستوى الدولي, وهو ما يؤول في النهاية لزيادة الرفاهية العالمية وتحسن كفاءة استخدام البيئة العالمية.
من ناحية أخرى فإن تحرير التجارة والضغوط التنافسية ستؤدي إلى أمرين:
(1) باعتبار أن القدرة الاستيعابية للبيئة في دولة ما تمثل أحد مكونات الميزة النسبية, فبالتالي يمكن للدول النامية ذات القدرة الأكبر نسبيا أن تتخصص في صناعات أكثر تلويثا للبيئة نسبيا, بسبب قدرة بيئتها على امتصاص وتدوير الملوثات بشكل أسرع من الدول المتقدمة.
(2) في الدول المتقدمة سيتسارع معدل انسحاب المعدات والأساليب الإنتاجية الأقدم والأكثر كثافة في التلوث, وسيتم التعجيل بالاستثمار في تكنولوجيات جديدة أنظف وأكثر كفاءة في خفض تكاليف الإنتاج متضمنة تكاليف الالتزام البيئي اللازمة لمواجهة المعايير البيئية بعد تشديدها. وستعمل المنافسة العالمية وتكامل الأسواق على نقل التكنولوجيا الأنظف للدول النامية, ولكن على المدى الطويل.
• وجهة نظر البيئيين
رفضت الجماعات البيئية هذا السيناريو, ووقفت موقفا مناهضا لهجرة الصناعات القذرة للدول النامية بدعوى أن البيئة لا تزال بكرا فيها, وذلك لما يلي:
(1) رغم الإقرار باختلاف القدرات الاستيعابية لمختلف البيئات, فما من سبب قوي للاعتقاد بأن الدول النامية تتمتع بالضرورة بوفرة بيئية مقارنة بالدول المتقدمة. بل غالبا ماتتصف النظم البيئية بالدول النامية بالهشاشة وانخفاض قدراتها الاستيعابية نتيجة ارتفاع درجة الحرارة وقلة التنوع الحيوي, وهو مايقلل من قدرة الأنهار والبحيرات على تدوير المخلفات بسبب انخفاض الأكسجين المذاب بها, فتقل قدرتها على التنقية الذاتية من ملوثات عمليات الإنتاج. كما يمكن لارتفاع الحرارة أيضا أن يقلل من قوى الرياح فتنخفض قدرة الهواء على استعادة حيويته وامتصاص الانبعاثات الضارة.
(2) يمكن للتطور التكنولوجي أن يغير في القدرات الاستيعابية للبيئات المختلفة لإمكانية إحلال الموارد الطبيعية بمواد اصطناعية بالدول المتقدمة. ومع تخلف الدول النامية في التكنولوجيا والبنية التحتية والمرافق العامة والخدمات الصحية, فسوف تتفاقم وطأة التلوث الصناعي عما بالدول المتقدمة.
(3) عندما لا يتم تحميل الأضرار البيئية بالكامل على تكاليف الإنتاج, فلن تحدث التجارة الدولية طبقا للميزة النسبية الاجتماعية للدول. وعليه فإن تحرير التجارة سيعمل على زيادة الإسراف في إنتاج واستهلاك السلع القذرة بالدول النامية. ومع زيادة الدخول سيزيد التحول في ميزتها تجاه هذه السلع, حيث يعيد تحرير التجارة توزيع الإنتاج طبقا للميزة النسبية بصرف النظر عن قدرة أو استعداد الدول لقبول الأضرار البيئية من خلال القدرة الاستيعابية للبيئة, أو من خلال تفضيلات المواطنين.
مخاطر هجرة الصناعات كثيفة التلوث:
• على الدول المتقدمة:
تحدث بها زيادة في معدلات البطالة ونقص التشغيل: ذلك أن زيادة تكاليف الإنتاج نتيجة تشديد المعايير البيئية لن يقتصر تأثيره على الصناعات القذرة فقط, بل سيمتد بعدها مباشرة لتلك الأنشطة التي تستخدم مخرجات هذه الصناعات كمدخلات خام أو وسيطة.
بل إن زيادة تكاليف إنتاج صناعات تقوم على الموارد الطبيعية ستؤثرأيضا على منحنيات إنتاج واستخراج المعادن من المناجم, وكذلك على نمو وإنتاج قطاعات الزراعة وصيد الأسماك والغابات، وهكذا تتضخم التكاليف الاجتماعية للمعايير من وجهة نظر الاقتصاد الكلي, حيث ستؤدي لضغط الاستثمار الإنتاجي, مما سيحجم فرص التوظف, وبالتالي يبطئ معدل النمو الاقتصادي.
• على الدول النامية:
ستصبح الدول النامية ملاجئ للتلوث ( Pollution Haven ) ليس فقط برحيل الاستثمار الأجنبي المباشر في الصناعات القذرة إليها, بل أيضا بانتقال التكنولوجيات القديمة الأكثر تلويثا للبيئة إليها من الدول المتقدمة. لأن تشديد المعايير البيئية بالدول المتقدمة سيقلل الطلب على هذه التكنولوجيات, فتنخفض أسعارها, ومن ثم تزداد جاذبيتها للرأسماليين بالدول النامية, فيجعلهم يتوسعون في صناعات كثيفة التلوث. خاصة عندما تقوم الدول المتقدمة بتسهيل عمليات نقل التكنولوجيات الأقدم والأكثر تلويثا بأسعار مخفضة, مع فتح أسواقها أمام منتجات الدول النامية من السلع كثيفة التلوث. وتتفاقم المشكلة عندما ترتفع أسعار التكنولوجيا الأحدث والأنظف صديقة البيئة, بما يثقل كاهل الشركات بالدول النامية خاصة الصغيرة والمتوسطة, والتي يمثل إنتاجها النسبة العظمى من إجمالي إنتاج الدولة النامية.
لهذه الأسباب ترى الجماعات والأحزاب البيئية خطرا يتهدد البيئة العالمية من جراء هجرة هذه الصناعات القذرة من دول اضطرتها ضغوط الأحزاب البيئية القوية فيها لتشديد المعايير البيئية, فتكون النتيجة أن تفرض هذه الحكومات على عمالها أن يدفعوا مقابل إهمال حكومات أخري لاتهتم بالبيئة لديها. ويفقد العمال في الدولة المتقدمة وظائفهم في هذه الصناعات التي تهاجر للدول النامية. وذلك بدلا من إعادة التوزيع العالمي لعوامل الإنتاج طبقا للمعايير البيئية الأكثر حزما.
ثامنا : آثار تحرير التجارة على البيئة
الآثار المباشرة:
1- من الواضح أن تحرير التجارة سيدفع الدول النامية إلى تخفيف المعايير البيئية لديها بهدف جذب الاستثمارات المباشرة إليها, والتي ستأتي للاستفادة من انخفاض تكاليف الإنتاج بهذه الدول نتيجة لتراخي المعايير بها.
2- سيؤدي التحرير لزيادة استنزاف موارد غير متجددة, كالبترول والغابات, لاعتماد الدول النامية على تصديرها.
3- ستزيد الانبعاثات الملوثة للماء والهواء نتيجة زيادة حركة النقل بالسيارات والسفن.
4- زيادة فرص التجارة في المواد الخطرة, وفي الكائنات المهددة بالانقراض, كالنمور وعاج الأفيال.
5- تزداد احتمالات حدوث كوارث النقل البري (كالاصطدامات), أو الجوي (كسقوط الطائرات), أو البحري ( كانسكاب ناقلات البترول) وما يسببه ذلك من أضرار فادحة على البيئة والكائنات البحرية والطيور.
الآثار غير المباشرة:
في عام 1993، وفى إطار النقاش الدائر حول (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية) النافتا، حاول كل من جروسمان وجروجر وصف آثار العولمة الاقتصادية على البيئة. وتمكن هذان الاقتصاديان من تحديد ثلاثة آثار رئيسية لتدويل التبادل التجاري:
• أثر تركيبي:
ويعني أن تحرير التجارة سيعيد توزيع الموارد طبقا للميزة النسبية فيغير من التركيبة الإنتاجية للدولة, بما يتيح استخدام أفضل للموارد الطبيعية، أي الاستخدام الذي يجب أن يكون صالحًا للبيئة.
• أثر الحجم:
ويرتبط بزيادة الإنتاج والذي ينبثق من تحرير التجارة الدولية وفقًا لنظرية التجارة الحرة. وهو من جهة أولى يضر بالبيئة لكونه أحد آثار النمو الاقتصادي, بما يعنيه من المزيد من استهلاك الطاقة والمزيد من إطلاق الملوثات سواء انبعاثات أو تدفقات سائلة. ومن جهة ثانية فهو قد يفيد البيئة عندما يرفع مستويات الدخول, فيزيد توجه المواطنين حينئذ للاهتمام بحماية البيئة.
• أثر تكنولوجي:
وهو أن تحرير التجارة يسهل عمليات نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، ولكن هل من ضمان أن تنتقل فقط التكنولوجيا الأحدث والأنظف, أم أن تحالف الرأسماليين سيعمل على نقل التكنولوجيات المهجورة في الدول المتقدمة بسبب كثافة التلوث فيها؟ إنه سؤال يتوقف على قدرة الحكومة وكفاءتها في مراقبة عمليات نقل واستخدام التكنولوجيا, فلا تسمح بدخول التكنولوجيات كثيفة التلوث وكثيفة الاعتماد على الطاقة.
هل هاجرت الصناعات كثيفة التلوث إلى مصر؟
أوضحت دراسة حركة الإنتاج في مجموعات من السلع كثيفة التلوث, وكذلك تطورات الميزة النسبية الظاهرة في هذه السلع في صادرات مصر أن هناك اتجاها نحو توطن أغلب الصناعات القذرة في مصر. فقد ارتفعت النسبة المئوية لصادرات هذه الصناعات من إجمالي الصادرات السلعية من 3% إلى 34% منذ الثمانينيات في القرن الماضي.
كما كانت الزيادة في إنتاج وتصدير السلع كثيفة التلوث على حساب قطاعات أكثر نظافة وصداقة للبيئة في مصر. مما يشير إلى حدوث عمليات إعادة توطين للصناعات القذرة في مصر, وخاصة الأسمنت والحديد والصلب, والسيراميك, والأسمدة الكيماوية….إلخ.
ورغم ذلك فليس من المطلوب إيقاف نمو وتصدير هذه السلع, لأنها تجلب النقد الأجنبي الذي تحتاجه الدولة بشدة للحد من عجز ميزان المدفوعات, وإنما المطلوب هو إعادة النظر في الحسابات والخيارات الاجتماعية, ورصد التكاليف الاجتماعية المصاحبة لهذا النمط من النمو, بهدف اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد من هذه التكاليف, وتحسين حسابات الرفاهية, مع وضع المعايير البيئية الملائمة للظروف المصرية الخاصة.
د. صالح عزب
المركز العربي للبحوث والدراسات