في الرياض التأمت الأسبوع المنصرم أول قمة خليجية مغربية، بحضور قادة مجلس التعاون الخليجي والعاهل المغربي الملك محمد السادس، تكريساً لشراكة استراتيجية وتنموية صلبة لها فوائدها الملموسة على الجانبين.
ومع أن علاقات المغرب بالبلدان الخليجية ليست بالجديدة، بل تستند لتركة غنية وتجربة كثيفة طويلة بدأت منذ أن أرسى الملك الراحل الحسن الثاني وقادة البلدان الخليجية (وفي مقدمتهم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان وملوك السعودية من أبناء عبد العزيز) دعائم علاقات مكينة ومستقرة، فإن القمة الأخيرة عكست تحولاً نوعياً في هذه الروابط العضوية من منظور المتغيرات الإقليمية والدولية الواسعة التي شهدتها المنطقة والعالم في السنوات الأخيرة.
ومن أبرز هذه المتغيرات: انهيار المنظومة الإقليمية العربية التقليدية، نتيجة لانفجار قلب هذه المنظومة في المشرق العربي الذي دخل مرحلة عاصفة ودموية من الفتنة والتفكك (في العراق وسوريا)، واستفحال التدخل الإيراني في شؤون المنطقة، بدعم التيارات الطائفية المتطرفة، وإشعال الصراعات الداخلية، وبروز شرخ واضح في علاقات محور الاعتدال العربي بحليفه الأميركي، مع تضافر مؤشرات جلية على تغير المقاربة الأميركية التقليدية لشؤون الشرق الأوسط الذي واكبه تغير نوعي في تركيبة واتجاهات الحقل السياسي الأميركي نفسه.
ومن هذا المنظور نفهم محددات وخلفيات الشراكة الخليجية المغربية الجديدة التي تقتضيها متطلبات ثلاث أساسية:
أولاً: ترميم المحور الاستراتيجي العربي وإعادة بنائه في مرحلة أطلق عليها البعض «اللحظة الخليجية في النظام العربي»، إثر انتقال الدول الخليجية من دور الداعم والمستثمر إلى دور القيادة الفعلية لسد الفراغ الاستراتيجي المتولد عن أزمات وإخفاقات «الربيع العربي»، وخروج أطراف وازنة فيه من المشهد كلياً (العراق وسوريا). هذا الدور الجديد ظهر في إدارة الملفات العربية الساخنة في اليمن وسوريا وليبيا، كما تجسدت هذه المقاربة في مواكبة التحولات الكبرى التي عرفتها مصر بمساعدتها على تجاوز مصاعب الانتقال السياسي، ومواجهة جماعات الإرهاب والعنف وإصلاح أوضاعها الاقتصادية، والدفاع عن الشرعية في اليمن وليبيا، ودعم الثورة السورية، مع محاربة الحالة الداعشية المتمددة التي استفادت من انهيار الدولة المركزية.
من هذا المنظور، تتضح أهمية المغرب من حيث هو قوة إقليمية فاعلة يمكن الاعتماد عليها في تأسيس المحور الاستراتيجي العربي الجديد، والدفاع عن مقوماته الأمنية والسياسية.
ثانياً: معالجة اختلالات التوازن في العلاقات الدولية الجديدة، إثر تغير معطيات ومحددات وأطراف واتجاهات اللعبة الديبلوماسية في المنطقة بدخول إيران طرفاً مؤثراً في قلب النظام العربي، مع اعتبار نتائج اتفاقها النووي مع القوى الغربية الذي مهد لفك العزلة الخارجية المضروبة عليها، وبعودة روسيا القوية إلى المنطقة من خلال البوابة السورية، وتبدل الخيارات الاستراتيجية الأميركية (في عهد الرئيس أوباما) من حماية الاستقرار في المنطقة إلى تشجيع موجة التغيير الراديكالي دون مراعاة تكلفتها السياسية والمجتمعية، انسياقاً مع الأطروحة التي تبلورت بعد أحداث 11 سبتمبر لدى أطراف عديدة في دوائر الرأي والقرار الأميركية، اعتبرت أن مصالح الاستراتيجية الأميركية تقتضي تصدير النموذج الديمقراطي الليبرالي إلى المنطقة التي خرجت منها موجة الإرهاب والتطرف. ولا شك أن المغرب الذي نجح في استراتيجية الإصلاح السياسي التوافقي، مؤهل لأداء دور محوري في مساعدة البلدان الخليجية على ما تضطلع به حالياً من إطفاء حرائق «الربيع العربي» التي سماها الملك محمد السادس في خطابه بقمة الرياض «خريفاً كارثياً» يستهدف تمزيق الدول وإشعال الفوضى الشاملة في المنطقة.
ثالثاً: مواجهة تحدي التطرّف الديني العنيف الذي خرج عن ضوابط التحكم السيادية، وأصبح يحتاج إلى حلف واسع للتصدي له، إثر تضافر عاملين جديدين هما: التجذر الإقليمي لحركات الإرهاب التي أعلنت قيام دول تخصها (نموذج «داعش»)، والتهديد المتزايد لإرهاب الجماعات المتطرفة على استقرار وأمن دول المنطقة والعالم (لما ترمز له أحداث باريس وبروكسل الأخيرة). ومن الواضح أن هذه الموجة الجديدة من التطرّف الديني لا يمكن مواجهتها إلا بأدوات وآليات جديدة تراعي نمط وأساليب العنف الراهن، ومن هنا تتكامل الاستراتيجية المغربية الناجحة في المواجهة الاستباقية للإرهاب مع المقاربة الخليجية، وتتفق معها في المرجعيات والتوجهات.
وكان من اللافت في قمة الرياض دعم البلدان الخليجية لموقف المغرب في ملف الصحراء، في مواجهة التقارير والتصريحات المريبة لأمين عام الأمم المتحدة وبعض أعوانه، بما يتناغم مع الرؤية العامة للمنظومة الخليجية في وقوفها ضد المخططات التفكيكية والتجزيئية للمنطقة العربية التي وصلت مرحلة الخطر الحقيقي على الأمن القومي بمفهومه الواسع.
د. السيد ولد أباه
* نقلاً عن جريدة الاتحاد الإماراتية