الثورة الناعمة

الثورة الناعمة

23948

ثورة هادئة تجري اليوم في عمق المجتمع العربي، بلا ضجيج ولا دماء ولا معتقلين ولا محاكمات ولا مظاهرات ولا قادة ثوريين ولا أحزاب ولا جماعات دينية أو علمانية. إنها الثورة الرقمية التي تحفر عميقاً في ثقافة الأفراد وذهنياتهم وعاداتهم وأذواقهم وآرائهم، ما يتفاعل كيميائياً وليس ميكانيكياً، نرى بعض نتائجه الآن، وسنرى الجزء الأكبر في المستقبل القريب.
أكثر من 100 مليون عربي يتوفرون، اليوم، على حساب في “فيسبوك” (قبل ست سنوات كانوا 16 مليونا). أصبح “فيسبوك” و”تويتر” اليوم منصة سياسية واجتماعية وثقافية وتجارية يعبّر فيها ملايين الشباب العرب عن أفكارهم وعن فرحهم وعن غضبهم، وحتى عن مكبوتاتهم. وليس هذا الاتساع لشبكات التواصل الاجتماعي تفصيلاً بلا تأثير، وليس موضةً عابرة، لن تترك بصماتها على الواقع العربي. وثلاثة أسباب لهذه القناعة.
أولاً: المجتمع العربي منخرط في ثقافة العصر الرقمي، وثورة الإعلام والاتصال، ولو في شقها التقني الذي يتحوّل، مع الزمن، إلى محتوى فكري وثقافي سياسي واجتماعي، أي أن مجتمعنا اليوم ابن زمنه، بهذا الشكل أو ذاك، فهل دولته وأحزابه ونقاباته ومدارسه وجامعاته ونخبه وقضاؤه وإعلامه وسلطته منخرطة في عصرها، منسجمة مع الديمقراطية والحداثة والتطور والانفتاح والابتكار والمشاركة والتفاعل؟ الجواب لا، وهذا معناه أن كل تقدم للمجتمع العربي في العصر الرقمي يوسّع الهوة بين المواطن ودولته ومؤسساته، ويسبّب توتراتٍ اجتماعية وسياسية وثقافية، سيأتي يوم لتدفع بمخرجاتها إلى الواقع.
ثانياً: يقول الرقم أعلاه إن العالم العربي يشهد ميلاد رأي عام حقيقي ومؤثر ومتفاعل مع الأحداث، خرج من المجاز إلى الحقيقة، وغادر بيانات الأحزاب اليسارية والنقابات الطلابية، وأصبح يمشي على رجليه، في عالمٍ افتراضي يتحول واقعياً، وواقعي يتفاعل في الافتراضي، مكسّراً الحدود بين الاثنين (خذ ثورات الربيع العربي التي ولدت في العالم الافتراضي لشبكات التواصل الاجتماعي، ثم خرجت إلى ساحات التحرير والتظاهر والاعتصام في مصر وتونس وليبيا والمغرب واليمن وسورية وغيرها، ثم لمّا تحرّكت الثورات المضادة، وأجهضت آمال الشباب في التغيير، رجع الشباب وجيش المدونين للتفاعل في الافتراضي، وللتعبير عن نفسهم في شبكات التواصل الاجتماعي مع خروج بين الفينة والأخرى إلى الواقعي).
ثالثاً: تعطي مواقع التواصل الاجتماعي الفرد، أي فرد، مهما كان مستواه التعليمي أو المادي أو الاجتماعي، وجوداً متساوياً مع آخرين. إنشاء حساب على “فيسبوك” أو “تويتر”، بصورة صاحبه واسمه واختياراته، هذه العملية المركّبة ينشئ بها الفرد هويةً جديدةً، يفتقر إليها في العالم الواقعي. تعطي الهوية الجديدة صوتاً لمن لا صوت له، ترفع الستار عن المحجوبين في الهوامش أو في قاع المجتمع. يسمح الحساب الخاص للفرد على “فيسبوك” بالتعبير والتفاعل والتواصل وإثبات الذات، وحتى التعبير عن المكبوت السياسي والجنسي والثقافي. إنها عملية تحرّر بالكامل. إنها ميلاد شخصية الفرد المتحرّر نسبياً من قيود الجماعة العرقية والدينية والقبلية. إنها ديمقراطية الشهرة والظهور على الساحة العامة الافتراضية (برز نجوم في عالم السياسة والغناء والبودكاستر والتمثيل والفكاهة والكتابة والصحافة والرواية والزجل والشعر والرسم والدين في عالم النت ومواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يظهروا في العالم الواقعي. وهناك، حققوا شهرتهم ونجاحهم، قبل أن يخرجوا إلى العالم الحقيقي).
التعبير عن الآمال والإحباطات، عن القبول والرفض، عن الرضى والسخط في العالم الافتراضي، يتم غالباً بدون قيود، وبعيداً عن الرقابة السياسية أو الاجتماعية، وحتى الرقابة الذاتية التي تصاحب العربي. وفي هذا التمرّد اليومي للأفراد على واقعهم، وعلى مشكلاتهم، يكتسبون عاداتٍ جديدة وثقافة جديدة وأصدقاء جدد، ويتمرّنون على الجدل وعلى التعبير، وعلى الحجاج، وعلى الدفاع عن آرائهم أمام آراء أخرى. وفي النهاية، يصبحون أفراداً مستقلين أكثر منهم عناصر في جماعة، ويتحوّلون، تدريجياً، إلى مواطنين أكثر منهم رعايا، ويصيرون منتجين ومستهلكين للمواقف والآراء والمشاعر. وفي النهاية، ينشئون عالمهم الخاص وقيمهم الخاصة التي تلتقي وتفترق مع عالمهم الحقيقي وواقعهم المعيش.

توفيق بوعشرين

العربي الجديد