على مدى الأيام القليلة الماضية، نشطت المقاتلات الروسية في قصف أهدافٍ مدنيةٍ وعسكرية في حلب وريفها. لا تعبأ روسيا، شأنها شأن النظام في دمشق، بالهدنة، على الرغم من أن موسكو راعية للهدنة مثل واشنطن. لكن السياسة هي أن تقول عكس ما تفعل، وتفعل عكس ما تقول.
منذ بداية التدخل الروسي العسكري في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، والوضع في سورية يتفاقم. موجات اللجوء تضاعفت، والمدنيون تكرّسوا أهدافاً سهلة ومتاحة ومفضلة للطيران الروسي، كما طيران النظام .. روسي المنشأ.
ومع اشتداد الخوض في دماء المدنيين السوريين، تزداد شهية المسؤولين الروس، وخصوصاً السيد، سيرجي لافروف، للحديث عن الإرهاب. يصعب العثور على عبارة واحدة في حديثه تخلو من كلمة إرهاب (على شاكلة المسؤولين الإيرانيين ومسؤولي النظام الحاكم في دمشق). وبينما أدى الانهيار الفعلي للهدنة إلى انهيار للمفاوضات في جنيف، لم يجد الروس ما يقولونه سوى شن الحملات على فريق المعارضة المفاوض، والقول إن استنكاف المعارضة عن التفاوض “أمر صحي”.. إذ من الأفضل، حسب المسؤولين الروس، أن يفاوض النظام نفسه، أو أشباهه وأقرانه، فذلك يحقق لهم، للروس، نتائج أفضل. لكن الأمر الذي لفت الانتباه انزلاق مسؤولين روس إلى بروباغندا دعائية من قبيل ترويج الوزير لافروف شائعاتٍ عن انشقاقٍ مزعوم في وفد المعارضة المفاوض، وهي شائعاتٌ من شدة تهافتها لم تعمّر سوى بضع ساعات، غير أن إطلاقها من وزير خارجية دولة كبرى يدلل على مستوى “الجدية والنزاهة” في التعامل مع الملف السوري.
من اللافت أن دي ميستورا، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، يدعو موسكو، إلى جانب واشنطن، لإنعاش الهدنة، كما فعل في تقريره الأربعاء إلى مجلس الأمن، علماً بأن موسكو هي من تقوّض الهدنة، وقد فعلت ذلك قبل جولة التفاوض الأخيرة في جنيف، وخلال أيام التفاوض وبعدها. أثبتت روسيا، على مدى الشهور السبعة الماضية، أنها جزء أساسي من المشكلة المستعصية، ومن مسببات الكارثة. ومن أبرز الناشطين في استهداف المدنيين والمرافق المدنية، يوم الأربعاء الماضي 27 أبريل كان مشفى القدس في حلب يتعرّض لغارات عنيفة من مقاتلات جوية روسية. استهداف المشافي المدنية جزء من العقيدة العسكرية للنظام، وقد جاءت روسيا لتصادق على هذه العقيدة وتكرّسها، وتشارك في تطبيقها. تطمح موسكو في دمار شامل يحيق بحلب الشهباء الحاضرة التاريخية، دمار المدينة سيثبت نجاح مبادرة موسكو وطهران
وحزب الله في استعادة المدينة وإخضاعها للنظام، وبما يُسهل التفاوض (استسلام المعارضة) وطيّ صفحة الانتفاضة الشعبية السورية. وبينما يتصاعد هذا النشاط الإرهابي المنظم ضد المدنيين على يد دولة كبرى، فإن هذه الدولة نفسها تمنح نفسها حق تصنيف من هم الإرهابيون في سورية، وتلح على إضافة تنظيمين من تنظيمات المعارضة إلى لائحة المنظمات الإرهابية التي تضم حصراً داعش وجبهة النصرة. ولا تجد الدولة الكبرى تناقضاً بين الفتك المنهجي والدائم بالمدنيين السوريين والحديث، كل ساعة وفي كل مكان، عن الإرهاب، وذلك وفقا لمقولة: إفعل كل ما يفيدك بغير قيد أو شرط، حتى لو كان ما تقوم به إرهاباً خالصاً، وقُم، في الوقت نفسه، بحملة سياسية وإعلامية مكثفة ضد الإرهاب، فالناس تنشغل بالأقوال والتصريحات أكثر من الوقائع والممارسات، وهذه هي كل حال الإضافات الروسية لمعالجة الملف السوري. فروسيا موعودة من النظام بكل ما تريد من نفوذ عسكري واستراتيجي، ومن امتيازات وأفضليات اقتصادية. ولذلك، ترفع موسكو راية النظام في دمشق، وتعيد ترديد كل ما يقوله إعلام النظام بعد ترجمته إلى اللغة الروسية. ولا ترى روسيا في سورية شعباً يستحق الحياة، أو أن ينعم بحق تقرير المصير، فروسيا ترى في سورية شخصاً واحداً هو الحاكم الحالي الذي يتيح لها تحقيق كل ما تطمح إليه، لقاء أن تخوض روسيا حرب النظام على الشعب السوري. وهو ما تفعله، منذ بدء تدخلها المباشر، أما قبل ذلك، فقد أطلقت روسيا يد النظام في استخدام الأسلحة الروسية الثقيلة من صواريخ وقاذفات ضد المدنيين والأحياء السكنية، وهو ما حوّل مدناً كحمص وحماة وحلب ودرعا وإدلب، إضافة إلى ريف دمشق، أنقاضاً وأطلالاً. ومع ذلك، ما زالت الشهية الروسية مفتوحة لتهديم ما لم يتهدم بعد من العمران السوري، حتى لو أدى ذلك إلى تهجير ملايين جدد من النازحين، فالشعب ليس له وزن أو اعتبار في العقيدة الروسية، ومن الأفضل التخلص من كل ما يعيق التقدم الروسي أو الإيراني. وكل المعيقات من معارضة معتدلة، ومن مدنيين وسواها حالات إرهابية في عُرف موسكو. وفي تلك الأثناء، لا يتلعثم المسؤولون الروس، وهم يشنون حملة كل ساعة على الارهاب، تواكبها حملاتٌ عسكريةٌ على كل مظاهر الحياة في حلب وريفها، بما في ذلك المشافي، كمشفى القدس الذي كان يعاني من اكتظاظ ومن نقص التجهيزات الطبية، فرأى الأصدقاء الروس أن أفضل علاج لوضع المشفى قصفه وتقويضه على من فيه من مرضى وجرحى وأطباء وممرضين، لكي يدرك المدنيون السوريون كم تكلفهم معارضتهم النظام من أثمان وتبعات.
إن أية إحصائية لعدد الضحايا من المدنيين السوريين، في الأشهر السبعة الأخيرة، ستثبت أن عدد من سقطوا على يد النظام والمقاتلات الروسية هو أضعاف العدد الذي سقط على يد تنظيم داعش الإرهابي. أمام ذلك، يسجل للمعارضة الوطنية أداؤها الجيد في رفض اعتبار المسائل الإنسانية مجالاً للتفاوض، وفي رفضها استمرار التفاوض مع مواصلة خرق الهدنة من النظام ومن موسكو ومن حزب الله. ولهذا، ثارت حفيظة موسكو على الموقف المتماسك الذي أحسن صياغته والتعبير عنه بكفاءةٍ عاليةٍ رئيس الهيئة العليا للتفاوض، رياض حجاب، والذي يسمي الأشياء بأسمائها، بما في ذلك الدور العدائي الروسي الذي يخرق الهدنة بكل صلافة، ويزعم، في الوقت نفسه، حرصه على نجاح مسيرة جنيف التفاوضية.
في بداية التدخل الروسي، أبدت أطراف عربية صديقة للشعب السوري تحفظها الشديد على هذا التدخل، وحذرت من نتائجه. وأثبتت التطورات اللاحقة صحة هذا الموقف. هناك الآن، حاجة لتجديد الاعتراض على الدور الروسي المفرط في السلبية، الذي يفاقم من محنة السوريين، ويجهز على فرص الحل السياسي، ويشجع النظام على مواصلة حرب الإبادة والاستئصال ضد شعبه.
محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد