لا وصف يجسد بشاعة ولا إنسانية ما يعانيه أهل حلب من قتل ودمار وجوع وتشريد. فبعض الأفعال تصل من الإجرام حداً يصعب وصفه، فضلاً عن الدفاع عنه، أو حتى تفسيره. وعلى الرغم من ذلك، ليس ما يجري في حلب من مجازر وإبادة جماعية وتقتيل أبرياء جديداً على نظام بشار وقواته وحلفائه. إذ علينا تذكّر أن حلب ليست الأولى، وغالباً لن تكون الأخيرة، في صراعٍ بدأ ثورة شعبية نقية، وحوّلها النظام إلى حرب بقاء أو فناء.. فإما أن يبقى أو تفنى سورية قبله.
لا سقف لسلوك بشار وحلفائه ميدانياً، ولا حد لتدنيهم أخلاقياً. ولا ينافسهم في ذلك سوى دول لا تكتفي بالصمت عن مجازره بحق مدنيين أطفال ونساء وشيوخ، بل لا تخجل من الدفاع عنه. ولا تتوانى عن الدعوة إلى استمرار العبث التفاوضي، المسمى مسار جنيف. وللأسف، تشمل قائمة التأييد والتواطؤ دولاً عربية تتشدّق بالعروبة، وأخرى إسلامية إسلامها مذهبي انتقائي، وثالثة خارجية ترفع لافتات الإنسانية والقيم العليا وحقوق الإنسان، وتخفي وراءها مصالح اقتصادية ومبيعات الأسلحة وأمن إسرائيل.
أما الدول التي تسعى فعلياً لنصرة السوريين، ودعم حقهم في حياة حرة، فقد بذلت ما في وسعها. حتى صارت، الآن، مخيّرةً بين الدخول في مواجهةٍ ميدانيةٍ ضد القوى الكبرى، وهو ما لا تطيقه. أو التعويل على صبر السوريين، وترقب الفرصة لتغيير المعطيات وموازين القوة لاحقاً.
عندما تحرّك ما يسمى المجتمع الدولي قبل أشهر، بسبب تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، كان السبب المعلن تزايد أعداد الغرقى والمشرّدين، وتفاقم حالة النزوح الجماعي هرباً من جحيم الحرب في سورية. وبدا الأمر كما لو كانت الدوافع إنسانية أخلاقية. لكن، سرعان ما تغيرت المواقف، وتبدلت اللهجة من التعاطف والدعم لأولئك اللاجئين الضحايا، إلى اعتبارهم عبئاً وتحدياً، تجب مواجهته، ليس فقط بإغلاق الحدود، بل باستخدام القوة المسلحة إذا اقتضى الأمر. وفي الحالين، لم يحدث أي تحرك دولي فعلي لمعالجة أسباب الظاهرة ومواجهة الأطراف التي تتسبب في تشريد عشرات آلاف المدنيين العزل يومياً. ليست المسألة، إذن، قضية إنسانية أو قيماً عالمية أو مبادئ أخلاقية. وهو ما ينطبق، أيضاً، بل بصورة أسوأ، على دولٍ عربيةٍ، لم تستقبل لاجئاً سورياً واحداً، وتتاجر بأوضاع السوريين المشردين والمحاصرين. ودول أخرى، عربية أيضاً، تضطهد من لجأ إليها من السوريين، وتراهم خونة ومخربين، بينما تدعم بشار وتعتبره رمزاً للدولة السورية، وصمّاماً لاستقرارها.
تلك المواقف التي تتراوح بين التخاذل والتواطؤ، تجسّدها سياسة الأرض المحروقة التي يظن العالم أنها وحدها الكفيلة بإجبار المعارضة على قبول حل سياسي “توافقي”، ترضى عنه الأطراف الخارجية التي تملك مفاتيح الحل وأدوات التأثير. بغض النظر عما إذا كان هذا الحل يلبي حداً أدنى من مطالب السوريين، أو يضمن محاسبة المسؤولين عن القتل والتدمير في السنوات الخمس الماضية، فضلاً عن الديكتاتورية والفشل لعقود قبلها. إنها ببساطة سياسة تقليدية مستهلكة أدمنها العالم، على الرغم من ثبوت فشلها، سياسة تدوير الحكام وإعادة إنتاج نظم الحكم نفسها، من دون تبديل أو تحويل، سوى تعديل أو إضافة بعض التفاصيل، فقط على سبيل التجميل.
لا جدوى من استعطاف العالم للتحرك من أجل حلب، فالعالم يعلم ما جرى ويجري مسبقاً. ولا مشكلة لديه ما دام المحروق سورياً، بشراً أو أرضاً. المهم لدى الغرب والعالم وبعض العرب، ألا تمتد ألسنة اللهب إلى الضفة الأخرى من المتوسط. وألا تقدم سورية، أو غيرها، نموذجاً لأن يحكم الشعب نفسه بنفسه، أو يغيّر حكامه بإرادته.
المتورّطون في حرق سورية
سامح راشد
العربي الجديد