على مدار الأشهر الاثني عشر الماضية، حقق الرئيس الأميركي باراك أوباما سلسلة من الانتصارات في السياسة الخارجية. بيد أن أحد هذه الانتصارات، والذي لم ينل من الاهتمام القدر الذي نالته الانتصارات الأخرى، كان تمرير تشريع إصلاح صندوق النقد الدولي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بعد عرقلته وتعطيله في الكونغرس الأميركي طوال خمس سنوات. وعندما يعقد صندوق النقد الدولي اجتماعات الربيع السنوية في واشنطن في الفترة من الخامس عشر إلى السابع عشر من نيسان (أبريل)، ينبغي لنا أن نتوقف بعض الوقت لكي نتأمل في أهمية هذا الإنجاز. فلو سمحت الولايات المتحدة بمرور عام آخر دون التصديق على إصلاح حصص صندوق النقد الدولي، فإنها كانت بذلك لتسلم مفاتيح زعامة الاقتصاد العالمي للصين عمليا.
كان إصلاح صندوق النقد الدولي أمراً بالغ الأهمية: إذ كان من الواجب تحديث عملية تحديد المساهمات النقدية وقوة التصويت بين البلدان الأعضاء بحيث تعكس التحولات التي طرأت على موازين القوة الاقتصادية العالمية في العقود الأخيرة. وعلى وجه التحديد، اكتسبت اقتصادات الأسواق الناشئة مثل البرازيل والصين والهند دورا أكبر، على حساب الدول الأوروبية ودول الخليج في المقام الأول.
وقد تمكن أوباما من إقناع زعماء بلدان مجموعة العشرين بالموافقة على الإصلاح في قمة 2010 التي استضافتها سيول. وكان المنتظر أن يوافق الكونجرس على الاتفاق لاحقا دون تفكير، خاصة وأن الاتفاق لن يؤدي إلى زيادة التزامات أميركا المالية ولن يسلبها هيمنتها على عملية التصويت. والأمر الأكثر أهمية هو أن الإصلاح يمثل فرصة ذهبية للولايات المتحدة لإظهار الزعامة العالمية، من خلال الاعتراف بضرورة استيعاب النظام الدولي القائم لديناميكيات القوة الاقتصادية المتغيرة.
ولكن بدلا من ذلك، حاول الكونجرس منع إصلاح صندوق النقد الدولي، حارما الصين فعليا من مكانها المستحق على طاولة الإدارة العالمية. وما كان “تحريك قوائم المرمى” لينجح إلا في دفع الصينيين إلى إنشاء مؤسساتهم الخاصة. وعلى هذا فإن تصلب الكونجرس ربما أضعف موقف أميركا في المنافسة مع الصين على السلطة والنفوذ العالميين.
يرى أغلب الآسيويين أن الولايات المتحدة قوة إقليمية مهيمنة أكثر جاذبية من الصين التي كانت تسعى بقوة إلى فرض مطالبات إقليمية في بحري الصين الشرقي والجنوبي. غير أن سلوك الولايات المتحدة مؤخرا دفع بعض الدول الآسيوية إلى التشكك في مدى التزام أميركا بدعم الأمن والازدهار في المنطقة.
على هذه الخلفية، كانت دول عديدة من داخل وخارج آسيا سعيدة بالانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية بقيادة الصين، والذي وعد بتلبية بعض احتياجات التمويل في المنطقة. وينظر المراقبون على نطاق واسع إلى تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية في كانون الأول (ديسمبر)، باعتباره نكسة دبلوماسية شديدة للولايات المتحدة.
من حسن الحظ، وبفضل سلسلة النجاحات التي حققها أوباما مؤخرا في ما يتصل بالمشاركة العالمية، أصبحت فرصة عودة الولايات المتحدة إلى المباراة سانحة الآن. في نيسان (إبريل) الماضي، أشرفت إدارة أوباما على اتفاق كان بمثابة تقدم مفاجئ مع إيران بشأن برنامجها النووي. وعلاوة على ذلك، اقتنع الكونغرس في تشرين الأول (أكتوبر)، بإعطاء الإدارة سلطة الترويج للتجارة، الأمر الذي جعل من الممكن إتمام اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ الذي يضم 12 دولة. ومؤخرا، استأنفت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، لكي تنهي بذلك 55 عاما من سياسة العزلة التي لم تنجح إلا في إعطاء زعماء كوبا المبرر والعذر للفشل الاقتصادي وإعاقة العلاقات الأميركية في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية.
وأخيرا، تمكن ممثلو 195 دولة موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ من التوصل إلى اتفاق في باريس في كانون الأول (ديسمبر) الماضي للحد من انبعاث غازات الانحباس الحراري، والذي كان مدفوعا إلى حد كبير بتحرك من قِبَل أوباما والرئيسي الصيني شي جين بينج في وقت سابق. ومن المقرر أن يوقع الزعيمان على اتفاق باريس في الثاني والعشرين من إبريل/نيسان، بالنيابة عن دولتيهما، وهما أكبر دولتين إطلاقا لغازات الانحباس الحراري في العالم. وبإضافة التصديق على إصلاح صندوق النقد الدولي بعد طول انتظار إلى هذا، تبدو الولايات المتحدة على مسار متواصل من الانتصارات العالمية.
ما كان لأي مراقب أن يتوقع قبل عام واحد فقط تحقيق أي من هذه الإنجازات الخمسة. فمع سيطرة الحزب الجمهوري بشكل كامل على الكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، كان الرأي الغالب هو أن الإدارة الأميركية لن تتمكن من تحقيق الكثير في عاميها الأخيرين في السلطة.
وما زاد الأمور سوءً أن النزعة الدولانية تجتذب المعارضة من اليسار المتطرف بقدر ما تجتذبها من اليمن المتطرف. وفي حين تُعَد التجارة المثال الأكثر وضوحا، فإنها ليست المثال الوحيد. فبعيدا عن معارضة اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، انضم المرشح الرئاسي الأميركي بيرني ساندرز تاريخيا إلى الجمهوريين في الكونجرس في محاولة عرقلة الجهود الرامية إلى إنقاذبلدان الأسواق الناشئة في أميركا اللاتينية وآسيا في أوقات الأزمات المالية.
وتسمى عمليات الإنقاذ هذه كفالات حتى برغم أنها لا تكلف الولايات المتحدة أي شيء -حققت وزارة الخزانة الأميركية في واقع الأمر ربحا من القرض المقدم إلى المكسيك عام 1995 والذي عارضه ساندرز- بل وتساعد في دعم النمو الاقتصاد. وعلى نحو مماثل، انضم السناتور تشاك شومر إلى الجمهوريين في محاولة منع إتمام الاتفاق النووي الإيراني.
الواقع أن نجاحات أوباما الدولية الأخيرة ليست حصينة ضد الهجمات. فبرغم إتمام صفقة صندوق النقد الدولي، ربما تظل مبادرات أوباما الرئيسية الأخرى عُرضة للخروج عن مسارها الصحيح بفِعل السياسة الأميركية، وخاصة إذا توحد التطرف السياسي. فقد يرفض الكونجرس اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهو ما يُعَد عمليا رسالة إلى آسيا مفادها أنها أصبحت مسؤولة عن نفسها. وقد يقوض الكونجرس العلاقة الناشئة مع كوبا؛ فهو لم يلغ الحظر بعد. أما عن اتفاق باريس، فمن المقرر أن تنظر محكمة الاستئناف الفيدرالية أولا طعنا مقدما لها في الاستراتيجية التنفيذية التي تبنتها الإدارة في التعامل مع خطة الطاقة النظيفة في الثاني من حزيران (يونيو).
وتضيف الحملة الرئاسية الجمهورية عنصرا آخر من عدم اليقين. إذ يقول كل من المرشحين الرئيسيين للفوز بترشيح الحزب، دونالد ترامب وتِد كروز، إنه يعتزم تمزيق الاتفاق النووي مع إيران، في حال انتخابه. ويجدر بنا أن نتذكر نتائج القرار المماثل الذي اتخذه الرئيس جورج دبليو بوش بتمزيق “الاتفاقية الإطارية” التي أبرمها بِل كلينتون مع كوريا الشمالية: فقد سارع نظام كيم، كما كان متوقعا، إلى تصنيع القنبلة النووية.
ليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة قد تستمر في قيادة العالم. بيد أن الأمر الواضح هو أن السياسات الأميركية، وليس التطورات العالمية، ستكون العامل الرئيسي الحاسم في تحديد هذا الأمر.
جيفري ميركل
صحيفة الغد الأردنية