ما هي خياراتكم؟ سؤال يُطرح كثيراً على ممثلي المعارضة السورية هذه الأيام، بخاصة الإخوة في الهيئة العليا للمفاوضات. وما يستشفه المرء من الطرح المتكرر للسؤال هو عدم تلمّس إجابات مقنعة، إجابات تضع النقاط على الحروف ضمن الظروف والشروط التي تتحكّم راهناً بعمل القوى الداعية إلى التغيير الجذري في سورية، والتي كان من المفروض أنها تمثّل الثورة السورية، لكنها غدت بفعل تحويرات مقصودة لجأ إليها من صاغوا الوثائق الدولية مجرد معارضة سياسية، يمكن أن تتشارك مع النظام في هيئة ما، تعلن بداية مرحلة الانتقال السياسي.
والبحث عن الخيار الأكثر نجاعة للتعامل مع قضية ما، يتطلب قبل كل شيء تحديد طبيعتها، وذلك للتمكّن من استكناه وبلورة حلها.
فالقضية السورية هي في الأساس قضية مستقبل شعب وأجياله المقبلة التي انسدت الآفاق أمامها نتيجة عقود من الحكم المستبد الفاسد المفسد. لكن الذي حصل هو أن هذه القضية باتت بفعل الأهمية الجيو- سياسية لسورية قضية إقليمية ودولية في الوقت ذاته.
وقد أدّت القراءة الخاطئة لطبيعة ما كان يجرى منذ بداية الثورة، والتقييم الخاطئ للاحتمالات التي يمكن أن تتطور بموجبها الأمور – وهذه مسائل لسنا بصدد تناولها الآن على رغم أهميتها القصوى – إلى تراجع وزن الفعل الوطني السوري الذي كان من أولى مهامه توحيد القرار السياسي والعسكري في مواجهة النظام. وهذا ما أدّى بدوره إلى بروز الفعل الإقليمي، ومن ثم الدولي في إطار مجموعة أصدقاء سورية. وهكذا كان الانطباع الخادع المستمد من القراءة والتقييم الخاطئين المشار إليهما، وفحوى هذا الانطباع أن الأمور في طريقها نحو الحسم السريع. لذلك كان التركيز على اليوم التالي، وتم إغفال كيفية الوصول إلى هذا اليوم، لأن الجميع كان لديه الإحساس بأن الأصدقاء هم الذين سيتولون هذا الأمر. وكان النموذج العراقي حاضراً في الأذهان، على رغم أن الجميع كان يريد تجاوز مثالب وعثرات هذا النموذج.
ومع تطور الأمور، فقد السوريون – سواء أولئك الذين كانوا يمثلون الثورة أم جماعة النظام – زمام المبادرة تماماً، وغدت ظاهرة الاستقواء بالقوى الإقليمية والدولية هي السائدة، بل أصبح الاستقواء المعني رخصة للوصول إلى المواقع القيادية ضمن مؤسسات المعارضة. وقد أسهمت النخب السورية في ذلك بهذه الصورة أو تلك، وذلك بانسحابها، وتشتتها، وعدم قدرتها على تجاوز حساسياتها القديمة – الجديدة.
ومع الوقت بان للجميع ما كان من المفروض أن يُقرأ بصورة واضحة من البداية، فقد أصبح من الواضح تماماً بأن الولايات المتحدة الأميركية غير مستعدة – لأسبابها الخاصة – لدعم أي تغيير جذري في سورية. وفي ظل غياب هذا الاستعداد، لم يكن لأوروبا ولا للقوى الإقليمية التي من المفروض أنها من حلفاء أميركا أن تتجاوز التخوم المتفق عليها. ومع حدوث بعض الاختراقات من حين إلى آخر، كانت الضغوط تزداد بهدف الحد من الدعم الميداني، وكان الترويج الإعلامي لمشاريع غير فاعلة، تحمل بذور فشلها في ذاتها، وهي مشاريع خلبية لتعمية الرأي العام وتوجيهه. واستمر ذلك حتى جاء التوافق الروسي- الأميركي ليتيقّن الجميع من أن القضية السورية أصبحت من اختصاص الكبار حصراً.
وجاءت مفاوضات جنيف 3 المهرجانية، لتكون تتمة لمفاوضات جنيف 2 الكرنفالية، في أجواء يعلم الجميع بأنها غير موائمة لبلوغ المطلوب. لكن اللافت الذي يستوقف أن المعارضة ركّزت كل جهودها على المفاوضات، وهي تدرك قبل غيرها بأنها غير مجدية، بل عقيمة تضليلية، الهدف منها إضاعة الوقت وبعثرة جهود المعارضة وتمزيقها.
فالمعارضة دفعت الى الواجهة بقسم كبير من قياديي صفّها الأول، وباتت كل مؤسسات المعارضة الأخرى مهمّشة لمصلحة الهيئة العليا للمفاوضات، وهي الهيئة التي من المفروض أنها جهة تقنية، لها مهمة محددة، فيما القيادة السياسية والعسكرية للمعارضة تتولى دعم الهيئة المعنية، تحدد لها الخطوط الاستراتيجية العامة، ويكون التفاهم عبر المختصين على المساحات التكتيكية، والخطوط الإجرائية. أما أن تتحمّل الهيئة المعنية مهمة العمل القيادي والسياسي والعسكري والتفاوضي في الوقت ذاته، وتدخل في مفاوضات عبثية مع وفد النظام الذي يقوده مجرد موظف إشكالي، فهذا معناه أن الخيارات ستكون محدودة، بل محدودة جداً، إن لم نقل معدومة. ولن تتمكّن التصريحات الحماسية، ولا الشعارات المتشددة من تغيير ماهية المسائل.
القوى المؤمنة بالتغيير الحقيقي، الملتزمة بالمشروع الوطني السوري المدني والديموقراطي التعددي، المشروع الذي يطئمن سائر المكوّنات السورية من موقع تناقضه مع الاستبداد والإرهاب، هذه القوى مطالبة بتحمّل مسؤولياتها، والعمل من أجل الاستعداد لكل التحديات.
أما المفاوضات فتظل المدخل للوصول إلى الحل السياسي الذي يبقى الحل الأمثل، ولكن ليس بأي ثمن، ولا وبأي سقف.
والمفاوضات لن تكون مجدية إذا ما استمرت بطريقتها الاستعراضية الحالية التي تؤكد عدم وجود جدية دولية لمساعدة الشعب السوري، حتى يتمكّن من تجاوز المحنة الكارثية التي يعيشها راهناً.
المفاوضات الحقيقية تكون خلف الأبواب المغلقة، وبعيداً عن الضغط الإعلامي. مفاوضات يشارك فيها وفدان من المهنيين أصحاب الاختصاص. الأول يمثّل الثورة السورية بالفعل، والآخر يمثل النظام وأتباعه. أما المرجعيات السياسية فهي التي تتابع المفاوضات، وتتدخل لتذليل العقبات، وتعمل على تدوير الزوايا. هذا إذا كانت الرغبة في الوصول إلى حل إنقاذي لمصلحة الشعب صادقة لدى الطرفين.
أما أن تكون المفاوضات وسيلة للتضليل والتعمية من أجل تمكين النظام من البقاء، والتستّر على جرائمه، وإعادة تأهيله بهذا الشكل أو ذلك، ودعمه من جانب حلفائه ميدانياً ليتمكّن من السيطرة على حلب مثلما تمكّن من السيطرة على حمص في جولة جنيف الثانية، فهذا معناه أننا لم نصل بعد إلى مدخل للحل.
ومن هنا تأتي ضرورة التركيز على توحيد الطاقات وتنظيمها في الداخل الوطني السوري، والاستعداد لمرحلة طويلة من الصراع مع نظام ليس مستعداً لتقديم أي تنازل طالما أنه يحصل على دعم لا محدود من جانب رعاته وأتباعه.
وطبيعة الأمور تقتضي في حال اعتماد هذا الخيار أن ينتقل مركز القرار في المعارضة إلى الداخل، الأمر الذي سيساهم في توحيد القرار الوطني السوري على المستويين السياسي والعسكري، كما يتم تجاوز وضعية التفارق التي ثبت بالأدلة القاطعة عدم فاعليتها.
الظروف التي نمر بها صعبة للغاية، والتحديات كبيرة ومصيرية ووجودية، والإمكانيات محدودة، ولكن مع كل ذلك لا خيار أمام السوريين سوى الاعتماد على أنفسهم أولاً من خلال توحيد الطاقات وتفعيلها، ونكران الذات الفردية أو العصبوية. ونحن إذا تمكّنا من ذلك فسنجد الأصدقاء المخلصين إلى جانبنا، وسنلزم الجميع بضرور احترام تضحيات وتطلعات شعب عظيم أثبت بكل شهامة أنه يستحق الحياة الحرة الكريمة.