تزايدت أهمية صناديق الثروة السيادية في الاقتصاد العالمي بصورة ملحوظة خلال العقدين الماضيين، خاصةً خلال الفترة التي ارتفعت فيها أسعار النفط بصورة ملحوظة تجاوزت المائة دولار للبرميل، وما صاحبها من ارتفاع الفوائض المالية للدول المنتجة للنفط، والمتاحة للاستثمار عبر هذه الصناديق، بحيث أصبحت هذه الصناديق تلقى اهتماماً متزايداً ليس فقط بين الدول المنتجة للنفط، بل أيضاً بين الدول الجاذبة للاستثمارات.
وأصبح يُشار إلى دور تدفق استثمارات صناديق الثروة السيادية بصورة إيجابية في أمور عدة، ومنها إعادة الاستقرار في اقتصادات الدول الصناعية الرئيسية بعد أحداث مثل الأزمة المالية والتباطؤ الاقتصادي العالمي.
وقد تزايدت النظرة الإيجابية لهذه الصناديق مع توجهها خلال الأعوام القليلة الماضية لرفع درجة الشفافية في إدارة أعمالها، وتطبيق الحوكمة الجيدة، والتركيز بدرجة أكبر على دورها في الدول ذات الفوائض المالية، سواء من حيث تنويع مصادر الدخل بما يساعد على الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، أو في تحقيق عدالة توزيع الثروة بين الأجيال، لتستفيد الأجيال القادمة من عوائدها حال نضوب النفط أو الغاز الطبيعي.
بداية ظهور صناديق الثروة السيادية وتطورها
كانت بداية فكرة صناديق الثروة السيادية في دول الخليج، حيث تم إنشاء أول صندوق للثروة السيادية في عام 1953، وهو مجلس الاستثمار الكويتي الذي تأسس قبل ثماني سنوات من استقلال الكويت، وتطور لاحقاً ليصبح الهيئة العامة للاستثمار لدولة الكويت، التي تدير في الوقت الراهن أصول تبلغ 592 مليار دولار، وفقاً لأحدث بيانات “معهد صناديق الثروة السيادية” SWF Institute.
ولم يكن غريباً أن صناديق الثروة السيادية قد بدأت بدولة مُصدّرة للنفط، وأن جاذبيتها كانت لفترة طويلة تثير اهتمام مُنتجي المواد الأولية أساساً، حيث إن هذه الصناديق وُجدت مبدئياً لخدمة غرضين أساسيين: الأول، تفادي الآثار السيئة على اقتصادات الدول المعتمدة على إنتاج وتصدير المواد الأولية نتيجة التقلبات الحادة في أسعارها من فترة لأخرى، وبالتالي تخدم هذه الصناديق غرض التنويع وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، من خلال استغلال الفوائض المتحققة في أوقات ارتفاع أسعار النفط، لتحقق عوائد تُعوّض النقص عند تراجع أسعاره.
أما الغرض الثاني، فارتبط بطبيعة المواد الأولية التي تنتجها الدول المهتمة بصناديق الثروة السيادية، حيث تعتبر موارد مثل النفط والغاز الطبيعي قابلة للنضوب مستقبلاً، وبالتالي يتطلب غرض تحقيق العدالة في توزيع الثروة بين الأجيال أن يتم استثمار أجزاء من متحصلات الصادرات الرئيسية للدولة المنتجة للمواد الأولية، بحيث تأتي بدخل للأجيال القادمة حال نضوبها.
لكن يُلاحظ هنا أن فكرة الصناديق قد تطورت بصورة جعلتها لا تقتصر فقط على منتجي المواد الأولية، فثمة عدد من الدول، وعلى رأسها الصين، أصبحت تعمل على إنشاء صناديق الثروة السيادية لاستثمار فوائضها من المعاملات التجارية الخارجية، من أجل تعظيم العائد الاقتصادي للدولة، وأحياناً لممارسة نفوذ سياسي في مناطق هامة لها، بما يمكن أن يجعل مثل هذه الصناديق ذراعاً فعَّالاً لممارسة القوة الاقتصادية الناعمة على الساحة العالمية.
الوضع الراهن لصناديق الثروة السيادية
تشير أحدث الإحصاءات الصادرة عن “معهد صناديق الثروة السيادية” SWF Institute، في فبراير 2016، إلى أنه يتواجد في العالم الآن 78 صندوق ثروة سيادية، تتبع خمسين دولة، ويبلغ إجمالي قيمة استثماراتها نحو 7 تريليون دولار. ومن ضمن هذه الصناديق، تبلغ الاستثمارات المرتبطة منها بالنفط والغاز نحو 4 تريليون دولار، أي بنسبة 57% من إجمالي قيمة استثمارات صناديق الثروة السيادية، بينما تبلغ الاستثمارات المرتبطة منها بمجالات أخرى، بخلاف النفط والغاز، نحو 3 تريليون دولار، أي بنسبة 43% من الإجمالي.
وبالنسبة لطبيعة استثمارات صناديق الثروة السيادية، تُظهر تقديرات شركة “بريكن” Preqin الأمريكية المتخصصة في الأصول البديلة، أنه على الرغم من أن الجزء الأكبر من محافظ هذه الصناديق يُستثمر في أدوات الدين الحكومي وأسهم الشركات الحكومية، إلا أنها بدأت مؤخراً في زيادة استثماراتها في أصول أخرى، حيث يُستثمر 55% من صناديق الثروة السيادية في الأسهم الخاصة في عام 2016، مقابل 47% العام الماضي، بينما يُستثمر 62% منها في القطاع العقاري والبنية التحتية، و35% من الصناديق يتم استثمارها في أدوات الدين الخاص.
وتظهر أيضاً إحصاءات الشركة حجم التطور الملحوظ الذي شهدته صناديق الثروة السيادية خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث تم إنشاء نحو 67% من كافة صناديق الثروة السيادية منذ عام 2000، منها نحو 14 صندوق ثروة سيادية تأسس خلال الستة أعوام الماضية.
ويمكن ترتيب صناديق الثروة السيادية في العالم حسب عدة مستويات، كالتالي:
1- على مستوى الدول: تعتبر الصين، وفقاً لبيانات معهد صناديق الثروة السيادية، أكبر مستثمر في صناديق الثروة السيادية، حيث لديها خمسة صناديق تبلغ قيمة استثماراتها نحو 1.9 تريليون دولار (أي ما يمثل نحو 27% من إجمالي الصناديق عالمياً). ويأتي بعدها دولة الإمارات العربية المتحدة بعدد سبعة صناديق تبلغ قيمة استثماراتها نحو 1.2 تريليون دولار (أي 17% من إجمالي الصناديق عالمياً)، ثم النرويج التي لديها صندوق واحد تبلغ قيمة استثماراته 825 مليار دولار، فالمملكة العربية السعودية بصندوقين بقيمة استثمارات 638 مليار دولار، وتختتم دولة الكويت مجموعة الدول الخمسة الكبرى في عالم صناديق الثروة السيادية، بصندوق واحد هو الأقدم عالمياً، وتبلغ قيمة استثماراته 592 مليار دولار.
2- على مستوى الصناديق فرادى: يعتبر الصندوق الحكومي للمعاشات للنرويج (Government Pension Fund – Global) هو الأكبر عالمياً، حيث تبلغ استثماراته 825 مليار دولار بنسبة 11.6% من إجمالي الصناديق عالمياً. ويليه في المرتبة الثانية جهاز أبوظبي للاستثمار (Abu Dhabi Investment Authority) باستثمارات بقيمة 773 مليار دولار (11% من الإجمالي). وتأتي مؤسسة الصين للاستثمار (China Investment Corporation) في المرتبة الثالثة باستثمارات قيمتها 747 مليار دولار، ويليها الحيازات الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي (SAMA Foreign Holdings) باستثمارات تبلغ 632 مليار دولار. وتحتل الهيئة العامة للاستثمار لدولة الكويت (Kuwait Investment Authority) المرتبة الخامسة باستثمارات قيمتها 592 مليار دولار.
3- حسب النطاق الجغرافي: يُلاحظ أن آسيا وأستراليا (مع نيوزيلندا) لديها السيادة المطلقة على صناديق الثروة السيادية وفقاً للاستثمارات، حيث تمتلك نحو 83% منها، يليها قارة أوروبا بنسبة 12%، ثم الأمريكيتين بنسبة 3%، وأخيراً قارة أفريقيا بنسبة 2%.
وتجدر الإشارة إلى أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مجتمعة لديها ثقل متميز ومتفرد في مجال صناديق الثروة السيادية. ويبلغ إجمالي استثمارات الدول الستة مجتمعة من خلال هذه الصناديق نحو 2.8 تريليون دولار، بما يجعل وزنها النسبي عالمياً 38.8%. وبإضافة خمس دول عربية أخرى لديها صناديق ثروة سيادية، وهي ليبيا والجزائر والعراق وموريتانيا وفلسطين، يرتفع الإجمالي عربياً بصورة طفيفة ليبلغ 2.9 مليار دولار، وبوزن نسبي عالمياً يبلغ 40.5%.
مستقبل صناديق الثروة السيادية
من المتوقع أن تلعب صناديق الثروة السيادية دوراً متزايداً في الاقتصاد العالمي مستقبلاً، فالدول التي تعتمد بصورة كبيرة على موارد النفط والغاز الطبيعي تسعى جاهدة لانتهاج مسارين اقتصاديين متوازيين داخلياً وخارجياً قائمين على التنويع.
فداخلياً، تتبنى غالبية هذه الدول استراتيجيات تنموية قائمة على استغلال مزايا تنافسية بخلاف النفط والغاز، وهو الأمر الذي يتضح بصورة جلية في حالة دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، حيث تتبع استراتيجيات التنويع الاقتصادي، والتي تستهدف تقليص دور قطاع النفط في النشاط الاقتصادي، وزيادة دور قطاعات أخرى مثل السفر والسياحة، والخدمات المالية، والتجارة الخارجية، وتقنية المعلومات، وصناعات متطورة تقنياً مثل تصنيع مكونات الطائرات.
أما خارجياً، فتعمل هذه الدول على تنويع مصادر الدخل وحماية الاقتصاد من آثار الصدمات الخارجية السلبية (مثل تراجع أسعار النفط عالمياً) من خلال إنشاء صناديق الثروة السيادية، ومثال على ذلك أيضاً دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تحتل في الوقت الراهن عالمياً المرتبة الثانية سواء من حيث أكبر الدول استثماراً في هذه الصناديق السيادية، أو من حيث حجم أكبر صندوق فردي.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى واحدة من أهم التطورات التي تم الإعلان عنها خلال الأيام القليلة الماضية، والتي من الممكن أن تغير بصورة ملموسة دور صناديق الثروة السيادية في الاقتصاد العالمي، وهي إعلان صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع بالمملكة العربية السعودية، عن عزم المملكة إنشاء أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم بحجم استثمارات يزيد عن 2 تريليون دولار، من أجل جعل الاقتصاد السعودي لا يعتمد على النفط خلال العشرين عاماً المقبلة.
فالتصور المقترح لهذا الصندوق يُظهر بصورة جلية جهود التنويع الاقتصادي في الدول المنتجة الرئيسية للنفط، خاصةً مع تقلبات أسعار النفط خلال العام ونصف الماضيين، وعدم توقع عودتها لمستويات تتجاوز المائة دولار للبرميل، حيث سيتم العمل على بيع جزء لا تتجاوز تقديراته حالياً 5% من أكبر شركة نفط عالمياً، وهي شركة “أرامكو” السعودية، في عام 2018، وتحويل أسهمها إلى صندوق الاستثمار العام، يُستثمر داخل المملكة وخارجها، مع زيادة نسبة الاستثمارات الأجنبية للصندوق من 5% في الوقت الراهن إلى 50% بحلول عام 2020.
ومثل هذا التوجه سيؤدي إلى تقوية روابط الاقتصادات المعتمدة في الوقت الراهن على النفط، بالاقتصاد العالمي، وتنويع العلاقة بينهما، بحيث لا تقتصر على توفير الطاقة الهيدروكربونية، والاستثمار في أدوات مثل الديون الحكومية الأجنبية، بل يُنتظر أن تمتد، في ظل التوجه الحالي، للاستثمار في أصول إنتاجية وشركات كبرى تُغطي مجالات أنشطة اقتصادية متنوعة ومؤثرة عالمياً، بما يعود بالفائدة على كل من الدول المالكة للصناديق، والدول التي تستثمر فيها هذه الصناديق أموالها.
د. أحمد الصفتي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة