وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في منتصف القرن العشرين. وكان من نتائجها توقف الصدام المباشر بين القوى العظمى، إذ انتقل إلى شكل جديد من الصراع، لا سيما حرب الوكالة التي تدور رحاها بالضرورة خارج حدود أقاليم تلك القوى، لتصفية الحسابات بين محاورها وتحالفاتها، وتعزيز مكانة كل محور في تسيّد العالم والحفاظ على مصالحه.
تنقلت حروب الوكالة من إقليم إلى آخر، أو نشأت في عدة أقاليم في الآن ذاته. من دون أن نغفل أن الأقاليم المرشحة لحرب الوكالة تستوجب توفر عدة شروط فيها تجعلها مؤهلة لذلك، لاسيما الموقع الاستراتيجي؛ وامتلاك ميزة اقتصادية أهمها الموارد الطبيعية الاستراتيجية المتعطشة لها القوى الكبرى ناهيك عن العالم ككل؛ والاهم من هذا وذاك ضعف المناعة السياسية والاقتصادية والبنية الاجتماعية وقدرة الدفاع الذاتي.
وحروب فيتنام وأفغانستان وشبه الجزيرة الكورية من أبلغ الشواهد على حروب الوكالة، إذ كانت مناسبة لتصادم رأسي المعسكرين الشرقي والغربي المتمثلين في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية. ولم يكن العالم العربي والشرق الأوسط على وجه العموم بعيدين عن مسرح حرب الوكالة، بل بقيا تحت أعين تشخّصها الدول الكبرى.
وحروب الوكالة لا تأخذ الشكل التقليدي؛ أي الصدام العسكري، فحسب. إذ من أهم أشكال هذا النوع من الحروب أيضا ما يسمى “الحروب الناعمة”، من خلال التجاذبات والاصطفاف فيما بين دول إقليم ما. وهذا النوع كان دارجاً ما قبل “الربيع العربي” باستثناء بعض أجزاء من العالم العربي، خلال الحرب العراقية الإيرانية مثلا. ثم حضر عصر ما سمي “الربيع العربي”، وترافق ذلك مع خوض مناطق واسعة حروبا ونزاعات ما يزال بعضها قائما للآن، أسقطت دولاً في حروب أهلية بين مكونات شعوبها الوطنية، فأخذت الدول الكبرى تمارس هوايتها بحروب الوكالة، واستقطاب الفرقاء بالدعم المالي والسياسي واللوجستي.
رغم ما يتمتع به العالم العربي من غنى بالثروات، والموقع الاستراتيجي الجاذب، وفرص الاستثمار الهائلة في القطاعات كافة، ومن أهمها الطاقة الناضبة والمتجددة على حد سواء، إلا أن ميزة هذا الإقليم أدت إلى جذب الدول الكبرى، والتي تمتلك قطعا الإمكانات لمد ذراع نفوذها الناعم والخشن خارج حدودها. وقد وجدت في هذا الإقليم ضالتها لجعله حلبة لصراع دولي بينها؛ بالوكالة تارة، أو عبر التدخل العسكري المباشر كما فعلت روسيا بتدخلها خريف العام الماضي في سورية، والذي ما يزال قائماً حتى اللحظة. كما سبق لغريمتها على الحلبة الدولية الولايات المتحدة الأميركية، فعل الأمر ذاته، لكن مع بعض فروق، عندما قامت باحتلال عاصمة عربية هي بغداد، موقعة بلاد الرافدين بأسرها تحت سلطان احتلالها. وبين هذا وذاك، كان تدخل الدول الكبرى بغطاء وشرعنه أممية في ليبيا، وعراب هذا التدخل هو دول أوروبا الغربية.
حالياً، تبدّلت مقاربات القوى الكبرى على وجه التحديد، ولاسيما روسيا والولايات المتحدة. إذ ذهبت موسكو بعيداً بسياسة التدخل المباشر في العالم العربي، متمثلة في التدخل العسكري في سورية. وهو أمرٌ غير مسبوق على مستوى معادلات الصراع في مشهد العالم العربي. في المقابل، شهدت السياسة الأميركية تراجعاً لافتاً في استخدام خيار التدخل العسكري المباشر، واستبدلته بصراع الوكالة المحسوب. وهي السياسة الممتدة في كل من اليمن وليبيا، بعدما كانت واشنطن رائدة في التدخل المباشر سابقا.
ولم يقتصر التدخل في الدول العربية على الدول الكبرى، بل وصل حد تدخل الدولة العبرية. والشاهد على ذلك ضربات سلاح الجو الإسرائيلي في عدة مناسبات داخل الأراضي السورية، في استباحة للسيادة السورية. لا بل تعدى الأمر ذلك إلى حد استباق نتائج الصراع في سورية، وانتهاز الفرصة التاريخية لعقد جلسة لمجلس الوزراء الإسرائيلي مؤخراً في هضبة الجولان السورية المحتلة، ترسيخاً لقرارات سابقة بضم الهضبة إلى الدولة العبرية.
أكثر من خمس سنوات عجاف، استنزفت جزءاً مهما من مرتكزات العالم العربي والدول الفاعلة فيه؛ لاسيما العراق وسورية، كما تونس واليمن وليبيا. وقد كان لهذا الاستنزاف ارتدادات سلبية على باقي مناطق العالم العربي التي لم تصب -بحمد الله- بداء الفوضى والتمزق والتشرذم الذي بدوره له بالغ الأثر في إصابة الأمن القومي العربي في الصميم، لا بل وأخطر من ذلك أن أصبحت المسألتان العراقية والسورية تتخطيان الإقليم إلى التدويل.
ناصر السعدي
صحيفة الغد