تتمتع الولايات المتحدة حالياً بقدرة عسكرية كبيرة في الشرق الأوسط أكثر بكثير من تلك التي تتمتع بها روسيا – فأمريكا لديها 35 ألف جندي ومئات الطائرات، في حين تمتلك روسيا نحو 2000 جندي، وربما 50 طائرة. ومع ذلك، يتوافد زعماء الشرق الأوسط هذه الأيام إلى موسكو لمقابلة فلاديمير بوتين، ولا يسارعوا بالذهاب إلى واشنطن. وقبل حوالي أسبوعين، سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي في زيارة هي الثانية التي يقوم بها لروسيا منذ الخريف الماضي، كما يخطط العاهل السعودي الملك سلمان لزيارة روسيا قريباً. كما قام الرئيس المصري وبعض قادة الشرق الأوسط بزيارة بوتين أيضاً.
لماذا يحدث ذلك، ولماذا أثناء زياراتي إلى المنطقة أسمع بأنَّ العرب والإسرائيليين قد تخلوا إلى حد ما عن الرئيس الأمريكي باراك أوباما؟ يعود ذلك، لأنَّ التصوّرات أكثر أهمية من مجرد القوة: ويُنظر إلى الروس بأنهم مستعدين لاستخدام القوة للتأثير على توازن القوى في المنطقة، في حين للولايات المتحدة نظرة أخرى وهي ليست كذلك.
لقد أدى قرار بوتين بالتدخل العسكري في سوريا إلى ضمان بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة وخفّض بشكل كبير من العزلة التي فُرضت على روسيا بعد استيلائها على شبه جزيرة القرم وتلاعبها المستمر بالقتال في أوكرانيا. كما أنَّ نظرة بوتين إلى العالم تختلف تماماً عن رؤية أوباما. فالرئيس الأمريكي لا يؤمن باستخدام القوة إلا في الحالات التي قد يتعرض فيها الأمن [القومي] والأراضي الأمريكية للخطر بشكل مباشر. وتبرر طريقة تفكيره اتخاذ إجراءات وقائية ضد الإرهابيين وبذل المزيد من الجهد لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكنها تؤطر مصالح الولايات المتحدة واستخدام القوة لدعمها بشكل محدود للغاية. وهي تعكس قراءة الرئيس الأمريكي للدروس المستفادة من العراق وأفغانستان، وتساعد في تفسير سبب تردده في بذل المزيد من الجهد في سوريا في وقت أسفرت الحرب الدائرة هناك عن وقوع كارثة إنسانية وأزمة لاجئين تهدد الأسس التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي، وساعدت في ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية». وهذا ما يفسر أيضاً سبب اعتقاد أوباما بعدم تمكّن بوتين من الفوز في تلك الحرب، بل خسارته، نتيجة لتدخله العسكري في سوريا.
ولكن يظهر أن وجهات نظر بوتين حول الإجبار، من بينها استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية، هي القاعدة في الشرق الأوسط وليس الاستثناء؛ وينطبق ذلك على أصدقاء الولايات المتحدة وعلى خصومها أيضاً. ويرجع سبب [تدخّل] السعوديون في اليمن لخشيتهم من عدم فرض الولايات المتحدة أي قيود على التوسع الإيراني في المنطقة، وشعورهم بالحاجة لرسم خطوط خاصة بهم. وفي أعقاب الاتفاق النووي، أصبح سلوك إيران في المنطقة أكثر عدوانية، وليس أقل، في ظل انضمام القوات النظامية الإيرانية لنظيراتها في «الحرس الثوري» المنتشرة الآن في سوريا، والاستخدام الأوسع للميليشيات الشيعية، وتهريب الأسلحة إلى البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، والتجارب الصاروخية الباليستية.
ولم يساعد وجود روسيا في منطقة الشرق الأوسط [على تغيير الأوضاع نحو الأفضل]. فالتدخل العسكري الروسي غيّر مسار المعركة في سوريا، وخلافاً لوجهة نظر أوباما، وضع الروس في موقف أقوى دون فرض أي تكاليف كبيرة عليهم. ليس فقط أنهم لم يعاقبوا على تدخلهم في سوريا، بل أن الرئيس الأمريكي نفسه يتصل الآن بفلاديمير بوتين ويطلب مساعدته للضغط على الأسد، وبذلك يعترف فعلياً مَن لديه نفوذ [في سوريا]. ويقر قادة الشرق الأوسط بذلك أيضاً، ويدركون أنهم بحاجة إلى التحدث مع الروس إذا يريدون حماية مصالحهم. ويقيناً، سيكون من الأفضل لو حدّدت بقية [دول] العالم طبيعة استخدام القوة مثلما يفعل أوباما. وسيكون من الأفضل رؤية بوتين يخسر على الصعيد الدولي. لكنه لا يواجه وضعاً كهذا.
وهذا لا يعني أنّ أمريكا ضعيفة وروسيا قوية. فبموضوعية، تتراجع روسيا اقتصادياً؛ فقد أدى انخفاض أسعار النفط إلى تزايد صعوباتها المالية – وهذه حقيقة قد تُفسِّر، جزئياً على الأقل، رغبة بوتين في إبراز دور روسيا على الساحة العالمية وممارسته السلطة في الشرق الأوسط. بيد، إن زيارة أوباما الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية لم تغيّر النظرة إلى الضعف الأمريكي وتردد الولايات المتحدة في التأثير على ميزان القوى في المنطقة. فدول الخليج العربي تخشى القوة الإيرانية المتزايدة أكثر من خوفها من تنظيم «الدولة الإسلامية» – وهي مقتنعة بأنَّ الإدارة الأمريكية مستعدة للرضوخ إلى سعي إيران للهيمنة الإقليمية. وفي هذا الصدد، كتب الصحفي عبد الرحمن الراشد، الذي له صلات جيدة جداً مع القادة السعوديين، مباشرة بعد اجتماع أوباما [مع زعماء دول الخليج] في قمة «مجلس التعاون الخليجي»: “واشنطن لا يمكنها أن تفتح الأبواب أمام إيران وتسمح لها بتهديد دول المنطقة … في حين تطلب من الدول المنكوبة الاستقرار بصمت”{
وكما أسمع في زياراتي إلى المنطقة، يتطلّع كل من العرب والإسرائيليين إلى [مجئ] الإدارة الأمريكية المقبلة. فهم يعرفون أنَّ الروس ليسوا قوة تعمل من أجل الاستقرار، ويعوّلون على الولايات المتحدة للعب هذا الدور. ومن المفارقات، أنَّ الكثير من شركاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة يدركون أنهم قد يضطرون إلى بذل المزيد من الجهد بأنفسهم لأنَّ أوباما أعرب عن تردده في استخدام القوة الأمريكية في المنطقة. وهذا ليس أمراً سيئاً بالضرورة إلا إذا دفعهم ذلك إلى التصرف بطرق قد تأتي بنتائج عكسية. على سبيل المثال، لو كان السعوديون أكثر ثقة في استعداد الولايات المتحدة لمواجهة التهديدات التي تدعمها إيران في المنطقة، هل كانوا سيختارون الانخراط في الحرب في اليمن – وهي حرب مكلّفة، من غير المستغرب أنه من الصعب الفوز بها وقد فرضت ثمناً باهظاً؟ لقد كان أوباما مُحقاً في تقديره بأنه يجب على الأطراف الإقليمية أن تلعب دوراً أكبر في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن للأسف، أخطأ في تفكيره بأنها ستفعل ذلك إذا اعتقدت أنَّ الولايات المتحدة فشلت في رؤية الخطر الأكبر الذي رأته وبالتالي شكّكت في المصداقية الامريكية.
وفي الواقع، طالما تشكك هذه الأطراف في المصداقية الأمريكية، سوف تكون هناك حدود لمقدار ما سوف تعرض نفسها له – سواء في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعدم الاستجابة للإلتماسات الروسية، أو حتى التفكير في الاضطلاع بدور أكبر في [إقناع] الفلسطينيين بالتوصل إلى حل وسط لإحلال السلام مع إسرائيل. وللاستفادة من اعتراف هذه الدول بأنها قد تحتاج لمواجهة المزيد من المخاطر وتحمّل المزيد من المسؤولية في المنطقة، سوف تريد أن تعرف بأنَّ كلمة أمريكا موثوقة وأنه لن يكون هناك المزيد من “الخطوط الحمراء” التي تم الإعلان عنها ولم يتم الوفاء بها، وأن واشنطن ترى نفس التهديدات التي تراها هذه الدول، وأن قادة الولايات المتحدة يدركون أن القوة تؤثر على المشهد في المنطقة، ولن يترددوا في تأكيد ذلك.
هناك عدة خطوات من شأنها المساعدة في نقل مثل هذا الانطباع:
- تشديد السياسة الأمريكية المعلنة تجاه إيران حول عواقب الغش في «خطة العمل المشتركة الشاملة» لتشمل لغة حادة واضحة بشأن استخدام القوة، وليس العقوبات، إذا انتهك الإيرانيون التزامهم بعدم السعي أو الحصول على سلاح نووي.
- بدء العمل مع دول «مجلس التعاون الخليجي» وإسرائيل – التي تتحدث بينها حالياً – حول خطط طوارئ لإيجاد خيارات محددة لمواجهة استخدام إيران المتزايد للميليشيات الشيعية لتقويض الأنظمة في المنطقة. (إن الاستعداد لاستضافة محادثات ثلاثية غير علنية مع واضعي الخطط العسكرية من العرب والإسرائيليين سوف يشير إلى إدراك الولايات المتحدة لتصورات التهديد المشترك، والحقائق الاستراتيجية الجديدة، والوسائل المحتملة الجديدة لمواجهة التهديدات الشيعية والسُنية المتطرفة).
- الاستعداد لتسليح القبائل السُنية في العراق إذا ما استمر الإيرانيون والميليشيات البارزة في منع رئيس الوزراء حيدر العبادي من القيام بذلك.
- في سوريا، توضيح أنه إذا واصل الروس دعم الأسد وعدم إجباره على قبول مبادئ فيينا (وقف إطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية، وإجراء مفاوضات وتنفيذ عملية الانتقال السياسي)، فإنهم لن يتركوا أي خيار للولايات المتحدة سوى العمل مع شركائها لإقامة ملاذات آمنة فضلاً عن مناطق حظر الطيران.
إن بوتين وقادة الشرق الأوسط يدركون منطق الإكراه. وقد حان الوقت لكي تعيد الولايات المتحدة تطبيق ذلك.
دنيس روس
معهد واشنطن