ظلّ النظام الرأسمالي، منذ أن أصبح عالمياً، نظاماً قائداً للتاريخ البشري، وازدادت عالميته عمقاً واتساعاً، خصوصاً بعد تمكنه من هزيمة تجربتين كبيرتين، حاولتا الخروج من البنيان العالمي لهذا النظام، وأعني: التجربة النازية التي خرجت من مركزه، والتجربة الشيوعية التي خرجت من محيطه.
واليوم، تقف البشرية أمام تحديات وجودية، ناجمة عن نمو التطرف في أشكاله المختلفة، سواء كان تطرفاً أيديولوجياً، أم أيكولوجياً، أو مالياً، أو بيولوجياً، فالعولمة الرأسمالية، في أحد أبعادها الراهنة، تتمثل في انتشار ذاك التحالف (الموضوعي) بين أشكال التطرف تلك، الذي هو في مضمونه تحالف بين «الوجه القبيح للتقدم الرأسمالي» والميول الأيديولوجية للمجتمعات المتأخرة، حيث يجرّ التأخر تلك المجتمعات باتجاه «الوجه القبيح للتقدم»، ويبعدها عن وجهه التنويري المضيء، ما يولّد «عولمة مقلوبة» ناكصة للوراء، مقابل هبوط حاد ومخزٍ في وتائر العولمة الدافعة للأمام، أي عولمة الحضارة وقيم التمدن الكونية وذهنيته.
لا تنعكس في مرآة النكبة السورية الحالية صورة الرخاوة والارتباك الأميركيين تجاه قوى وأنظمة تنتمي إلى العالم الثقافي والسياسي الوسطوي ما قبل الرأسمالي فحسب، بل تنعكس فيها، أيضاً، صورة نظام رأسمالي عالمي مرتبك، طغى وجهه القبيح على وجهه التقدمي التنويري، إضافة إلى تحوّلها إلى بؤرة استقطاب للفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين، الذين فقدوا أبعادهم الإنسانية وغرقوا في أبعادهم الهوويّة والنفعية والمالية، فغدت نكبة كاشفة لصورة العالم وعلاقات القوة العارية التي تتحكم في مراكز صنع القرار فيه.
بعد أزيد من خمس سنوات من التدمير العمراني والاقتصادي والبشري في سورية، وبعد تهجير نصف سكانها ومقتل وإصابة ما يقرب من مليون شخص، إضافة لآلاف المعتقلين والمغيبين، لم تعد سورية حتى في مستوى درجة «الوطن – الساحة»، على نحو ما كان فيه لبنان خلال حربه الأهلية، بل غدت بؤرة جذب لكل الفاشيات الدينية والدنيوية المناهضة لأفكار الحرية والمواطنة وقيامة الدول والأوطان، من الخمينية والداعشية وملحقاتهما، وصولاً إلى البوتينية مروراً ببقايا القوميين واليساريين والممانعين. فالذي يربط بين هذه المنظومات جميعها، على رغم تناقضها الظاهري، هو التصاقها بوجه الرأسمالية القبيح، ومعادل ذلك اندراجها في قنوات التسليح والمال العالميتين، ومعاداتها المطلقة قيم الحداثة الفكرية والسياسية.
لم يعد إيجاد حلول عادلة للمقتلة السورية انتصاراً للسوريين فقط، بل هو انتصار للنظام الرأسمالي العالمي على ذاته، انتصار لوجهه التنويري على «وجهه القبيح». فمثلما كان انتصاره على النازية والفاشية والشيوعية في القرن الماضي من شروط تجدده ونموه والحفاظ على عالميته، كذلك فإن إقصاءه اليوم لتلك الفاشيات الدينية والدنيوية، التي ولغت في دماء السوريين من الشروط اللازمة لإعادة تجدده وتقدمه. فالأهمية التاريخية والاستثنائية للثورة السورية لا تتأتى من كونها الأكثر تكلفة في التاريخ البشري فحسب، ومن كونها واجهت نظاماً تسلطياً من أكثر أنظمة الاستبداد توحشاً في التاريخ، ومن خلفه كل ذاك السيل من الفاشيات الدينية واليسارية والقومية وبقايا الحرب الباردة، بل من كونها المفصل الذي سيؤرخ لاتجاهات تطور النظام الرأسمالي العالمي في القرن الحادي والعشرين. وهنا تحضرني مقولة كان يرددها الراحل الياس مرقص قبل أربعين عاماً، تنقلها الآن النكبة السورية من حيزها النظري المبدع إلى الحيز الملموس: «لقد وصلت البشرية الآن، في هذه اللحظة المنطقية والتاريخية، إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. إما أن تكون نهاية تقدم وثورة تأسيس لتقدم آخر وإما أن تكون نهاية النوع. هذه القضية تخصنا بالتمام!».
منير الخطيب
صحيفة الحياة اللندنية