كان منشغلاً في اتجاهين؛ الدفاع عن قضايا التحرّر العربي، وعلى رأسها فلسطين، في الولايات المتحدة حيث أقام فيها دبلوماسياً ومحاضراً وباحثاً، وتسخير معارفه المتقدّمة في العلوم السياسية والاقتصاد وأبحاث التنمية من أجل تثبيت أولوية الوحدة لقرائه العرب، وكانت “العربي الجديد” آخر طرق تواصله معهم.
رحل كلوفيس مقصود (1926-2016) مؤمناً بأن انشغالاته هذه تحتاج إلى خطاب هادئ وصبور في معركة طويلة لا يجب انتظار نتائجها سريعاً، إنما تتطلب تراكماً في الكلمة والبحث وبناء علاقات في الخارج هدفها كسب التأييد لقضايانا العادلة، وقد توّج إقامته الطويلة في أميركا بتأسيس مركز دراسات “عالم الجنوب” في الجامعة الأميركية بواشنطن عام 1992، واهتم مركزه بدراسات التنمية العالمية والبيئة وحقوق الإنسان والمرأة والسكّان، وغيرها.
غصّة كبيرة خلّفها رحيل مقصود بين أصدقائه ومحبّيه. على صفحته في فيسبوك كتب المفكر العربي عزمي بشارة: “شاءت الأقدار أن يغادرنا الصديق العزيز كلوفيس مقصود في يوم النكبة، وهو الذي بذل جل وقته من أجل فلسطين، وسخر في خدمة قضيتها قدراته الجمة وثقافته الواسعة العميقة”.
ويضيف بشارة:”منذ مرضه الأخير اقتصر تواصلنا على الهاتف، وقد كنا نلتقي بانتظام في واشنطن والقاهرة وعمّان. لقد فقدنا في هذه الأثناء أصدقاء مشتركين (بعضهم فقدناه بأكثر من معنى)، لكن قوة وحرارة صوته على الهاتف ترفع معنوياتك. كان في الأشهر الأخيرة، وهو على فراش المرض، يكتب مقالاً أسبوعياً في صحيفة “العربي الجديد” بهدف التذكير بمركزية قضية فلسطين حتى في الظروف الحالية التي تمر بها الأمة”.
ترجم صاحب كتاب “صورة العرب” قناعاته الفكرية مستنداً إلى دراسته، وهو الحاصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة جورج واشنطن، وتركّزت اهتماماته على البحث في متغيرات النظام العالمي بتكييف مرافعة حقوقية لصالح العرب في صراعهم المديد مع “إسرائيل”، وفي تأسيس خطاب تشتمل رؤيته ومصطلحاته بما يؤثر في الرأي العام الغربي.
بُنيت مواقفه السياسية في سياق عقلاني لا يرى إمكانية التغيير بناء على حماس عابر، وهو الذي قرأ في تجربته من داخل الجامعة العربية وسفيراً لها في الأمم المتحدة كم أهدر العرب من فرص لم يغتنموها، وكم فقدوا من قدرة على التأثير بسبب اختلافاتهم، وهو ما جعله يقدّم استقالته من منصبه حين رأى كيف رفضت الحكومات العربية إيجاد حلّ عربي لأزمة الخليج عام 1991، وكان ممكناً، واستبدلته بتدخل خارجي.
أيّد صاحب كتاب “أزمة اليسار العربي” الثورات العربية، وكتب منتقداً أي اختطاف لها باسم الهويات الفرعية، مؤكداً “أنه حيث تم تجاوز الانتماءات الضيقة – المذهبية والقبلية والطائفية – العرقية، كانت المناعة، وبالتالي مهدّت للربيع الواحد في أرجاء الأمة”.
ومن نافل القول أن مقصود، المسيحي ديانة، قد تزوّج من هالة سلاّم، المسلمة عام 1974، حيث أنهى والدها اعتراضات الأهل على زواجهما بالموافقة لأن عروبة كلوفيس تعفيه من أي جدل، واستمر زواجهما 28 عاماً حتى وفاتها عام 2002.
طوال تسعين عاماً لم تغب فلسطين عن خاطر المفكّر العربي، وقبل وفاته بعامين كان قد نشر مذكراته التي حملت عنوان “من زوايا الذاكرة ـ رحلة في محطات قطار العروبة” (2014 الدار العربية للعلوم)، وهي تتبع مراحل حياته من لبنان إلى مصر فالهند فالولايات المتحدة فالاستقالة من العمل السياسي والتفرّغ للتدريس والكتابة والمحاضرات.
في مذكراته ثمّة ناسك يراجع حياته؛ بفشلها ونجاحاتها، من دون يغادره الأمل للحظة، ويظلّ يؤكد ويكرر أنه لم يفقده، وأن “هناك ما زال من الظواهر ما نستطيع أن نفعّـلها حتى تستقيم المعادلة كي نسترجع البوصلة من خلال عودة القضية الفلسطينية “كبوصلة” وقضية مركزية تتجاوز كل النتوءات وتُوحّد الجماهير”.
كما يشير إلى أنه منذ عام 1948 وإلى اليوم هناك إجماع على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وأن يكون لهم كيانهم المستقل الذي يتمتع السيادة ويجب أن تستعيد القضية الفلسطينية قدرتها على الإلهام من خلال استرجاع وحدة المرجعية أولا وغلق باب الانقسام ومن خلال استرجاع مصر لدورها التاريخي، وأن يكون لدينا القدرة على إنقاذ اليمن من محنته الحالية التي تمثّل أعلى مراحل الاستقطاب في العالم الإسلامي.
رحلة مقصود المديدة ومحطاتها الكثيرة بدأت وانتهت دفاعاً عن عروبته وعن فلسطين.
صحيفة العربي الجديد