رغم تقارب الألفاظ، فإن الحوكمة تختلف عن الحكومة وحتى نظام الحكم. فالحكومات تأتي وتذهب، لكن نظام الحكم باق. ستنتهي حكومة أوباما مع نهاية هذا العام، لكن إذا فازت هيلاري كلينتون، فإن الحزب الديمقراطي سيستمر في الحكم، لكن بحكومة جديدة، أما إذا فاز مرشح الحزب الجمهوري، فستتغير الحكومة والحزب الحاكم، لكن يستمر نظام الحكم الأميركي كما هو، لكن حتى إذا تغير نظام الحكم، كما حدث في بعض الدول العربية بعد «الربيع العربي»، فإن متطلبات الحوكمة باقية. بمعنى آخر تتعدى الحوكمة كلاً من ظاهرة «الحكومة» أو نظام الحكم، ملكياً أم جمهورياً، دكتاتورياً أم ديمقراطياً. فماذا يعني تعبير الحوكمة إذن؟ ومتى ظهر إلى الوجود؟ ولماذا يكثر استخدامه من جانب المنظمات الدولية وفي أجهزة الإعلام المختلفة؟
على عكس ما هو شائع، فإن قدماء الفلاسفة اليونانيين استخدموا المفهوم، لكن أول استخدام حديث وصريح للتعبير نفسه يعود إلى ما يقرب من قرن ونصف -معتمداً على التعبير اللاتيني- بواسطة الإنجليزي تشارلز بلمر، وكان استخدامه قريباً مما نعرفه الآن بنظام الحكم، لأنه تكلم عن النظام الملكي والنظام الجمهوري. وعاد التعبير إلى الظهور في سنة 1904 في صورته الإنجليزية، وليست اللاتينية، وانتشر بين المؤرخين البريطانيين بهذا المعنى، لأنهم أكثروا من استخدامه في سياق مناقشة الموضوعات الدستورية.
عند العودة لاستخدام التعبير في بداية التسعينيات من القرن الماضي، اختلف المعنى لأن مصدره اختلف، لم يكن المصدر هو الفقه الدستوري أو حتى الفلسفة السياسية، بل علم الاقتصاد. ويعكس هذا التغير في مصدر المفهوم ظاهرة عامة في التحليل الاجتماعي: توغل الاقتصاد ومفاهيمه على أساس أن علم الاقتصاد أكثر العلوم الاجتماعية تقدماً من ناحية المنهج. لقد استخدم الاقتصاد منذ فترة مفهوم الحوكمة أساساً في معالجته السيطرة على السوق، والذي هو أساس الفكر الاقتصادي عند الكلاسيكيين منذ القرن الثامن عشر. ومن هنا أصبح معنى الحوكمة عمليات وسلوكيات إدارة السوق والهيئات والمؤسسات والجماعات المختلفة، بما فيها الدولة، وأساس هذه الإدارة هي الناحية العقلانية، كما هو الحال في البناء على أساس الاقتصاد، وهو المستهلك العقلاني الذي يشتري أفضل بضاعة بأرخص سعر. ثم تطوّر هذا الفكر الاقتصادي ليؤسس نظرية سياسية هامة، وهي الاختيار العقلاني كوسيلة لاتخاذ القرار. وبالإضافة لتأثير علم الاقتصاد، جاء سياق العولمة ليؤكد أهمية توسيع مفهوم الحكومة ليشمل الحوكمة، بمعنى التعامل مع كثرة المشاكل وتشعبها وترابطها بحيث يصبح يتعدى مفهوم الحكم جزءاً أو مستوى محدوداً مهما كانت المشكلة التي يجب التعامل معها.
وهذا هو مربط الفرس في الأزمة العربية: لا يزال معظمنا، سواء في دوائر الحكم أم خارجها، يلتزم بالنظرة الأسهل: النظرة الجزئية المباشرة كأن الأمور في الواقع منفصلة بعضها عن بعض بدلاً من الترابط داخلياً وخارجياً، وكذلك بين المستويين. فمثلاً أزمة المهاجرين التي تسيطر على أوروبا الآن، هي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بما يحدث في سوريا والعراق. شرارة «البو عزيزي» الذي أضرم النار في نفسه في الجنوب التونسي أشعلت حريق «الربيع العربي» لأنها عكست شعوراً عاماً في المنطقة العربية يربط بين بطالة المتعلمين وإهدار الكرامة في أقسام الشرطة، ثم الفساد المتفشي الذي يزيد الهوة بين فاحشي الثراء والمعدمين الذين يعيشون على الخبز المدعوم.
الحوكمة إذن هي الإحاطة بأي مشكلة من كل جانب وعلى المستويات المختلفة، من السياسة إلى المجتمع عموماً، ومن قمة هرم الجهاز السياسي إلى المستويات الدنيا والإلمام بالترابط والتشابك بينها جميعاً، داخلياً وخارجياً.
كانت مطلوبة في الماضي وأضحت ضرورة في ظل ظاهرة القرية العالمية. فهل يستطيع العرب الالتزام بالحوكمة كمنهج للتعامل مع أزمتهم التي تزداد تراكماً وتعقيداً؟
د.بهجت القرني
صحيفة الاتحاد