أصبحت المسألة الطائفية واقعا لازما للخطاب الديني- السياسي العربي اليوم. وكان لافتا في خطاب تنحي/ سحب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ترشحه لولاية ثالثة، تكرار كلمة الطائفية التي نسبها لدول معينة لا تريد للعراق الذي «بناه» المالكي وعمر شوارعه وملأ جامعاته وخزينته من الاستثمارات الخارجية وليس لسياساته التي انتهجها. الطائفية في العالم العربي ليست جديدة، فهي جزء من تركيبته الاجتماعية والثقافية نظرا للتنوع الديني والإثني لسكان العالم العربي، وطوائف هذه المنطقة ضاربة في التاريخ ووجدت في الماضي صيغة للتعايش والتعاون بينها طوال فترات التاريخ أيا كانت أشكال الحكم فيها، لكنها تحولت في العصر الحديث لوسيلة لدخول الدول الغربية للعالم العثماني وباسم حمايتهم حصلت الدول الغربية الناهضة على الامتيازات التي أسهمت في ربط الطوائف غير المسلمة بالمشروع الرأسمالي الغربي. هذا كان شأن الطائفية السابق وكانت حرب الطوائف في لبنان دليلا على هذا لكنها اضطرت بعد 15 عاما للتعايش فيما بينها. والطائفية اليوم في العالم العربي هي النزاع السني- الشيعي والذي أطل برأسه وبقوة بعد الغزو الأمريكي للعراق حيث بنى الأمريكيون على ركام صدام نظام محاصصة طائفية أدى لصراع وعملية قتل واسعة للسنة باسم سياسة اجتثاث البعث وتوسعت هذه الحرب بعد الانتفاضة السورية ضد نظام حكم الطائفة العلوية التي هي أحد الفروع الشيعية المتطرفة. ولا ننسى النزاعات الأخرى في اليمن بين الحوثيين والحكومة أثناء حكم علي عبدالله صالح ولا تزال المسألة قائمة حتى بعد رحيله، والمطالبة بالتغيير في البحرين التي تأثر سكانها الشيعة بالربيع العربي وطالبوا بالتغيير.
نزاع سياسي
في كل هذه النزاعات التي فاقمها التدخل الغربي في العراق وأعطى الشيعة باسم المظلومية التاريخية لواء حكم العراق عادة ما أشير للتنافس السعودي- الإيراني وعوامل الهيمنة وتحقيق السيادة، فالسعودية أكبر دولة منتجة للنفط وترى حقا في زعامة العالم الإسلامي باعتبار الحرمين في مكة والمدينة مركز توجه المسلمين في العالم. أما إيران فهي الدولة الشيعية الوحيدة في العالم وتعتبر نفسها منذ الثورة الإيرانية المدافعة عن حقوق الشيعة في العالم. وحاولت بعد الثورة تصدير نموذجها وهو ما قاد للحرب العراقية – الإيرانية التي خاضها صدام حسين نيابة عن الدول العربية في حرب عبثية استمرت 8 أعوام. وأمام التهديد الإيراني وجد علماء السعودية في نقد أو نقض الإيمان الشيعي وسيلة للتحشيد حيث دفعوا باتجاه تأليف كتب تبحث في الإيمان الشيعي واشتهرت كتب من مثل «وجاء دور المجوس» وغيرها رغم أن الإسلام السياسي رحب بالثورة باعتبارها انتفاضة على نظام ديكتاتوري شاهنشاهي. والهجمة السعودية نابعة من النظرة للشيعة في الفكر الوهابي باعتبارهم غير مؤمنين، وهو موقف الشيعة نفسه من المسلمين الذين لا يؤمنون بنظرية الإمامة التي يقوم عليها التدين الشيعي.
دور الفرس في التشيع
والدور الإيراني اليوم في المشاكل العربية نابع من البحث عن المصالح سواء في الدول التي تعيش فيها أقليات شيعية كبيرة مثل لبنان أو تحكمها طوائف مثل سوريا وما يجري اليوم في العراق. إلا ان الدور الإيراني في تأسيس الفكر الشيعي يظل منطقة غير معروفة، ونعني هنا التجليات الإيرانية على مفاهيم التشيع والتي تطورت عبر القرون وحتى قبل أن يتم تحويل إيران- فارس من منطقة سنية شافعية إلى دولة تدين بالإمامية عندما قام إسماعيل شاه الصفوي الخارج من معطف التصوف وقرر في حربه مع الأتراك العثمانيين إجبار السكان السنة على التشيع. وبدخول إيران في التشيع بداية القرن السادس عشر بدأ التشيع للأمام علي وذريته رضي الله عنهم يتلبس شكلا جديدا من الطقوسية والشعائرية التي لعبت على عواطف الجماهير المرتبطة بآل البيت خاصة الإمام الحسين الذي قتله الجيش الأموي التابع ليزيد بن معاوية في كربلاء. ومن أجل تأكيد الرسوم الشيعية على إيران أرسل الشاه إسماعيل مبعوثا خاصا لأوروبا حيث جاءت فكرة الذنب وجلد «التطبير وضرب الرؤوس» النفس وضربها من المسيحية والتقطها هذا المبعوث الوزير في روما، وكذا جاءت فكرة تقديس الإمام الحسين من الهند عندما تحول الإسماعيليون وهم طائفة أخرى من طوائف الشيعة واقبتسوا هذا الطقس من الهنود الذين اشتهرت بينهم عادة المشي على النار وهم حفاة الأقدام.
وفي ظل الدولة القاجارية التي أدخلت إيران في فترة من الحداثة تحولت مجالس العزاء الحسيني الى مظهر مسرحي ولم تعد مشهدا شعبيا يعيد فيه الشيعة أحداث استشهاد الحسين، بل صارت المسارح التي أقيمت على الطراز الأوروبي مركزا لإعادة تمثيل هذا الطقس السنوي الذي يمتزج فيه الدم بالدموع والعواطف الحارة والطعام الذي يقدم في هذا المشهد الطقوسي. ومن هنا فقد دخل الإيمان الشيعي في الهوية القومية الإيرانية فصار التشيع تعبيرا عن الهوية الفارسية وتشكل في تطوره خلال القرون بالطريقة التي نظرا فيها الفرس للشعوب الأخرى خاصة العربية. فالعرب في الفكر الفارسي هم أعراب الجزيرة الفقراء الذين يأكلون الضباع والسحالى ويشربون لبن النوق، وهم الذين قاموا بدك حصون الدولة الفارسية والبيزنظية العريقيتين ولكن تحت راية الإسلام بعد أن تخلت بعض قبائلهم عن دور الدول المتاخمة الحامية لمصالح الدولتين سواء كانوا مناذرة ام غساسنة. وتتلون كتب المفكرين الإيرانيين المعاصرين والقدماء بهذا اللون المتحيز ضد العرب.
شريعتي والحسين الثائر
ولعل أول من فهم الأثر الصفوي على التشيع الحقيقي وبطبيعته الحقيقية باعتباره تشيعا للحق ضد الظلم كان المفكر الإيراني علي شريعتي مؤلف كتاب بهذا المعنى وهو «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» والذي انتقد فيه المظاهر الطقوسية التي أثرت على المعنى الثوري العلوي والحسيني للتشيع. وقدم الكثير من الأمثلة على هذا الأثر. وكان شريعتي وهو المعارض السياسي لنظام الشاه والفيلسوف الإجتماعي ومات في ظروف غامضة في لندن، ينظر للحسين كنصير للمظلومين ويدعو كل الشيعة لاتباع الحسين الثائر لا تشيع الصفويين الفاسد. وتفكير شريعتي يشير للطريقة التي انحرف فيها الفكر الشيعي عن منبعه الأصلي بسبب الصفويين. ومقابل الأثر التشيع الصفوي يناقش كثيرون أن التشيع العربي مختلف، فهو لا يرفض الآخر بناء على نظرته القومية وأصوله بل يلتزم بالعالمية التي يدعو إليها الإسلام وهو تشيع متسامح. والتشيع خاصة في العراق ظل يعبر عن تقاليد القبيلة العربية وارتباطها بالوطن، وعادة ما يشير المؤرخون للدولة العراقية الحديثة الى ثورة العشرين التي قاتل فيها سكان الجنوب الشيعة الإنكليز، ومن هنا ظلت العروبة والانتماء للهوية العربية هاجسا لدى شيعة العراق، ولا بد من الإشارة إلى أن بعض القبائل العربية تشيعت حديثا هربا من الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني. والإرث التاريخي يتناقض مع ممارسات الشيعة في الحكم وبعد سقوط صدام حسين حيث قادت البلاد لم يعد يهمها الامتداد العروبي للعراق ورهنت مصيرها ومصيره بما تقرره طهران.
بين فكرتين
وفي بحثه عن أصول التشيع الأصيل قام الباحث العراقي نبيل الحيدري بدراسة مهمة بهذا الشأن. وكتابه حافل بالنصوص، والباحث على إطلاع واسع على المراجع الإيرانية والعربية والإنكليزية وقدم الكيفية التي أصبحت فيها كتب الفقهاء والمحدثين الشيعة المعيار الرئيسي لإيمان الشيعة. ويعيد الانحراف في الفكر الشيعي للفترة البويهية منتصف القرن الحادي عشر حيث تحالفت السلطتان الدينية والسياسية وتم فيها تشييع غرب إيران وبغداد وألف علماء الفرس الكتب الأربعة في الفكر والفقه الشيعي للقمي والكليني والطوسي والشيخ الصدوق، وفي هذه الفترة تم التلاقح بين الفكر والعقيدة والتراث الفارسي.
ثم جاء الصفويون في الدور الثاني وواصلوا رحلة الانحراف، وقاموا بالسيطرة على كربلاء والنجف. وانتشرت في هذه الفترة بسبب التنافس مع الدولة العثمانية من مثل اللعن وطقوس الكراهية وأسست المجامع الحديثية الكبرى كالبحار للمجلسي والوافي للكاشاني. وامتلأت الكتب هذه باللعن والسبب والتطاول على الخلفاء والصحابة. وتظهر دراسة الحيدري أن التقاليد هذه استمرت حتى اليوم ويمكن رصدها في كتابات مفكر ومرشد الثورة الإيرانية آية الله الخميني ولم يسلم من هذه النزعة سوى قلة من مفكري إيران. فإضافة لعلي شريعتي هناك محمد صالح المازانداني وابراهيم جنتيي والمقفع وعبدالكريم سروش. ويرى الكاتب هنا إن نزعة التسلط وقهر السنة وحلم الشاه إسماعيل بالانتصار على العثمانيين وغزو جزيرة العرب دفعته للتراسل مع البرتغاليين.
دراسة نقدية
وقدم الباحث دراسة نقدية لعدد من معالم التدين الشيعي من التقية التي رأى أنها تخالف فكر الإسلام الداعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقوة أمام الضعف، وكيف أن الأئمة أنفسهم كانوا رافضين للفكرة مع أن مفهوم التقية ينسب للإمام جعفر الصادق. وحاول فهم تطور فكرة التشيع من الإمام علي وتتتبع الفكرة التي كانت في أصلها «نصرة» للإمام وتشيعا ودعما لحقه ومن ثم تحولت إلى نزعة متطرفة أضفت على الإمام علي الوهية، مشيرا الى ما قام به عبدالله بن سبأ في هذا المجال رغم الغموض الذي يكتنف شخصيته ومصيره. ويعالج الكاتب هنا قصة زواج الإمام الحسين بشهربانو بنت يزدجر وكيف اتخذتها المصادر الفارسية تكأة كي تربط فيها الفرس بالدوحة النبوية وتبعات هذه الزيجة على موقف عمر الخليفة الثاني الذي نظرت إليه الكتابات الشيعية كعدو للفرس ومهلك لدولتهم. ويقدم في هذا السياق قراءة لحركات الغلو والتطرف التي ظهرت في العصر العباسي باسم آل البيت مثل الخرمية والرواندي. ويحلل بتفصيل الكتب الأربعة الحديثية وهي «الكافي» للكليني و« من لا يحضره الفقيه» للقمي و«تهذيب الاحكام» و«الاستبصار» للطوسي. ويشير لقضية «الفرقة الناجية» التي نشأت حولها عدة فرق بعضها دالت ثم زالت وبعضها لا يزال موجودا وعلى غلوائها مثل العلوية في تركيا والنصيرية في سوريا. ومن القضايا التي يبحثها الكاتب فكرة تحريف القرآن وأن حجمه الحقيقي أضعاف ما بين يدينا وعلى العموم وترتبط بهذه المسألة نظرة الفكر الشيعي الذي يقول الكاتب إنها متصلة بنظرة الشيعة للتوحيد والنبوة حيث تحل بعض الكتابات الشيعية الإمام بمنزلة أعلى من الرسول.
نقد
ويحفل الكتاب بالكثير من القضايا وفيه دفاع عن التشيع الحقيقي في صورته الأصلية وكيف أن قلة من الفقهاء الشيعة العرب من مضوا في السبيل نفسه الذي رسمه فقهاء قم، وأن هناك أفكارا نقدية جادة من مفكرين شيعة في لبنان والعراق ممن تصدوا للغلو في هذا الفكر منهم محمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين كاشف الغطاء وغيرهم. أهمية هذه الدراسة أنها تأتي في وقت مهم تمر فيه العلاقات السنية- الشيعية بتوتر شديد، وتستخدم في هذا التوتر كل ادوات التحريض والكراهية، والكاتب هنا في اقتباساته ونصوصه لا يعمم بل هو ملتزم بفكرة الانحراف التي يرى بعض المستشرقين أنها بدأت منذ أن حمل المختار الثقفي راية الانتقام لدم الحسين المهدور. فكما هو الحال فهذه الكتابات المغالية تعبر عن الكيفية التي وظفت فيها السلطة رجال الدين للعب على عواطف المؤمنين والطبقات الشعبية منهم حيث يتم توظيف الطقوس كلها من أجل هدف واحد وهو تأكيد الاستقطاب الطائفي والمذهبي ورفع درجة الكراهية من خلال تصوير مأساة أحفاد النبي وآل بيته وهم يقتلون وتكسر أضلعهم وتحرق خيامهم في دراما مثيرة يلعب فيها «الشاعر الحسيني والرادود الحسيني والمواكب والمشاهد الحسينية وأخيرا القنوات الفضائية الحسينية دورا في التحشيد. وداخل هذا المشهد المليء بالدموع وتعنيف الذات والندم على حفيد خير المرسلين هناك أصوات تدعو للتعقل وتقرأ خلف هذا الركام من التراث الديني الذي ولد في ظروف تاريخية معينة». ومن هنا فما جاء في الدراسة يجب أن ينظر إليه بهذه الطريقة وبرؤية نقدية تتعالى على النزعات الشوفينية والقومية وتغلب ثقافة التسامح والحوار فنحن في النهاية أبناء أمة واحدة.
إبراهيم درويش