بعد الورقة اللبنانية، تليها السورية، وقبْلها العراقية، فالورقة اليمنية، فضلاً عن الورقة الغزاوية الحمساوية، ها هو صاحب الأمر والنهي في النظام الخميني – الخامنئي – الحرسي يرمي بالحج الفريضة التي لا تُمس، شأنها شأن الصلاة فجرًا وظهرًا وعصرًا ومغربًا وعشاءً، وإلاَّ فإن المسلم منقوص الواجب الديني، ورقة في الميدان الذي يصول فيه ويجول، وتصل فيه الجولات إلى أنه لا يرحم، ويحاول منْع رحمة الله عن عباد صالحين يريدون قبل أن يحين الأجل، ولا يعود الجسم قادرًا على المشقة، تأدية الفريضة وطلب المغفرة من رب العالمين. والأرجح بالنسبة إلى إخواننا الإيرانيين الذين يمنون النفس بتأدية الفريضة من دون شحْنهم مذهبيًا وسياسيًا، الطلب في أدعيتهم وهم يطوفون أو خاشعون فوق عرفة، من الله سبحانه وتعالى أن يجعل الوعي يأخذ طريقه إلى أهل القرار في إيران، ويهدئ من هذا الغليان الثوري، ويتصرف هؤلاء بما يرضي الله ورسوله، فلا تستمر تلك الأوراق التي أشرنا إليها تمعن تعطيلاً لقرار سيادي في لبنان، وإطباقًا على إرادة سياسية في العراق، ومصادرة قرار لرئيس النظام في سوريا، وبعثرة لأحوال الشعب في اليمن، وإيهامًا للغزاويين الحمساويين، والشلحيين بوجه خاص، بأنهم سينالون المطالب ما دام الفلسطيني الغزاوي لا يندمج مع شقيقه الذي في رام الله وسائر الأشقاء في فلسطين المحتلة.
ما يعنينا تحديدًا هو هذه القساوة في عقول أهل النظام الإيراني، وبالذات أولئك الذين يمارسون لعبة الأوراق التي أشرنا إليها. ويصعب على المرء، مثل حالنا، رؤية هذا التصرف يحدث، والمتمثل في أن النظام يستعمل فريضة الحج ورقة في مسلسل صراعاته، وكأنما هذا الاستعمال سلطة يملكها خصه الله بها.
في استطاعة الآمر الناهي أن يمارس لعبة الأوراق على أنواعها، حتى إذا كانت شكلية، لكن أمره ونهيه فيما يخص فريضة الحج يصبح نوعًا من التدخل في شأن ديني قرآني.
قد يقال إن النظام في إيران يعيش بدل الحالة الواحدة حالات من الارتباك، بدأت مع الاتفاق النووي الذي ظاهره انتصار، لكنه في الحقيقة مكبل بقيود، إحداها ما يتعلق بالأموال الإيرانية المجمَّدة التي ما إن بدأ النظام يمنّي النفس باستردادها، وبذلك يحل ما تكاثر من الصعوبات واستحقاقات الالتزامات، حتى اقتحم ساحة العلاقات التوجه القضائي لدفع تعويضات إلى ضحايا أميركان. وإذ إنه في حال سيتم التعويض، فإن الأموال المجمَّدة قد لا تكفي، فضلاً عن أن مبدأ التعويض سيفتح الباب أمام المزيد من القضايا داخل أميركا، وفي دول كثيرة تضررت مصالح فيها، أو أفراد قُتلوا أو أصيبوا بتشوهات نتيجة أعمال وعمليات قامت بها جماعات محسوبة على النظام الإيراني. وهنالك على ما يجوز الاعتقاد ملفات كثيرة في الأدراج ستخرج تباعًا، ولن يحول دون ذلك أن النظام في إيران سيتجه بدوره لرفْع دعاوى مضادة لاسترداد المجمَّد من الأموال. وللتغطية على ذلك، لا بد من ورقة تكون هي الشغل الشاغل للناس.
وقد يقال إن الدور الإيراني في سوريا عالق بإذ إن ما أمكن تحقيقه حتى الآن هو إبقاء الوضع السوري في الحالة السيئة التي هو عليها، فضلاً عن أن الشريك الروسي أقل خسرانًا في حال انسحب من الساحة، فيما انسحاب إيران من سوريا هو كما انسحابها من الارتباط بالحمساويين الممسكين بغزة، وكما انسحابها من خوض معركة الحوثيين في اليمن.. كلها انسحابات تعني أن استعمال هذه الأنظمة والأطراف طوال عشر سنين انتهى إلى خسارة، ولذا لا بد من ورقة لتغطية ذلك في انتظار حدوث مخارج تقلل من حجم الخسارة.
وقد يقال إن الانتخابات الإيرانية التي جرت قبل أسابيع أفرزت حالة لم تكن في الحسبان، تتلخص في أن بداية صحوة حدثت في أوساط الرأي العام تمثلت بعض ملامحها باصطفاف إلى جانب الإصلاحيين، بما يعنيه الإصلاح من صلاح في النهج الجديد، بحيث يتراجع الصقور من حرسيين ورجال دين أمام معتدلين. وكان واضحًا أن المرشد علي خامنئي وجد نفسه مدعوًا إلى أن يأخذ هذا التبدل في الاعتبار، لكن وطأة النجاح المتشدد وتحليلاته شخصيًا للموقف التي يستند فيها إلى أن إضعاف هذا الجناح سيعني ولادة حالة في إيران كتلك التي ارتبطت بشخص غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي، وهذا يعني حدوث زلازل متقطعة، وينتهي الأمر إلى أن المشروع الإمبراطوري الشيعي، الذي بدأه الإمام الخميني واستأنفه وريثًا المرشد خامنئي، سيذبل وستتطاير كل الأوراق التي أشرنا إليها. لذا، في انتظار نضوج سيناريو جديد، اختار فريق خامنئي داخل «مجلس الخبراء»، الذي هو السلطة الأساس في تعيين مرشد الجمهورية، الشخص الأكثر تشددًا «آية الله أحمد جنتي»، الأكبر سنًا بين الأعضاء الخمسة والثمانين (89 سنة، ويكبر خامنئي بثلاث عشرة سنة) رئيسًا للمجلس، إضافة إلى رئاسة مجلس صيانة الدستور، المكلَّف بالإشراف على الانتخابات «والتثبت من مطابقة القوانين التي يقرها البرلمان للدستور ولتعاليم الإسلام». واختيار جنتي بالذات، إلى جانب ما يتعلق بالإجراءات المتعلقة بالحج، ورقة تستهدف إرباك المتطلعين إلى نهج إصلاحي يبدأ بتطبيع متدرج للعلاقات مع السعودية وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، ومع الولايات المتحدة، قبل أن تأتي إدارة قد تكون أكثر تشددًا مع النظام المبتهج بالاتفاق النووي من إدارة الرئيس أوباما الذي يجهز نفسه للانصراف من البيت الأبيض إلى البيت الذي استأجره في واشنطن. ومن باب إرباك المتطلعين بأن يشكل الفوز الذي حققه رموز الاعتدال النسبي في حلقات النظام انحسارًا لتأثير «الحرس الثوري»، وفاتحة للتطبيع المتدرج مع الإدارة الأميركية ودول الخليج، وبداية «الربيع الإيراني» الثاني بعد ذبول المحاولة السابقة، وإيداع قطبيْها مهدي كروبي ومير حسين موسوي في الإقامة الجبرية للسنة السادسة على التوالي، يفاجئ وزير الدفاع الجنرال حسين دهقان، وزميله في الحرس الثوري الجنرال عباد الله عبد اللهي، الأطياف المتطلعة إلى ما نفترضه «الربيع الإيراني»، وإلى الخائفين على المتجمد من الأموال، ما يعني أن الضائقة الاقتصادية ستدق أبواب النظام بقوة، بأن «مقر خاتم الأنبياء» التابع ـ«الحرس» حدد عشرة مشاريع تنموية عملاقة غير مكتملة في إيران، أنفق عليها 25 مليار دولار «وسيدر على البلاد عوائد سنوية قيمتها 40 مليار دولار»، لكن لا بد لاستكمال المشاريع في غضون سنتيْن من تمويل بين خمسة وسبعة مليارات دولار. وتدعيمًا من وزارة الدفاع لهذا التوجه، كي لا يبدو «الحرس» كما لو أن ما يعلن عنه ويطلبه هو كمن يبيع سمكًا في البحر، فإن الجنرال دهقان أوحى من جانبه للإيرانيين الواعدين أنفسهم بانفراجات أن أوراق النظام الحربية باقية، وهذا واضح في قوله «إن حجم إنتاجنا تضاعف مرات، وتحسنت جودة منتجاتنا بشكل كبير، ولن تكون هناك بعد الآن أي مشكلة أو نقصان في تأمين صواعق التفجير للقنابل وقذائف الهاون والمدفعية والصواريخ، وإن التكنولوجيا المتقدمة المستخدَمة في إنتاج هذه الأسلحة عززت قدراتها في شكل ملحوظ، وهذا سبب الطلب الضخم عليها…». والغرض من هذه «البشائر» مزدوج، من جهة «بشرى» للإيرانيين لأنهم بعد صبر لمدة سنتيْن، وتخصيص سبعة مليارات دولار تضاف إلى أربعين مليارًا أُنفقت، سينعمون من خلال بيع السلاح إلى الخارج ـ«الرخاء». ورسالة إلى الساحات التي يجربون فيها منذ عشر سنين أوراق بناء «الإمبراطورية الشيعية» بأن على الرئيس بشَّار أن يصمد، وعلى «حزب الله» أن يتحمل، وعلى الأطياف الإيرانية الهوى في كل من العراق واليمن وغزة، وحيث وُجدت، ألا تيأس لأن المشروع الإيراني لم يكتمل بعد. كما أنها رسالة إلى الرئيس روحاني، ومنه إلى الذين يلتفون حوله، وأيضًا إلى الرافسنجانيين، أبًا وابنة وابنًا، ومن يلوذ بهم، بأن يتأكدوا أن اختيار آية الله جنتي بالذات رئيسًا لمن سيواصل بعد خامنئي يعني أن لا صوت يجب أن يعلو على صوت استكمال مشروع التدخل الإيراني في شؤون الآخرين، سواء كان التدخل من خلال الخاصرة اليمنية، أو من خلال الكتف العراقي، وكذلك من خلال أي مسعى حميد تقوم به السعودية من أجل استعادة الأشقاء التائهين المحلقين في الفضاء الإيراني إلى العروبة.. بيتهم الحقيقي.
خلاصة القول إن حرمان بضعة ألوف من الإيرانيين من تأدية الفريضة، هو مثل حرمان مؤمنين من أداء الصلاة، وهو مثل «تحريم» تلبية قيام وزير الخارجية محمد جواد ظريف دعوة وجَّهها إليه وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، قبل سنتيْن لزيارة المملكة، والتحادث في كل القضايا العالقة. ولقد رحل الأمير سعود، وبقيت الدعوة قيد «التحريم»، إلى جانب حرمان الألوف من الإيرانيين الذين كانوا يمنون النفس بتأدية فريضة العمر.. إنما من دون هتافات ومسيرات. وهكذا يكون الحج في يد النظام الإيراني ورقة، وليس فريضة.
فؤاد مطر
صحيفة الشرق الأوسط