تتميز بريطانيا عن غيرها من دول العالم الغربي وتحديدا الاتحاد الأوروبي بأنها أكثر الدول انفتاحا وتقبلا للمهاجرين، ومن بينهم العرب والمسلمون، حيث يحظى المواطن البريطاني من أصول أجنبية والمهاجرون الجدد بمزايا لا تختلف عن المواطن الأصلي من ناحية الحقوق والواجبات في ظل دولة القانون، بالإضافة إلى أن المجتمع البريطاني منفتح على الآخر بغض النظر عن أصوله ودينه وعرقه، سواء في الحياة الاجتماعية العامة أو في نواحي العمل المتعددة في القطاعين الحكومي والخاص.
ويحرص القانون البريطاني منذ فترة طويلة على “تساوي الفرص” في عملية انتقاء العاملين والموظفين بناء على الكفاءات وليس بناء على أي اعتبار آخر، بل في بعض الأحيان هناك تأكيد على ضرورة أن يكون الموظفون في أي شركة متعددي الأعراق والأديان درءا لأي فرصة قد يستخدمها أحد للتحريض العنصري أو الديني بالادعاء أنه تم إقصاؤه بناء على اعتبارات عنصرية تفاضلية حسب ولاءات دينية أو مذهبية أو عرقية.
وتعتبر بريطانيا من أكثر الدول الأوروبية جذبا للخبرات من المهاجرين ومن رؤوس الأموال نظرا للمناخ الاستثماري المستقر والمتنوع وموقعها داخل الاتحاد الأوروبي الذي يعطيها الفرصة لتكون منصة لانطلاق الخدمات والمنتجات التي يستثمر بها رأس المال الأجنبي نحو أوروبا السوق الأكبر في العالم المتقدم.
بريطانيا بعد الاتحاد الأوروبي
هل ستبقى بريطانيا (المملكة المتحدة) التي نعرفها كما هي في حال خرجت من الاتحاد الأوروبي؟
من خلال نظرة واقعية وتحليلية لمستقبل بريطانيا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، سيكون البلد مختلفا بنسب متفاوتة من ناحية زوال الكثير من المزايا الإيجابية التي جعلت من بريطانيا موطن استقطاب بالنسبة إلى الأجنبي. وستكون الآثار المترتبة على ذلك سلبية على المدى المتوسط والبعيد.
وقد استفادت الجالية العربية بتنوعاتها من البيئة المتسامحة لدى المجتمع البريطاني الذي لم يتدخل في شؤون ونمط حياة الجاليات الأجنبية، إلى درجة أنه من الممكن أن تجد بعض الأحياء تنقل طابع بلادها إلى لندن، مثل “الحي الصيني”، وشارع “ادجوير رود” أو ما يسمى “شارع العرب”، ولكن هذه الحالة قد تتغير مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بنسب متفاوتة.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعل جناح السياسيين المتشددين الطرف الأقوى في المشهد السياسي
وفي ظل الاستعداد للاستفتاء الشعبي لدى البريطانيين حول ما إذا كانت بريطانيا ستبقى في الاتحاد الأوروبي ظهر تياران، الأول يدعو إلى بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد ويتمثل في مجموعة من السياسيين المعتدلين سواء من حزب المحافظين الحاكم أو حزب العمال المعارض، وتجمعهم قضية أن بريطانيا ستحافظ على كل المكتسبات التي حققتها في حال بقيت ضمن الاتحاد.
ومن الشخصيات البارزة التي تدعم هذا التيار رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون الذي وضع خلافه السياسي مع بعض مكونات حزب العمال المعارض جانبا، ومن أبرز أعضاء حزب العمال رئيس بلدية لندن صادق خان (ذو الأصول المسلمة الذي تغلب في الانتخابات على خصمه من حزب المحافظين).
وأطلق الرجلان دعوة مشتركة لبقاء بريطانيا في الاتحاد، مع تصاعد الهجمات ضد كاميرون من داخل حزبه (وتحديدا من المحافظين المتشددين من أبرزهم بوريس جونسون العمدة السابق لمدينة لندن).
وقال كاميرون في تظاهرة شعبية لحملته لدعم البقاء في الاتحاد الأوروبي إنه ورئيس البلدية الجديد في لندن (عمدة المدينة) يؤيدان احتفاظ بريطانيا بعضويتها في الاتحاد “لأننا نحب بلدنا ونريد أن تكون على أفضل ما يكون”، وذلك بعد أسابيع من اتهامه لخان بأنه ظهر مرارا مع متطرفين إسلاميين.
وأضاف كاميرون “أنا فخور بأن أكون هنا مع رئيس بلدية لندن العمالي.. إنه ابن سائق حافلة، وهذا يدل على شيء مهم في بلدنا وهو أنه خلال جيل واحد استطاع شخص يعتز بأنه مسلم وبريطاني ولندني أن يصبح رئيس بلدية أشهر مدينة”.
أما خان فقال “من الممكن أن أختلف مع رئيس الوزراء في وجهات النظر، أما عندما يتعلق الأمر بمصلحة سكان لندن، فإن رئيس بلديتها وأعضاء حكومتها يتعاونون بشكل وثيق”، مشيرا إلى “أن استمرار عضوية البلاد في الاتحاد، يساهم في خلق فرص عمل لأكثر من نصف مليون شخص”.
ويتصف تيار إبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد بتنوعه السياسي وانفتاحه على الجاليات الأجنبية غير الأوروبية، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في بث روح التسامح في البلد على مدار سنوات عديدة.
أما التيار الثاني فهو مزيج من أطراف أكثر تشددا وأقل انفتاحا على الجاليات، من أبرز ممثليه وزير الدفاع السابق ليام فوكس وبوريس جونسون (العمدة السابق لمدينة لندن) بالإضافة إلى رئيس حزب الاستقلال البريطاني المنــاهض للمهاجرين نايجل فاراج.
ويرى خبراء أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعل هذا الجناح من السياسيين المتشددين الطرف الأقوى في المشهد السياسي والحياة العامة.
وقد يمهد الطريق لخروج رئيس الوزراء البريطاني من الحكم ليتسلمه الخليفة المرجح وهو الطرف الرابح بالاستفتاء من أمثال بوريس جونسون الذي قد يعمل على تغيير المزاج العام البريطاني.
وقد يقود البلاد إلى حالة الانغلاق على الجاليات لتكون أداة غير مباشرة لطرد المهاجرين؛ فطالما أبدى هذا التيار انزعاجه من الاتحاد الأوروبي لكونه منفتحا على حرية دخول المهاجرين من دول أوروبية دون تأشيرات.
لابد من الإشارة إلى أن المناخ المتسامح الذي عرفت به بريطانيا أكثر من أي دولة أوروبية أخرى جعل الكثير من الأقليات العربية والمسلمة تنتقل من أوروبا وتحديدا من فرنسا إلى بريطانيا، للاستفادة من الحالة الاجتماعية الأفضل بالإضافة إلى وجود فرص عمل أكثر مقارنة بالمهجر السابق سواء أكان فرنسا أم بلجيكا.
لكن، في حال وجود بوريس جونسون كرئيس للوزراء فإن ذلك يعني أنه سيكون القدوة الجديدة للمجتمع البريطاني وانغلاقه على المهاجر ليس فقط على نطاق الحياة اليومية والمعيشية بل أيضا ستكون هناك ارتدادات غير مباشرة على سوق العمل؛ حيث قد يجد المهاجر أو البريطانيون الذين هم من أصول أجنبية صعوبة في الحصول على فرص عمل أكثر من غيرهم من المواطنين البريطانيين الأصليين؛ فأقسام التوظيف والشركات الكبرى ستسير في تيار جونسون الطارد للمهاجرين أو على الأقل غير المرحب بهم.
ومع خروج بريطانيا من الاتحاد ستكون هناك رغبة في تعديل قوانين العمل لتكون أكثر تشددا لصالح الشركات على حساب العاملين مما يعني إجحافا في حق المواطن وتحديدا المهاجرين. بالإضافة إلى ذلك ستطرح مشكلة صعوبة حركة الأفراد في الاتحاد الأوروبي.
وقد تلجأ ألمانيا وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي إلى فرض تأشيرة دخول على الأفراد القادمين من بريطانيا وتحديدا الذين هم من أصول عربية أو مسلمة (بشكل عام، أو من أصول تعود إلى دول محددة)، كما فعلت الولايات المتحدة حيث فرضت تأشيرات دخول معقدة على البريطانيين الذين هم من أصول مسلمة أو عربية من دول محددة؛ مثلا بريطاني من أصل سوري أو عراقي.
الضرر لن يستثني أي طبقة
أغلبية الجالية العربية والجاليات المسلمة تتراوح بين الطبقة الاجتماعية الفقيرة والطبقة العاملة وفي بعض الأحيان فئة المستثمرين ورجال الأعمال.
|
وكل الجاليات العربية والمسلمة على تنوعها وتوزعها بين هذه الطبقات ستتضرر، فالطبقة الفقيرة والعاملة ذات الدخل المحدود ضمن المجتمع البريطاني ستكون ضحية الخروج من الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى، وهذا سينطبق على الجالية العربية والمسلمة لأن أغلب المساعدات الاجتماعية المقدمة لها ولأطفالها ستكون جد محدودة بالإضافة إلى صعوبة إيجاد فرص عمل في مناخ ما بعد الاتحاد.
وبطبيعة الحال فرص العمل محدودة نتيجة عدم انتعاش الاقتصاد البريطاني منذ أزمة البنوك، فرغم أنه شهد تطورا إلا أنه غير كاف لتلبية حاجيات سوق العمل، ولأسباب عديدة سيواجه أفراد الجاليات صعوبة أشدّ مما سيواجهها غيرهم لاقتناص فرصة عمل ذات دخل كاف، مما يعني اضطرار بعضهم للاعتماد بدرجات متفاوتة على الدعم الحكومي الذي يواجه انخفاضا بشكل سنوي، مع ترجيح أن مرحلة ما بعد الاتحاد ستكون أكثر تقشفا في هذا المجال.
ويتوقّع أن يواجه المستثمرون ورجال الأعمال العرب والمسلمون ممن يقيمون في بريطانيا بشكل دائم أو مؤقت، صعوبات مثلهم مثل كل رجال الأعمال البريطانيين وأحيانا أكثر سوءا. فقد أعلن أكثر من رجل أعمال أجنبي يستثمر في بريطانيا عن تخوفه من الخروج من الاتحاد الذي سيسبب مشاكل اقتصادية متعددة ستنعكس على مختلف القطاعات مما يعني تضرر مصالح هذه الفئة التي ستشعر أن بريطانيا غير قادرة على توفير المناخ الجــاذب لـرأس المال كما كانت في ظل الاتحاد.
ويتوقع بعض الخبراء أن يسعى جزء كبير من هذه الفئة إلى الانتقال إلى ألمانيا ونقل رؤوس أمواله إلى هناك للاستفادة من مزايا السوق الأوروبية تحت سقف الاتحاد.
الاقتصاد ضحية الخروج
أكد استطلاع للرأي (شمل أكثر من 600 خبير اقتصادي) أن تسعة من كل عشرة خبراء اقتصاديين مهمين يعتقدون أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيضر اقتصادها.
وأظهر الاستطلاع، الذي أجرته إبسوس-موري للاستطلاعات، أن 88 في المئة ممن شملهم الاستطلاع قالوا إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والسوق الموحدة سيضر على الأرجح بآفاق النمو الاقتصادي على مدى السنوات الخمس القادمة بينما قال 82 في المئة إنه من المرجح أن يؤثر ذلك سلبا على دخل الأسر.
وقبل ثلاثة أسابيع فقط على موعد الاستفتاء، ظهرت بعض استطلاعات الرأي (الشعبية) تقدّم مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فانعكس ذلك بشكل مباشر على سعر الجنيه الإسترليني الذي تراجع أمام اليورو والدولار. وأدى ذلك إلى زيادة التوتر في الأسواق المالية التي تخشى أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد إلى اضطراب في الأسواق أو إلى تباطؤ الاقتصاد البريطاني.
ورغم أن مؤيدي البقاء لا يزالون يتقدمون إلا أن الفارق بين المعسكرين تضاءل إلى 3 بالمئة، فانعكس بشكل سلبي على سعر العملة، مما يؤشر أنه في حال خرجت بريطانيا حقا سيكون الأثر كبيرا على العملة. وسيؤدي انخفاض العملة إلى ارتفاع أسعار الكثير من السلع التي يستهلكها المواطن البريطاني كون أغلب السلع الاستهلاكية يتم استيرادها من أوروبا ودول أخرى.
تؤكد كل المؤشرات الاقتصادية الصادرة من جهات معتبرة أن الخروج من الاتحاد سيجعل الاقتصاد ضحية هذا القرار، وقد أكّد رئيس الوزراء البريطاني أكثر من مرة على ذلك، فقد سبق أن قال “الخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون عملا من أعمال إيذاء النفس اقتصاديا”، مشيرا إلى أهمية السوق الأوروبية الموحدة التي هي “الأكبر في العالم، أكبر من الاقتصاد الصيني، وأكبر من اقتصاد الولايات المتحدة”. وأبدى كاميرون خشيته من أن يؤدي الانفصال مع بروكسل إلى “تحطيم اقتصادنا”.
يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ولادة حالة ميؤوس منها داخل المملكة المتحدة بنظر أبناء الجاليات العربية والمسلمة، والمشهد السوداوي الذي يطفو على السطح لا يبشر بإمكانية التعافي من الأزمة الجديدة بوقت قصير.
فالاقتصاد عجلة المجتمع البريطاني سيكون في خطر وأول من سيدفع الثمن أبناء الجاليات. والمزاج السياسي الجديد سينعكس على المجتمع خالقا حالة من إقصاء الجاليات بدرجات متفاوتة.
لن تكون بريطانيا، التي تميزت عن كل الدول الأوروبية، بعد “الطلاق مع بروكسل” موضع تميز، بل ستكون في وضع أسوأ حتى من بعض الدول الأوروبية في مجالات متعددة وبالتأكيد ستشعر الجاليات بذلك أكثر من غيرها.
البقاء في الاتحاد ربما مكلف ماليا على خزينة بريطانيا ولكنه أرخص التكاليف مقارنة بتكلفة الخروج. وبعض التحفظات البريطانية على الاتحاد يمكن مناقشتها أو وضع حد لها في حال بقيت بريطانيا في الاتحاد أكثر مما لو خرجت منه. حالة من الترقب تسود أجواء الجاليات بانتظار القرار الذي سيحدده الشعب البريطاني في الاستفتاء العام الذي سيُجرى في 23 يونيو.
غسان إبراهيم
صحيفة العرب اللندنية