يتحكم في العالم اليوم ثلاث قوي دولية هي الولايات المتحدة وروسيا و الصين، تلك حقيقة برزت في السنوات الاخيرة، بعد تحول العلاقات الدولية من عالم ثنائي القطبية إبان مرحلة الصراع الايديولوجي السوفيتي الامريكي، الي عالم موحد القطبية لفترة قصيرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي لعبت فيه امريكا دور (البطولة المتفردة) الي حين، ثم العودة الي عالم ثلاثي القطبية الذي نشهد اليوم. ولان هذا العالم الثلاثي لا يستطيع وربما لا يرغب في الدخول في صراع مباشر بين اقطابه من جهة، ولا تستطيع قوة واحدة منه أن تسود علي القوتين الاخريين، نجد انفسنا في عالم صراعي جديد غير مسبوق. في عالم السياسة الدولة، هذه القطبية الثلاثية تتعاون في مكان ان استطاعت، وتتصارع في مكان آخر إن سمحت لها الظروف المحلية بذلك، إلا أن عدم الثقة التي بين هذه القوي جعلها في موقع (ادارة الازمات) لا موقع حلها، اي احتواء الصراعات في مكان جغرافي، وترك اللاعبين المحليين يستنزفون أنفسهم!.
اكثر ما تحتدم فيه الصراعات (المدارة من تلك القوي الثلاثية) هو منطقة الشرق الاوسط، التي تقول لنا الاحصائيات إن أكبر عدد من القتلي وأكبر حجم من التدمير حدث لسكان الشرق الاوسط (معظمهم من العرب) في ربع القرن الاخير، ليس هناك منطقة تقارب مستوي الخسارة في الأرواح والممتلكات والفرص كما هي خسارة المنطقة العربية مقارنة بالصراعات الحالية في العالم، بعض البسطاء يراهن علي تحول في السياسة الامريكية بعد الانتخابات التي تستعد لها أمريكا في الخريف المقبل، تلك مراهنة قريبة الي السذاجة السياسية، كما يراهن البعض علي صعود قوة روسيا، تلك أيضا مراهنة غير واقعية، أما الصين فهي التي تملك ورقة الترجيح وغير مستعدة لخسارتها في القريب العاجل لاي من القوتين الاخريين. دينميكيات الصراع في الشرق الاوسط تزداد غموضا، فعلي الرغم من وجود صراع ظاهر او خفي في المكونات اليمنية بشكل تاريخي، إلا أن تدخل ايران ومساعدة الحوثيين عقد من ديناميكية الصراع في اليمن، وتحول الصراع من سياسي الي عسكري ساخن، طال أمده ولا يبدو ان هناك مخرجا قريبا له، رغم كل تلك الاجتماعات والمحادثات، حيث تري ايران أنها فرصة لها للعض علي أصابع القوي العربية، خاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج من أجل استحقاق تراه مناسبا لتطوير هيمنتها علي الساحة القريبة منها.
في المقابل فان العراق يخوض اكثر من حرب ، اقلها اهمية هي الحرب علي داعش التي سوف تستمر وتستنزف الجهد العراقي،ولكن اهمها حرب الاصلاح الداخلي الذي قاد حراكه مقتدي الصدر منذ أشهر ، ثم تراجع كما يفعل دائما، بسبب الضغط الايراني عليه وعلي تياره، فأصبح العراق معلقا اليوم تحت حكومة شبه مستقيلة وشبه باقية! اللافت ان القوي الدولية هنا تتعاون بشكل واضح علي إدارة الصراع وحصره جغرافيا، علي رأس التعاون في العراق هو التعاون الامريكي/ الايراني الذي فاق التنسيق ليصل الي التطبيق في الميدان ،وليس بعيدا عن هذا التنسيق الرضا الروسي، أما في سوريا فان الوفاق الامريكي/ الروسي واضح المعالم من أجل محاربة ما تعرفه القوتان بـ(الارهاب)، ولكن ذلك التنسيق لا يصل الي التفاهم الكامل لرسم مشهد ( اليوم التالي) في سوريا حتي الآن علي الاقل، مرة اخري حصر الصراع في منطقة جغرافية ومحاولة احتوائه لا حله. في المسألة الفلسطينية فإن الوضع الدولي يتجه الي عدم اليقين في إنشاء دولة للفلسطينيين، كما يرغب الفلسطينيون انفسهم ، فالحديث عن الدولتين تراجع الي خلف شعار الحرب علي الارهاب، ويبدو أن القوي الثلاث العالمية غير معنية بأجندة فلسطين اليوم.
الشرق الاوسط إذن نتيجة كل تلك التفاعلات يشهد مرونة غير مسبوقة في (إعادة رسم حدود الدول) واستمرار الصراعات الساخنة او الباردة التي تخاض علي أكثر من صعيد. إن نظرنا الي مصالح الدول الثلاث التي تشكل القوي الاكبر في العالم في الشرق الاوسط نجد انها ايضا متغيرة، فلم تعد بشكل عام لا الولايات المتحدة وبشكل أقل أوروبا تحتاج الي نفط الشرق الاوسط،امام تنامي ظاهرتين: التقدم في استخدام التقنية الهائل لتعويض مصادر الطاقة، وفي وجود مصادر طاقة بديلة او رخيصة، كما أن روسيا تسارع لملء الفراغ أينما حدث في الشرق الاوسط، حتي غدت قوة احتلال تذكر الشرق اوسطيين بقوات الاحتلال الغربية بعد الحرب العالمية الاولي، أي التدخل من أجل فرض نوع من الحكم علي الشعوب بصرف النظر عن رغباتها. الصين تسعي حثيثا أولا من أجل تأمين جوارها استراتيجيا، ومن ثم توسيع اسواقها اقتصاديا، وهو هم صيني له اولوية علي ما عداه من مشكلات في العالم. المنطقة برمتها تشهد محاولات لاعادة تقسيم الحدود والشعوب قد لا تكون ظاهرة للبعض، إلا أن المراقب يري الامر وكأنه واقع لا محالة.
ما ينقص المشهد كله هو ديناميكية محلية تستطيع ان تقود مشروعا مضادا لكل ما هو مطروح غربيا او اقليميا ، الا ان تلك الديناميكية عصية عن البروز بشكل ثابت ودائم، كانت هناك محاولات باءت بالفشل او قل التقاعس، بسبب ضعف في التصور لمهددات الامن القومي أو ضبابية في الاهداف المرجو تحققها، فترك الامر اليوم الي القوي العالمية الثلاث وتفاهماتها او تقسيمها حسب المصالح للمنطقة العربية او اشراك قوي اقليمية في تحديد مصائرها.
ليس خافيا في ان هذا الوهن الذي أصيبت به الاطراف الفاعلة في المنطقة في جزء منه ضرورة الحاجة لتجديد العقد الاجتماعي الذي درجت عليه تلك الأوطان منذ فترة، فالحاجة الي تغيير له معني في العقد الاجتماعي الداخلي قد يشيع جوا من التفاعل الايجابي لكل التحديات التي تواجه المنطقة، إلا أن ذلك التغيير في العقد الاجتماعي تقف دونه قوي لها مصالح تضعف في النهاية عوامل المقاومة للمشروع الاممي الاقليمي الذي يسعي الي رسم خارطة جديدة للشرق الاوسط انطلاقا من البلاد العربية.
لعل البعض يبادر بطرح تلك الإشكالات التي تهدد الامن القومي العربي في عقر داره علي المجتمعين في موريتانيا الشهر المقبل، حيث تعقد القمة العربية السابعة والثلاثون من القمم الدورية، ربما يقرع جرس الانذار في مناسبة هي سوداوية للمواطن العربي، اي ذكري مائة عام علي معاهدة سياكيس بيكو، ونحن الآن أمام شكل آخر منها بطبعة محسنة ومنقحة في ظل الظروف الحالية المتغيرة.
محمد الرميحي
صحيفة الأهرام