سؤال كبير كان طرحه غراهام فولر من مؤسسة «راند Rand» الأمريكية المقرّبة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، منذ مطلع التسعينات. وهو سؤال لا ينمّ عن قدرات تنبؤية، بقدر ما يعكس ما يدور ويتردّد في أروقة الدبلوماسية الدولية، إضافة إلى مراكز الأبحاث والدراسات، خصوصاً «تروست الأدمغة» الذي يعمل بمعيّة الرئيس الأمريكي، واليوم كلّما نشبت أزمة في العراق، أعيد طرح السؤال على نحو أكثر إثارة، وهو ما كان تبنّاه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي في مشروعه الشهير العام 2007 الذي حظي بموافقة الكونغرس الأمريكي، بإقامة ثلاثة كيانات أشبه بدويلات منفصلة.
لقد دأبت العديد من الدراسات المستقبلية بخصوص العراق، ولا سيّما منذ الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980، على النظر إلى الدولة العراقية، باعتبارها كياناً مصطنعاً، تأسس في العام 1921، باتحاد ثلاث ولايات هي: بغداد العاصمة، والبصرة في جنوب العراق، والموصل في الشمال، بعد انحلال الدولة العثمانية، واحتلال بريطانيا العراق 1914 – 1918 خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد عدم التمكن من حكم العراق بصورة مباشرة، ولا سيّما بعد ثورة العشرين العام 1920، أُخضع العراق للانتداب البريطاني لغاية العام 1932، حيث حصل على استقلاله، وانضم إلى عصبة الأمم.
الكيان العراقي الذي اتّخذ من النظام الملكي شكلاً للحكم واجهته منذ اللّحظات الأولى إشكاليات أساسية، لا تزال باقية إلى الآن، وهي من أسباب أزمة الحكم البنيوية المعتّقة في العراق تاريخياً.
الإشكالية الأولى – تتعلّق بعدم إقرار حقوق الكرد، ولذلك ظلّوا مهمشين كشعب وهويّة، حتى وإن شاركوا كأفراد واحتلّوا أعلى المناصب.
الإشكالية الثانية- تخصّ البذرة الطائفية التي حاولت بريطانيا غرسها بسن قانون غريب للجنسية العام 1924، حيث يقسم فيه العراقيون إلى فئتين «أ» و«ب»، تبعاً للأصول التاريخية، حتى قبل سنّ الدستور العراقي «القانون الأساسي» العام 1925.
ولم يكن في مقدور دولة رخوة وقلقة وحملت نشأتها مثل هذه التناقضات الاستمرار في تلك الصيغة، حيث شهدت انقلابات عسكرية وتمرّدات وثورات، حتى أطيح النظام الملكي في ثورة العام 1958، وأقيمت الجمهورية العراقية.
وبعيداً عن التشاؤم المُحبط والتفاؤل المفرط، فقد تغيّر العراق كثيراً، والدولة التي نعرفها في السابق، لم تعد موجودة، وعدنا إلى مرجعيات ما قبلها: دينية وطائفية وإثنية وعشائرية ومناطقية وغيرها. وكان حلّ الجيش والقوى الأمنية من قبل بول بريمر، القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، خصوصاً بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أساس طائفية وإثنية.
إن صورة الدولة اليوم تختلف عن دولة الأمس بحكم:
1 – الانتقال من الحكم الشمولي المركزي الشديد الصرامة إلى انحلال وتآكل وتفتّت تدريجي وصولاً للانشطار الفعلي.
2 – انبعاث الهويّات الفرعية وبشكل خاص بعد الاحتلال الأمريكي، وإضعاف الهويّة الوطنية العراقية الموحّدة، وهو ما حصل في أوروبا الشرقية وعلى المستوى العالمي، وذلك أحد نتائج العولمة.
3 – الانتقال من الديكتاتورية إلى دولة المحاصصة الطائفية – الإثنية، أي نظام الدولة الغنائمية – الزبائنية.
4 – التحوّل من نظام الحزب الواحد إلى فوضى الأحزاب، ومن إعلام مركزي موحّد، إلى إعلام منفلت.
5 – الانتقال من بلد مستقلّ إلى بلد محتلّ وتآكل الاستقلال الوطني، ومن وجود جيش وطني (جامع) إلى جيش أقرب إلى اتحاد ميليشيات وطوائفيات وتقاسم وظيفي، والانتقال من احتكار السلاح للدولة إلى انفلات السلاح واستخداماته، ومن بلد آمن أو شبه آمن، إلى بلد يعاني الإرهاب والعنف على نحو ليس له مثيل.
والسؤال مجدداً، بعيداً عن الآمال والتمنيات، ماذا بشأن وحدة العراق ومستقبله، في ظل التعقيدات والتحديّات الراهنة؟.
الزاوية الأولى – إن التطوّرات الراهنة على الرغم من وجهها السلبي، إلاّ أنها قد تسهم في استعادة وحدة الدولة، بعد هزيمة «داعش»، حيث تمرّست القوات العراقية في المعارك ضد الإرهاب، واكتسبت خبرة وثقة بالنفس، يمكّنها من بسط سيطرتها على البلاد. ومن جهة أخرى، فإن مشاريع الانفصال أو التقسيم تواجهها عقبات جديّة، ومشكلات إقليمية ودولية، وصعوبات اقتصادية جوهرية، فضلاً عن تعقيدات إدارية وعملية، الأمر الذي قد يؤدي إلى استعادة لحمة الدولة في إطار نظام فيدرالي معدّل يوازن بين حقوق الدولة الاتحادية وحقوق الأقاليم، في ظل دستور جديد.
أما الزاوية الثانية، فإن التطوّرات التي يشهدها العراق قد تسهم في تفتيت الدولة، والتحديّات اليوم أكثر حدّة واستقطاباً من قبل، خصوصاً بعد فشل خطط الإصلاح والحراك الشعبي، بفعل: الطائفية والإرهاب والفساد المالي والإداري، والميليشيات، وضعف الدولة وتدهور هيبتها، لا سيّما بعد احتلال «داعش»، ويبرز ذلك من خلال الصراع على مناطق النفوذ، والصراع على المناطق المتنازع عليها، والصراع بخصوص المادة 140 ومستقبل كردستان، إضافة إلى الصراعات السياسية الشيعية – السنية، والصراعات داخل الشيعية السياسية والصراعات داخل السنية السياسية.