الكواكبي مفكر إصلاحي إسلامي سوري؛ عاش في العصر الأخير من الدولة العثمانية، واشتهر بنضاله الفكري ضد الاستبداد السياسي، وقاسى في سبيل ذلك الكثير من آلام الغربة والهجرة ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد.
المولد والنشأة
وُلد عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي عام 1854 في مدينة حلب السورية لأسرة يرجع نسبها إلى “آل البيت”، ميسورة الحال عريقة في العلم والأدب. توفيت والدته “عفيفة بنت مسعود آل نقيب” (مفتي أنطاكية) وهو لمّا يتجاوز السادسة من عمره، فنشأ بأنطاكية في كنف خالته صفية التي كان لها أعظم الأثر في نشأته وصقل شخصيته.
الدراسة والتكوين
تعلم الكواكبي في المدرسة الكواكبية التي كان والده مدرسا فيها ومديرا لها، وأتقن الفارسية والتركية إلى جانب العربية، وكان له اطلاع واسع على سائر المعارف خاصة في المجال السياسي والفلسفي والقانوني حيث انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها.
الوظائف والمسؤوليات
عندما بلغ الكواكبي الثانية والعشرين من عمره (عام 1876) عُين محررا للجريدة الحكومية “فرات” بقسميها العربي والتركي، وسرعان ما تركها ليصدر في حلب عام 1877 أول جريدة له باسم “الشهباء”، وذلك بالاشتراك مع هاشم العطار.
لكن الأتراك -الذين كانوا يحكمون سوريا آنذاك- لم يتركوه ينشر من صحيفته أكثر من 16 عددا، فقد ظهرت فيها مواهبه الفكرية والبلاغية عبر مقالاته النارية الناقدة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكنه لم يستسلم فأسس جريدة “اعتدال” عام 1879، وواصل فيها كتابة مقالاته الحادة حتى أغلقت هي الأخرى.
تقلد عدة مناصب في ولاية حلب؛ فقد عُيّن عضوا في لجنتيْ المالية والمعارف العمومية في حلب، ورئيسا فخريا للجنة الأشغال العامة فيها فتحقق في عهده الكثير من المشاريع الهامة التي استفادت منها الولاية، وفي عام 1892 عُين رئيسا لبلدية حلب، كما تولى إدارة مطبعة الولاية.
التجربة الفكرية
يعتبر الكواكبي عَلما من أعلام تيار الإصلاح في العالم الإسلامي خلال العصر الحديث، وكانت معركته الكبرى مع الاستبداد السياسي الذي سخّر حياته وقلمه وفكره لمحاربته والتوعية بأخطاره على الشعوب وتقدمها، وقاسى في سبيل ذلك الكثير من آلام الغربة والهجرة ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد.
كان شعور الكواكبي بالظلم ورهافة إحساسه بالحرية وعشقه الكبير لها دافعه الأول في مواقفه وآرائه المناهضة للسلطة العثمانية، وقد آزره في ذلك تأييد الناس الكبير له ومساندتهم لجهوده وجهاده، بوصفه حامل الراية الأبرز في التنظير لمقارعة الحكام المستبدين.
وعندما بلغت حدة الصراع بين الكواكبي -الذي كان يُطلق على نفسه لقب “السيد الفراتي”- والسلطة العثمانية في حلب ذروتها وبدأت المكائد تُحبك ضده، قرر الهجرة إلى مصر التي وصلها -حسب أصح التواريخ- عام 1899.
في مصر وجد الكواكبي المناخ الحُر والجو المفتوح الذي يتيح له نشر أفكاره بعيدا عن الملاحقة والتضييق، لأن الاحتلال الإنجليزي في مصر كان يتيح قدرا من الحرية لمعارضي الأتراك.
وفي عام 1901 قام الكواكبي برحلة شهيرة استغرقت ستة أشهر زار فيها شرق أفريقيا وجنوبيها، ودخل الحبشة وسلطنة هرر والصومال وشبه الجزيرةالعربية.
وزار سواحل آسيا الجنوبية والهند وبلغ جاوة (إندونيسيا) وطاف في السواحل الجنوبية للصين، وكانت دراسته لهذه البلاد تشمل -إلى جانب الناس والثقافات- الاقتصاد والأرض ومعادنها وكل ما يهم المثقف الموسوعي.
أودع نتائج هذه الرحلة أصول كتاب لم تمهله المنية حتى يخرجه إلى النور، ثم ضاعت هذه الأصول. كما حال الموت بينه وبين رحلة كان يزمع القيام بها إلى بلادالمغرب ليستكمل عمليا النظرة الفاحصة العميقة للوطن الكبير الذي عاش له وناضل في سبيل تحقيق أمانيه.
تحدث الكواكبي -بوصفه مصلحا إسلاميا- في كثير من آثاره الفكرية عن المنهج الإسلامي في الإصلاح السياسي وعن نظام الحكم الذي يسميه “الإسلامية”، فالتمس أصول الإصلاح وفلسفاته وقوانينه من “الإسلامية” ومن التجارب التاريخية لتطبيقاتها في الاجتماع الإسلامي.
وأكد أن داء الأمة يكمن في فساد السياسة وإنتاج المستبد الذي “يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتّداعي لمطالبته”.
ومن هنا قرر الكواكبي في كتاباته أنه “يلزم أولا تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها”، مضيفا أن “أن الخلاص إنما يكون في الشورى الدستورية”.
وهو يضع على الأمة مسؤولية كبيرة في التحرر من الاستبداد الداخلي لأن وجوده مقدمة لتمكن الاستبداد الخارجي، وإذا “لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، ومتى بلغت أمة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزتها، وهذا عدل”.
ويلخص الكواكبي رؤيته للحرية ومشكلات الاستبداد بقوله إن الهدف من الديمقراطية والحرية والعدالة هو خدمة المجموع وسعادته، وهو لا يقصد فقط الحرية السياسية بل كان يرى للديمقراطية مضمونا اجتماعيا، ويراها التزاما للإنسان إزاء قومه ومجتمعه بقدر ما هي تحرير لهذا الإنسان.
ومن كلماته المأثورة في تمجيد الحرية والحث على مقارعة الاستبداد، قوله: “إن الهرب من الموت موت!.. وطلب الموت حياة!.. (…) والحرية هي شجرة الخلد، وسقياها قطرات الدم المسفوح.. والإسارة (العبودية) هي شجرة الزقوم، وسقياها أنهر من الدم الأبيض، أي الدموع!”.
ومن المشكلات التي تناولتها كتابات الكواكبي “مشكلة الأقليات الدينية”، إذ خاطب المسيحين العرب قائلا لهم إن وحدة الأوطان لا تشترط وحدة الدين، وإن الوفاق الجنسي بينهم وبين المسلمين -باعتبار أن أغلبية العرب منهم- أقوى من الوفاق المذهبي بينهم وبين المستعمرين الأوروبيين.
ويرى الدكتور محمد عمارة -في كتابه “عبد الرحمن الكواكبي.. شهيد الحرية ومجدد الإسلام”- أن الكواكبي كان قوميا عربيا لكنه لا يعزل عروبته وقوميته عن دائرة الجامعة الإسلامية، وكان مصلحا إسلاميا يعمل لتجديد الإسلام كي تتجدد به دنيا المسلمين، لكنه يشدد على تميز الأمة العربية في إطار المحيط الإسلامي الكبير.
المؤلفات
ترك الكواكبي كتبا قليلة في عددها لكنها نوعية في مضمونها، من بينها مؤلفه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الذي كتبه أثناء إقامته في مصر، وكتاباه “أم القرى” الذي نشره باسمه المستعار “السيد الفراتي”، و”صحائف قريش” الذي لم يطبع.
الوفاة
توفي عبد الرحمن الكواكبي فجأة مساء الخميس 14 يونيو/حزيران 1902 في القاهرة، ويقال إنه مات مسموما بتدبير من السلطات التركية. شـُيعت جنازته في موكب مهيب، ودُفن في قرافة باب الوزير بسفح جبل المقطم شرقي القاهرة على نفقة والي مصر العثماني الخديوي عباس.
أقام له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة “المؤيد” المصرية مأتما استمر ثلاثة أيام، ونـُقشت على قبره أبيات للشاعر المصري حافظ إبراهيم جاء فيها:
هنا رجل الدنيا هنا مهبِط التـقى هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القـبر قــــبر الكواكبي