في الوقت الذي تتصدر فيه صورةُ الإرهاب المرتبط بالدين الإسلامي التغطيات الإعلامية عالميا مع تزايد العمليات الإرهابية التي تُنفذ باسم الإسلام، وفي ظل الاختلافات الظاهرة بين الفصائل الإسلامية المختلفة (السنَّة والشيعة)، والتي تحولت إلى صراع دموي بين تلك الفصائل في بعض دول المنطقة (العراق، سوريا، اليمن)، يحاول الباحثان “ميكيل أليكسيف” و”سفيان جيميكوف” في دراستهما بعنوان “من مكة المكرمة مع التسامح: الدين، إعادة التصنيف الاجتماعي، ورأس المال الاجتماعي” بدورية “الدين، الدولة والمجتمع” الإجابة على تساؤل مركزي مفاده: هل تعزز الشعائر الإسلامية الجماعية مثل الحجّ، الذي يجمع ما يزيد عن 2 مليون حاج سنويًّا من مختلف المذاهب، قيم التسامح بين الجماعات أم إنها تدعم الصراع بينهم؟ خاصة مع توظيف بعض الدول الإسلامية موسم الحج سياسيا.
أهمية التساؤل.. والنتائج المتناقضة:
تؤكد الدراسة أن أهمية ذلك التساؤل تنبع من ثلاث عناصر رئيسية، هي:
أولا- أنه يسلط الضوء على ظاهرة اجتماعية وسياسية حقيقية، والتي تترك تأثيرها على المسلمين وعلى توجهاتهم، سواء داخل الجماعة التي ينتمون إليها، أو على نظرتهم للغير من الطوائف الأخرى أو من غير المسلمين.
ثانيًا- أن خبرة الحج وكونه واحدًا من أركان الإسلام الخمسة أثارت جدالا طويل الأمد داخل حقل العلوم الاجتماعية فيما يرتبط بالعلاقة بين الهُوية الدينية والعلاقات بين الجماعات.
ثالثًا- أن الحجّ يُعد أحد أهم الشعائر الجماعية التي تؤكد الهُوية الدينية في العموم، فضلا عن كونها شعيرة تترك آثارًا على سلوك الأشخاص نظرًا لرمزيتها العالية من ناحية، ولكثافة إجراءاتها ومتطلباتها من ناحيةٍ أخرى.
وقد اعتمدت تلك الدراسة على مناقشة وتحليل تأثير الحج على تعزيز قيم التسامح من خلال تحليل المداخل النظرية التي ناقشت مثل هذا الأمر، سواء نظريات علم النفس أو النظريات الاجتماعية السياسية وغيرها، بالإضافة إلى تكوين مجموعات التركيز (المجموعات البؤرية) “Focus Groups” من الحجاج الذين مارسوا شعيرة الحج، ومن غير الحجاج الذين لم يؤدوا تلك الفريضة بعد.
وقد أظهرت النتائج وجود تناقض بين المجموعتين؛ حيث إن مجموعة الحجاج أظهرت ميلا أكبر لقيم التسامح، ونبذ الكراهية والعداء ليس فقط تجاه الطوائف الفرعية المختلفة داخل نفس الهُوية الإسلامية، وإنما تجاه الأديان الأخرى المختلفة تمامًا عن الدين الإسلامي. في حين أظهرت المجموعة الأخرى قدرًا أقل من الميل نحو التسامح، وكانت أكثر عدائية تجاه الأديان الأخرى، وكذلك نحو الجماعات الفرعية داخل نفس الهُوية.
محاولة فك التناقض:
ولتفسير هذا التناقض الوارد بالنتائج؛ تسعى الدراسة إلى تقييم آثار الحجّ كقيمة جوهرية عالية الرمزية، من خلال الهجرة للأماكن المقدسة، ثم دراسة تأثيرها على إعادة التصنيف داخل الجماعات، وعلى رأس المال الاجتماعي، وكيف يُولِّد ذلك قدرًا عاليًا من التسامح، ليس داخل الجماعات فقط، بل أيضًا تجاه الجماعات الأخرى. وأخيرًا تفسير كيف يُمكن للإحساس الجديد بالفردية بعد أداء فريضة الحجّ التشجيع على التسامح الاجتماعي السياسي.
أ) إعادة التموضع: الهجرة والمساحات المقدسة:
بالنسبة لغالبية الحجاج يُعد الحج هجرة لمسافة طويلة من خلال ثلاث مراحل؛ الهجرة من الموطن إلى الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية، ثم الإقامة في المملكة لمدة شهر لأداء مناسك الحج، ثم العودة إلى الوطن مرة أخرى. ومن ثم فهي ليست مجرد رحلة عادية؛ بل هي تمثل إعادة تموضع للحاج، لأنه يَعبُرُ خلالها الحدود الحقيقية والرمزية للدول، ويمر بالجماعات الاجتماعية المختلفة.
ولعل هناك عاملين في تلك الرحلة يفسران ذلك التناقض: العامل الأول يتمثل في القيمة الجوهرية العالية للأفراد، لأنهم في نهاية الرحلة سيصلون إلى الكعبة التي تُمثل لهم مركز الجنة ومحور الإسلام وغير ذلك، ويؤمنون أنهم بعد الرحلة تُغفر لهم كل الذنوب، وكأنهم وُلدوا من جديد، ومن ثمَّ تختلف توجهاتهم، ويكون ميلهم للتسامح أكبر من غيرهم.
أما العامل الثاني فيرتبط بالتعرض لدرجة عالية من التنوع الديني والاجتماعي بين الأفراد؛ حيث يتطلب الوصول إلى الكعبة عبور حدود العديد من الجماعات غير الإسلامية، وينظر الحجاج إلى أنفسهم على أنهم يشكلون عالم يتسم بالتنظيم والألفة والأمن وإلى باقي شعوب العالم على أنه العالم الأخر الذي يتصف بالفوضى وعدم الأمن، وتري الدراسة أن الانتقال من عالم إلى أخر أمر صعب.
ب) إعادة التصنيف وانتقال رأس المال الاجتماعي:
إذ تحدث إعادة التصنيف حينما ينخرط أعضاء مجموعات مختلفة للمرة الأولى في مجموعة كبيرة شاملة، أو بمعنى أبسط حينما يرى مجموعة من الناس من أعراق مختلفة بعضهم بعضًا للمرة الأولى كمشجعين لنفس فريق كرة القدم، ولعل الدلائل العملية تُؤكد أن إعادة التصنيف تُعزز السلوك الاجتماعي المتسامح.
ويُمثّل الحج تلك الهُوية الشاملة لكل الجماعات الفرعية داخل الإسلام، والذي تذوب فيه كل الهويات الإسلامية والاجتماعية. وتشير بعض المدارس النظرية إلى أن إعادة التصنيف لا تضمن بالضرورة تحسين العلاقات الاجتماعية وتعزيز التسامح داخل الجماعة المشتركة، بل إنها قد تُفرز مزيدًا من عدم التسامح في حالة إيمان الأفراد بنمطية القيم والمعايير الخاصة بجماعتهم الفرعية، ومن ثم تصبح الشعائر المشتركة دافعًا للعدوانية لا التسامح.
بيد أن تلك الدراسة ترفض هذا الطرح، لأنها تؤكد أن الهوية الجمعية لا تظهر بها هوية غالبة لإحدى الجماعات الفرعية عن غيرها، وهو ما يحدث بالحج، حيث لا تمييز بين سنة أو شيعة أو غيرهما، بل إن تلك الاختلافات بالأحرى تنصهر في خطوات مشتركة يقوم بها جميع الحجاج، ومن ثم تنخفض نسبة التحيز، ويزداد التسامح بين الجماعات.
وبرغم العديد من المظاهر السلبية التي تحدث في الحج، والتي ترتبط بسلوكيات الناس، سواء الحجيج أو غيرهم؛ فإن هذا الأمر لم يقلل من قيمة الحج كهوية جماعية لكل المسلمين، بل ولم يتم ذكر تلك السلوكيات حتى كنوع من السلبية؛ لأن الحجاج اعتبروا أن الله يرى تلك الأمور ويتسامح بها، ومن ثم هم بالضرورة يجب أن يكونوا أكثر تسامحًا مع أنفسهم ومع غيرهم.
الطرح النظري الآخر الذي قدَّمته الدراسة في هذا الصدد هو فكرة رأس المال الاجتماعي؛ حيث إنه لا يرتبط فقط بالانضمام للجماعات أو التواصل أو التشبيك مع الآخرين، بل بتقدير القيمة الرمزية للاجتماعية (sociability) والتي تعني حب الاختلاط بالآخرين، والتي بدورها تُزرع داخل الأفراد، وتجعلهم أكثر ميلا لوجهات النظر المؤيدة لتلك الاجتماعية، بما يزيد من تسامحهم مع الآخرين.
ت) التوازن بين التفرد وإدراك الهُوية الجماعية:
وهي المرحلة التي يستطيع فيها الفرد الالتزام بشكل موسع بالهُوية الجماعية الشاملة، وفي الوقت ذاته يتولد لديه شعور قوي بمدى تفرده وتميزه كشخص منفرد. وتُشير الدراسة إلى أن الحج يفسر ذلك المنطق؛ إذ إنه يُتيح الفرصة للجميع أن ينخرطوا في مناسك جماعية، ويقضوا أوقاتًا أطول كمجموعة واحدة كبيرة ذات هُوية شاملة، وفي الوقت ذاته فإن كل الحجاج يقومون بممارسة شعائر الحج بشكل منفرد، ويفكرون بشكل عميق فيما ارتكبوه خلال مسار حياتهم كله، آملين أن يغفر الله لهم ذنوبهم إذا ما تم قبول حجهم.
ومن ثمّ تؤكد الدراسة أن التحليل العميق للنفس الذي يقوم به الحجاج خلال فترة حجهم، يجعلهم يدركون منطق الحياة، ويتسامون فوق مفاهيم الإثنية والعرقية والجنسية والدين، ويتأملون مفهومًا واحدًا فقط هو مفهوم الإنسانية الذي يتشاركون فيه مع الجميع دون اختلافات.
تأثير الحج على المسلمين.. شمال القوقاز نموذجًا:
تُشير الدراسة إلى أن منطقة شمال القوقاز الروسية هي الإقليم النموذجي لقياس تأثير الحج على العلاقات بين الجماعات. وتشير الدراسة إلى أن الحج في هذه المنطقة عُدَّ كأحد أهم الأركان الإسلامية رغبةً في التحقيق من جانب مسلمي القوقاز، بالإضافة إلى أن أغلب من أدوا تلك الفريضة كانوا يستهدفون الدين في حد ذاته، وليس بهدف الحصول على سلع للتجارة لتحسين دخلهم بعد رجوعهم إلى بلادهم، بل إن ما كان يعود به الحجاج إلى القوقاز كان يتمثل في ماء زمزم لتقديمه كهدايا أو غير ذلك وليس بهدف التجارة.
وقد قامت الدراسة بعمل العديد من مجموعات التركيز على ما يقرب من 28 حاجًّا أدوا الفريضة في أوقات مختلفة لقياس حجم التأثير الممتد للحج على سلوكيات الناس وعاداتهم، بالإضافة إلى عقد مجموعة من المقابلات والنقاشات الموسعة مع غير الحجاج للوصول إلى نتائج أكثر معقولية حول طبيعة هذا التأثير. وقد أسفرت تلك المقابلات والنقاشات عن عدد من النتائج، لعلَّ أبرزها:
– تركزت أغلب النقاشات حول قدسية الحج، وتنوعه العالمي، لقدرته على جذب المسلمين من جميع أنحاء العالم، بصرف النظر عن الطائفة الإسلامية التي ينتمون إليها.
– كان الحجاج أكثر انفتاحًا في مناقشة أمور مثل العلاقة بين الدولة والدين والمساواة الاجتماعية والإعلام والنشاط العام، كما أنهم أيضًا كانوا أكثر انفتاحًا في مناقشة إمكانية السفر والعيش داخل الولايات المتحدة.
– كان الاختلاف الأكثر أهميةً بين مجموعات الحجاج وغير الحجاج متمثلا في الاهتمام الكبير الذي أولته جماعات غير الحجاج إلى أهمية الحفاظ على معايير العقيدة الموحدة والشعائر في الإسلام استنادًا إلى القرآن والسنة والشريعة؛ حيث استغرق النقاش حول ذلك الأمر نسبة (43.5%) من إجمالي النقاشات بين غير الحجاج، مقابل نسبة (6.5%) لنفس الموضوع بين جماعات الحجاج؛ وهو ما يؤشر إلى كون الحجاج أكثر تسامحًا حول هذا الأمر على عكس غير الحجاج، أو على الأقل كانوا أكثر أريحية في الحديث حول علاقة الدولة بالدين على عكس غير الحجاج.
– أظهر الحجاج ميلا كبيرًا للتعبير عن أنفسهم للعامة، نظرًا للخبرة التي حصلوا عليها من الحج، في حين تحدث غير الحجاج عن الأفكار التي تعلموها من الأدب والخطب الإسلامية المتعددة، الأمر الذي جعلهم أكثر تشددًا في أفكارهم مقارنة بالحجاج.
ومن ثمّ أكدت الدراسة، بناءً على تلك الاستنتاجات؛ أن الحجاج، نتيجة لخبرتهم الروحية التي مارسوها خلال فترة الحج، كانوا أكثر ميلا للتسامح والانفتاح على الآخرين، ليس تجاه الجماعات الدينية المختلفة داخل الإسلام فحسب، بل أيضًا تجاه العالم الآخر والأديان المختلفة. في حين كانت النتائج على جماعات غير الحجاج أكثر تشددًا من حيث الأفكار والمبادئ ومن ثم السلوكيات، الأمر الذي يوضح مدى أهمية الطقوس الجماعية للمسلمين وتأثيرها السياسي والاجتماعي عليهم.
وعلى الرغم من أن تلك النتائج لا يمكن تعميمها، فإنها تعد مؤشرًا هامًّا للتأثير الاجتماعي للشعائر الدينية الجماعية على توجهات وأفكار المسلمين.
عرض: باسم راشد
المركز الإقليمي