حينما طُلب مني الحديث عن التطورات السياسية في الشرق الأوسط، وتغير خارطة التحالفات بين الدول، وكذلك كيفية تحقيق الاستقرار بالمنطقة، وجدتُ نفسي أقترح قراءة أحدث كتبي، “العوارض المستمرة لأمريكا في الشرق الأوسط“، فهو بالطبع أكبر من أن يكون مجرد “دعوة للتفاؤل”.
منذ مائتي وثمانية عشر عامًا، كان نابليون يستعد لاحتلال مالطا، بهدف مسح العقبة التي تقف في طريقه لاحتلال مصر وإخضاعها للدولة الفرنسية، وبالفعل تمكن من غزو مصر في 1 يوليو 1798، وخلال حملته على فلسطين بدأ تتحول خطته إلى خارطة أكثر طموحًا من أجل إخضاع الشرق الأوسط كله للدولة الفرنسية.
وسعت القوى الإمبريالية الأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة -حديثًا- لتوجيه العرب والفرس والأتراك نحو القيم العلمانية والتنوير الأوروبي، وذلك عن طريق فرض نماذج غربية لتحل محل الأنظمة الأصلية والإسلامية، ومن ثم محاولة إقناعهم بقبول دولة يهودية على أرضهم.
وبعد أعوام طويلة من فشل هذه الخطة، ستجد الإدارة الأمريكية المقبلة أنها سترث “سيطرة منقوصة” على دول الشرق الأوسط؛ مما ينذر بتضاؤل التأثير الأمريكي بالمنطقة شيئًا فشيئًا.
أوباما السبب؟
ومع تطور الصراع خلال موسم الانتخابات الهزلية الحالية، ألقى العديد من المحللين بل والمرشحين أنفسهم باللوم على الرئيس أوباما بسبب انحسار دور واشنطن خارجيًا، حيث لم يقم بقصف سوريا، كما أنه تنكّر لاتفاق سلفه لسحب القوات الأمريكية من العراق، ولم يرفض المساومة مع إيران حول المسائل النووية، معللين ذلك بأنه لو فعل ذلك لكان النظام القديم في الشرق الأوسط على قيد الحياة وبصحة جيدة، ولا تزال الولايات المتحدة أكثر سيطرة عليه حتى الآن.
ولكن كل ذلك هراء، فالقطيعة مع الشرق الأوسط تنبع من اتجاهات أعمق بكثير من أوجه القصور الواضحة في الإدارة التنفيذية وقيادة الكونجرس.
وخلال العقود الماضية، اتفق الأمريكيون ونظراؤهم في الشرق الأوسط على المصالح والأولويات المشتركة فيما بينهم، إلا أن التغيرات الهائلة في الجيواقتصاديات، وأسواق الطاقة، وموازين القوى والعوامل الديموغرافية، والأيديولوجيات الدينية، فضلًا عن المواقف تجاه الدولة الأمريكية (وليس فقط الحكومة)، كل ذلك عكس الرؤية تمامًا.
وازدادت هذه التغيرات من خلال أخطاء السياسة الأمريكية التاريخية، حيث كان الخطأ الأول هو فشل ترجمة النصر العسكري على صدام حسين بالعراق في عام 1991 إلى سلام مع بغداد، حيث لم يبذل أي جهد للتوفيق بين العراقيين مع هزيمتهم، فبدلاً من فرض شروط معقدة، أصدرت الأمم المتحدة قرارًا من مجلس الأمن يحمل رقم 687 وينص على القيام بعمل عسكري يستفيد من النفط الخليجي، دون مناقشة أو رؤية، وانتهت فترة رئاسة بوش دون التطرق إلى مسألة كيفية استبدال الحرب بالسلام في منطقة الخليج.
وكأحد أنواع الهزائم السياسية، ضرب صدام عرض الحائط بقرار مجلس الأمن رقم 687، ومثلما حدثت حروب إسرائيل مع العرب، دخلت أمريكا في حرب مع العراق لكنها أبدًا لم تنتهِ في الوقت المناسب، ولازالت مستأنفة وتحتاج الولايات المتحدة للوصول إلى استراتيجيات عاجلة لإنهاء تلك الحرب.
الخطأ الثاني، هو التخلي المفاجئ عام 1993 عن استراتيجية الحفاظ على السلام في منطقة الخليج من خلال توازن القوى، وذلك دون إشعار مسبق أو تفسير؛ إذ قامت إدارة كلينتون بهذا النهج منذ فترة طويلة مع “الاحتواء المزدوج” لكل من العراق وإيران، على مدى عقود، حيث كان التوازن البحري يسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على الاستقرار دون تمركز قوات من وحدة بحرية صغيرة جدًا في منطقة الخليج، عندما تم التراجع عن توازن القوى في المنطقة من خلال الحرب بين إيران والعراق، فتدخلت واشنطن لاستعادته، وبمجرد تحرير الكويت، غادرت بعض القوات الأمريكية المنطقة.
والسياسة الجديدة المتمثلة في “الاحتواء المزدوج”، تخلق شرط للنشر الدائم للقوات الجوية والبرية الأمريكية الكبيرة في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر، فضلاً عن الوجود البحري الممتد في البحرين والإمارات العربية المتحدة، والاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع هذا الشرط، أدت مباشرة إلى تأسيس القاعدة وهجمات 11/9 على نيويورك وواشنطن، وكان “الاحتواء المزدوج” معقول كوسيلة للدفاع عن إسرائيل ضد العدوين الإقليميين الأقوى لها وهما إيران والعراق، ولكن ذلك لا معنى له على الإطلاق فيما يتعلق باستقرار منطقة الخليج.
وكان شطب العراق بالتزامن مع إيران، خطوة تمهيدية لإنشاء ذلك الاحتواء المزدوج، كما كان وسيلة للتجربة الأمريكية في 2003 والإطاحة بالنظام في بغداد، وأدى هذا العمل المتهور من جانب الولايات المتحدة إلى إعادة العراق مع إيران، وزعزعة الاستقرار بكل من سوريا والعراق وتقسيمهما، فضلًا عن الكم الهائل من اللاجئين الذي بات الآن مصدر قلق للاتحاد الأوروبي، وكذلك ظهور ما يسمى بالدولة الإسلامية أو د”اعش”، كما أن العراق سقطت في النفوذ الإيراني ولا توجد وسيلة واضحة للعودة إلى التوازن في الخارج، فالولايات المتحدة عالقة مع الخليج، وقد خلق ذلك الاضطراب السياسي رغبة لدى البعض في المنطقة لمهاجمة الولايات المتحدة أو مهاجمة الأمريكيين في الخارج.
تحتاج الولايات المتحدة لوجود بديل لحماية دائمة بالخليج
الخطأ الثالث، هو التوجه نحو أفغانستان في ديسمبر عام 2001 في محاولة لعقابها، وتحويلها لحملة طويلة الأجل التي سرعان ما أصبحت عملية حلف شمال الأطلسي، إذ كانت أهداف حملة الناتو غير واضحة، ولكن يبدو أن الهدف الرئيسي هو ضمان عدم وجود حكومة إسلامية في كابول، وقد كان لمشاركة الاتحاد الأوروبي وكذلك القوات الأمريكية في هذه المهمة الغامضة أثر غير مقصود من تحول ما يسمى بـ”الحرب العالمية على الإرهاب”، إلى رؤية كثير من المسلمين بأنها حرب صليبية عالمية غربية ضد الإسلام وأتباعه.
تحتاج الولايات المتحدة إيجاد سبل لاستعادة تعاون واضح مع المسلمين في العالم
الخطأ الرابع، في 4 فبراير 2002 في أفغانستان؛ حينما شنت أمريكا حملة باستخدام طائرات بدون طيار لإطلاق صواريخ لاغتيال المعارضين، وقد تطور هذا التحول نحو الحرب الروبوتية في برنامج المجازر، وتوسع في غرب آسيا وشمال أفريقيا، ويعتبر عامل رئيسي في تفشي الورم الخبيث المتمثل في الإرهاب المعادي للغرب حول العالم.
فكانت مشكلة الولايات المتحدة هي وجود بعض الإسلاميين المنفيين المقيمين في أفغانستان والسودان، ولكن الآن تحولت إلى ظاهرة عالمية، حيث ولدت تدخلات الولايات المتحدة في تلك المناطق ملاذات آمنة ليس فقط في أفغانستان، ولكن في الدول المضطربة الآن من العراق وسوريا، وكذلك تشاد، لبنان، ليبيا، مالي، النيجر، نيجيريا، باكستان، وسيناء، والصومال، واليمن.
ونتيجة لذلك، تم زراعة الإرهاب بين المسلمين الأوروبيين ووجدوا مكانًا لهم بين المسلمين الأمريكيين، فقد كان ذلك اختيار فاشل لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، حيث خلق المزيد من الإرهابيين الذين يقتلوننا.
الولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية لعدم استمرار النكسة
الخطأ الخامس، ويتمثل في المساعدات الضمنية لإيران خلال الغزو غير المبرر على العراق في 20 مارس 2003، حيث أدى ذلك لتراجع ترتيب الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة بالمنطقة، مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية، من خلال المساعدة على خلق نفوذ إيراني يشمل أجزاء كبيرة من العراق وسوريا ولبنان، وأظهر الاستطلاع أن الولايات المتحدة قد تكون الأقوي عسكريًا، ولكن ضعيفة جغرافيًا وسياسيًا وغير كفء استراتيجيًا، وبدلاً من إبراز القوة العسكرية الأمريكية، تم تخفيض قيمة ذلك.
كما أن الغزو الأمريكي على العراق أيضًا فجر صراعًا طائفيًا لا يزال منتشر في جميع أنحاء العالم بين المسلمين، كما توج الاحتلال الأمريكي وجوده من خلال “زيادة” القوات التي تعمل من أجل نظام موالِ لإيران في بغداد.
تحتاج الولايات المتحدة للتعامل بواقعية مع زيادة نفوذ إيران في المنطقة، والتي ساعدت في خلقه
الخطأ السادس، هو الخلط بين دوافع الإرهاب مع صياغة المبررات الدينية لمرتكبيه، فالعديد من أولئك يسعون للانتقام للظلم والإذلال القادم من الغرب والأنظمة المدعومة من الغرب في الشرق الأوسط، أو الذين يعاملون كأجانب في بلدانهم في أوروبا، فشكواهم في الأساس سياسية، دون وجود مبررات إسلامية، فجرائم القتل الجماعي التي يقومون بها، ما هي اإا محاولات للانتقام.
الأيديولوجية الدينية هي بطبيعة الحال مهمة، وتعتبر عاملًا رئيسيًا لتبرير الكراهية ممن هم خارج المجتمع وتكفيرهم، فالجدل الدائر حول من هو اليهودي أو الشخص المسلم غير مفهوم وسخيف ولكن الشعب المتسامح به تكفيريون، وهذه المناقشات تعرف المجتمع السياسي وأولئك الذين يجب أن يتم استبعادهم منه، فهي تفصل الصديق من العدو، وهؤلاء المراد تكفيرهم لتكون الأحكام الذي يفرضها التعصب مسألة حياة أو موت.
وفي نهاية المطاف، فإن إسناد استياء المسلمين من الغرب إلى الإسلام هو مجرد نسخة من أطروحة سهلة، بأنهم “يكرهوننا بسبب ما نحن عليه”، وتلك هي “حُجة الفاشل”؛ حيث أنه إنكار ذاتي لسلوك الماضي والحاضر للقوى الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، والذي خلق مظالم شديدة تكفي لتحفيز الآخرين على السعي للانتقام من الإهانات التي عاشوها.
فلا يمكن الحديث عن غضب المسلمين مع استبعاد أي محاولة لاستعراض الآثار السياسية للتواطؤ الأمريكي في القمع وتهجير الملايين من الفلسطينيين ومئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من الوفيات الناجمة عن العقوبات الأمريكية، وحملات القصف وحرب الطائرات بدون طيار من أجل الاستعراض السياسي والجبن.
تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع حلفائها الأوروبيين، ومع روسيا ومع شركاء في الشرق الأوسط لمواجهة المشاكل التي تولد الإرهاب، وليس فقط هؤلاء الذين يلجأون إليها.
الخطأ السابع، الاعتماد بعد حرب يوم الغفران على الالتزام بالحفاظ على “التفوق العسكري النوعي” لإسرائيل على جميع الخصوم المحتملين في منطقتها عام 1973، لقد حرمت هذه السياسة إسرائيل من أي حافز لتأمين نفسها عن طريق وسائل غير عسكرية، فلماذا لا تستطيع إسرائيل الشعور بأن أمنها يجب أن يكون من خلال المصالحة مع الفلسطينيين وجيرانها العرب الآخرين، طالما تفوقها العسكري على المدى الطويل يعفيها من أي قلق بشأن العواقب السياسية أو الاقتصادية لاستخدام القوة ضدهم؟
الثقة في التفوق العسكري النوعي لإسرائيل هي الآن المصدر الرئيسي للخطر الأخلاقي على الدولة اليهودية، وأثره كبير في تشجيع إسرائيل لتحقيق مكاسب إقليمية على المدى القصير بدون أي جهد لتحقيق الأمن على المدى الطويل، من خلال القبول بأي مبادرة من قبل الدول المجاورة، والقضاء على التوتر معها وتطبيع علاقاتها مع الآخرين في منطقتها، وهكذا ثبت أن سياسة الولايات المتحدة ضمنت عن غير قصد ما يسمى بـ”عملية السلام” ستكون دائمًا ميتة.
ولا تقلق إسرائيل بشأن العواقب المترتبة على الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والحصار على قطاع غزة وتسهيل التخلي التدريجي عن القيم اليهودية العالمية أو التي ألهمت الصهيونية، ويترتب على ذلك انفصالها عن الجاليات اليهودية خارج حدودها المرنة، ومن خلال دعم الولايات المتحدة يزيد الاستبداد السافر من قبل المستوطنين اليهود على العرب المسلمين والمسيحيين، وهذه هي الصيغة المعنوية والسياسية لنزع الشرعية عن دولة إسرائيل، وليس البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل، بل هو أيضًا وصفة لخسارة الدعم السياسي والعسكري وغيره من الأمريكيين لإسرائيل في نهاية المطاف، وهو ما لا يمكن الاستغناء عنه.
تحتاج الولايات المتحدة إلى إبعاد إسرائيل عن فكرة الاعتماد على الرعاية الاجتماعية، وإنهاء الالتزامات غير المشروطة التي تمكن السلوك المدمر للذات من جانب الدولة اليهودية.
الخطأ الثامن، إسناد سياسات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط على التفكير الاستنتاجي على الأرض حول الأوهام الإيديولوجية والروايات المريحة سياسيًا، بدلاً من الاستدلال الاستقرائي والتحليل القائم على الواقع.
العوارض الأمريكية لا يمكن أن يبررها بأنها “خطأ الاستخبارات”، وأنها نتيجة للتسييس الأيديولوجي، وقد تواجدت الكثير من الأخطاء السياسة المتعددة على أساس التمني، والاستماع الانتقائي ومرآة التصوير، ومن الأمثلة على ذلك:
- إدانة برنامج صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، بالرغم من عمليات التفتيش للأمم المتحدة والكثير من الأدلة التي أثبتت العكس ذلك، والتي لا تعتبر ذلك البرنامج خطرًا وشيكًا، وإدانة التفكير بأنه لا يمكن وقف البرنامج إلا عن طريق الإطاحة به.
- الافتراض أنه ـ على الرغم من علمانيته الموثقة جيدًا ـ أن صدام متواطئ مع المتعصبين الدينيين من تنظيم القاعدة، لأنه كان عربيًا، مسلمًا ورجل سيء.
- الافتراض أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق سيكون قصير، وسهل وغير مكلف.
- الاعتقاد بأن الإطاحة بنظام الحكم لن يسمح للأرصدة الطائفية والعرقية بتفكيك مجتمعات مثل العراق وليبيا وسوريا ولبنان، أو إشعال صراع طائفي أوسع.
- اتهام طائفة من العراقيين في مواقف سياسية، ومعظمهم من المنفيين في الخارج.
- التوقع المضحك بأن القوات الأمريكية عندما تغزو العراق سيكون الشعب في انتظارها كمحررين.
- والافتراض الذي لا يتزعزع بأن إسرائيل يجب أن ترغب في السلام أكثر من الأراضي.
- دعم حكم الغوغاء في الشارع العربي مع عملية التحول الديمقراطي.
- الثقة بأن إجراء انتخابات حرة ونزيهة من شأنه أن يضع الليبراليين بدلاً من القوميين الإسلاميين في السلطة في المجتمعات العربية مثل فلسطين ومصر.
- الافتراض بأن إزالة الأشرار من منصبهم، كما هو الحال في ليبيا، واليمن، وسوريا، من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع قادة أفضل وازدهار السلام والحرية والاستقرار الداخلي هناك.
- تخيل أن الحكام المستبدين مثل بشار الأسد يمكن خلعهم بسهولة.
أنا قادرًا على رصد المزيد من الأخطاء من وجهة نظري، ولكن التعامل مع منطقة الشرق الأوسط يحتاج إلى العمل على الواقع كما هو.
تحتاج الولايات المتحدة إلى العودة إلى التحليل القائم على الواقع والواقعية في سياستها الخارجية
وتفاقمت كل هذه الحماقات التي ارتكبتها من خلال استبدال ثابت إلى التكتيكات العسكرية بدلا من الاستراتيجية، فالنجاح الدبلوماسي للاتفاق النووي مع إيران، وحوار السياسات في واشنطن وحملة الانتخابات الرئاسية الحالية ركزت تمامًا على تعديل مستويات القوات، والآثار المترتبة على عقيدة مكافحة التمرد، والسؤال متى وكيفية استخدام القوات الخاصة سواء لمواجهة قوات على الأرض، أوما شابه ذلك، مع عدم ذكر كلمة واحدة عن ما هي هذه الاستخدامات لهذه القوة دون قتل الناس، فعندما يتم تقديم مقترحات للعمل العسكري، لا أحد يسأل “وماذا بعد ذلك؟”.
خطط الحملة العسكرية التي تستهدفها أي دولة لها نهاية سياسية محددة، أما العنف من أجل العنف فهو يخلق بشكل واضح الكثير من المشاكل، ومن المرجح أن القيام بتلك العمليات العسكرية غير الموجهة وغير المصحوبة بالدبلوماسية؛ يقود التفكير في إسرائيل، ونحن والمملكة العربية السعودية إلى حملات في غزة والعراق ولبنان وليبيا واليمن.
على النقيض من ذلك، التدخلات العسكرية التي تقتصر في أهدافها وحجمها ومدتها؛ تحقق إنجازات مناسبة؛ مع وجود قوات دعم أصلية تظهر قدراتها في ساحة المعركة.
ومن الأمثلة على ذلك مرحلة تورا بورا قبل التدخل الأمريكي في أفغانستان، والجولة الأولى من التدخل الروسي في سوريا، وتمثلت أهدافها – والتي كان ينظر إليها في البداية باعتبارها غارة عقابية – في أفغانستان في أكتوبر 2001 لتفكيك القاعدة ولمعاقبة طالبان لضمان أن “الإرهابيين في أي مكان في العالم” ستحرم من ملاذ آمن في أفغانستان.
وقامت الولايات المتحدة بملاحقة هذه الأهداف، من خلال دعم أعداء معظمهم من البشتون في طالبان والذين أثبتت قدراتهم السياسية والعسكرية البقاء في السلطة، وتميل الاستثمارات الأمريكية والبريطانية بشكل محدود على قدرات الاستخبارات والقوات الخاصة، مع وحدات تحكم القتال الجوي والغارات الجوية في ساحة المعركة لصالح تحالف الشمال وضد طالبان، وفي أقل من شهرين، تم إجبار حركة طالبان على الخروج من كابول وكان آخر ما تبقى من تنظيم القاعدة قد قتلوا أو طردوا من أفغانستان، واستطعنا تحقيق أهدافنا.
ولكن بدلا من إعلان النصر والرقص خارج الملعب؛ إذ انتقلنا إلى المرمى، وشنت الولايات المتحدة حملة مفتوحة وجندت حلف شمال الأطلسي في الجهود المبذولة لتثبيت حكومة في كابول أثناء بناء الدولة من أجل الحكم، وتشجيع الحركة النسوية وحماية مزارعي الخشخاش، والخشخاش لا يزال تزدهر، وكل شيء يبدو ليكون سريعة الزوال.
وتدخل السيد بوتين في سوريا في عام 2015، حيث اعتمد في نجاحه على مكونات مشابهة لتلك الموجودة في تورا بورا قبل تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان.
ودخل الروس بحصة متواضعة من القوات الجوية والقوات الخاصة لدعم الحكومة السورية، التي أثبتت بما فيه الكفاية القدرة على المواجهة بعد أكثر من أربع سنوات من جهود داعش للإجهاز عليها، وكانت الحملة الروسية ذات أهداف سياسية واضحة، وتمسكت بها.
تسعى موسكو للحد من تعقيدات سوريا لاختيار بين الحياة في ظل الديكتاتورية العلمانية لنظام الأسد، أو حكم المتعصبين الإسلاميين، كما أنها عززت من التفاهم الروسي-الإيراني، وضمان أنه مهما حدث فإن روسيا لا تفتقر إلى العملاء في سوريا أو يتم إقصاؤها من قواعدها في طرطوس واللاذقية.
ونجحت روسيا في إجبار الولايات المتحدة على عملية سلام ذات مصداقية دبلوماسية، حيث لم يعد إزالة النظام أمرًا مسلمًا به، كما أنها اعترفت بروسيا وإيران كمشاركين أساسيين، كما استعادت الروح المعنوية للقوات الحكومية، في حين وضع خصومهم الإسلاميين في موقف دفاعي والحصول على الأرض ضدهم، كما أكدت على أهمية روسيا كشريك في مجال مكافحة الإرهاب.
كما وضعت موسكو يدها على ثغرة لمنع تدفق اللاجئين من غرب آسيا التي تهدد ببقائها في الاتحاد الأوروبي، مما يؤكد أهمية لا غنى عنها لروسيا في الشؤون الأوروبية، فقد أظهرت براعة عسكرية جديدة، وأعادت تأسيس نفسها كلاعب رئيسي في شؤون الشرق الأوسط، وأوضحت أن روسيا يمكن الاعتماد عليها في الوقوف عندما تكون في خطر، ورسم على النقيض من ذلك التخلي الأمريكي عن حسني مبارك في عام 2011، وتبلغ تكلفة هذه الإنجازات بعض الأضرار الجانبية لعلاقات روسيا مع تركيا، وهو سعر يبدو أن موسكو قادرة على التعامل معه.
ولكن فشل الدولة في سوريا لا يزال، كما هو الحال في العراق وليبيا والصومال واليمن، إذ تتعرض الأردن والبحرين لضغوط، فيما تجسد كل من تونس وتركيا الإسلام الديمقراطي.
كما قامت إسرائيل بخنق غزة في حين تبتلع بقية فلسطين، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين في حالة تشبه الحرب مع إيران، والتي بدورها في طفرة في العلاقات مع أوروبا وآسيا، إن لم يكن أمريكا، فيما تحاول كل من الكويت وعمان وقطر البقاء بعيدًا عن القتال، أما مصر ذات الثقل العربي في المنطقة، فهي تعيش على الصدقات من عرب الخليج وتحت الأحكام العرفية، بينما تم تقسيم السودان من قِبل الغرب.
هذا هو مشهد الشرق الأوسط، ويمكننا أن نرى أن الجغرافيا السياسية للمنطقة في المستقبل سوف تختلف عن ماضيها وملامحها الحالية، ولكن لا نستطيع أن نقول ذلك، فهناك أكثر من سياسات شبه مؤكدة تنتج نفس النوع من الفوضى التي نراها الآن، فما الذي يجب عمله؟ ربما ينبغي لنا أن نبدأ من خلال محاولة لتصحيح بعض الأخطاء التي أنتجت الألغاز الحالية.
فلم يتراجع الاعتماد في العالم على الطاقة من الخليج، ولكن لدينا ما يعطينا بعض حرية المناورة، يجب أن نستخدمها، فنحن بحاجة إلى تسخير قدراتنا الدبلوماسية بدلاً من العسكرية، والمفتاح لهذا هو العثور على طريقة لدعم التوازن في العراق واستعادة السلطة في منطقة الخليج، ومن شأن ذلك أن يتيح لنا تخفيض وجودنا هناك إلى مستويات تجنب تحفيز رد فعل عدائي والعودة إلى سياسة التوازن الخارجي.
ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا كانت السعودية ودول الخليج السنية الأخرى تكتشف الفروق بين الأنواع المختلفة من المذهب الشيعي في النجف العراقية وقم الإيرانية، فتشيع النجف يميل إلى أن يكون جبري وداعم للقومية العراقية، أما تشيع قم هو أكثر عالمية بحزم ونشاط.
السعوديون وحلفاؤهم يحتاجون إلى التكاتف مع العراقيين الشيعة كعرب بدلاً من توبيخهم، كما أن تطبيع محدود للعلاقات الإيرانية مع الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، هو أمر حتمي؛ فاستراتيجيات شركائنا العرب في المنطقة تحتاج إلى توقع وحيطة ضد هذا، ونحن بحاجة إلى إعدادهم للقيام بذلك.
ومثل هذا التكيف يستغرق بعض الحب القاسي جدًا من الولايات المتحدة، وسيتطلب من السعوديين وحلفائهم التراجع عن السياسات القائمة على الطائفية السلفية وإعادة احتضان التسامح والتي هي من صميم الإسلام.
وسوف يتطلب أيضًا قدرًا من التعاطي مع إيران، بغض النظر عن حالة العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وعلى حد سواء بعيدًا عن الطائفية وتحقيق تسوية مؤقتة مع إيران والسعوديين وحلفائهم والبقاء في موقف دفاعي، أما أن يبقى العراق امتدادًا للنفوذ الإيراني، فسوف تبقى المنطقة مشتعلة بسبب الحروب الدينية، وكل هذا سوف يمتد إلى الأمريكيين وحلفائنا الأوروبيين.
الإسلاموية، وهي شكل متطرف من الإسلام السياسي- وهي أيديولوجية ضارة تدعو لاعوجاج سياسي.
ولم تحصل على شيء في المملكة العربية السعودية، فهناك تم تفنيد حملة دعائية منسقة على نحو فعال ضد البدع الإسلامية، وقد بذلت جهدًا لتشكيل ائتلاف لشن مثل هذه الحملة على أساس إقليمي.
ولكن مثل هذا التحالف أمر ضروري لمواجهة التحديات السياسية للمتطرفين المسلمين لتشكيل استقرار المنطقة وأمن الغرب، فقط السعوديون وغيرهم من ذوي المصداقية بين السلفيين المسلمين، في وضع يمكنهم من تشكيل وقيادة حملة للقيام بذلك، هذا هو مثال منطقي بالنسبة للولايات المتحدة التي “تقود من الخلف”.
من جانبنا، يجب أن يكون الأمريكيون في القيادة لتصحيح سوء فهمنا للنتائج العكسية من الإسلام، لقد أصبح الخوف من الإسلام كبيرًا، وقد اقترح المرشح المفترض من واحد من الحزبين الرئيسيين منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة.
ولا تنسجم هذه المواقف الوطنية مع التعاون الذي نحتاجه مع الشركاء المسلمين لمحاربة التطرف والإرهاب، وإذا لم نقم بتصحيح هذه المواقف، سوف نستمر في دفع الكثير من المال والدم أيضًا.
وأخيرًا، يجب على الولايات المتحدة التوقف عن تقديم شيكات على بياض للشركاء في المنطقة فهي عرضة للسياسات والإجراءات التي تهدد المصالح الأمريكية، وكذلك الاحتمالات الخاصة بهم المضللة والهدامة، (لا مزيد من اليمنيين، ولا مزيد من غزة للإسرائيليين، ولا ضمانات عسكرية أكثر)، وهي الدبلوماسية الرامية إلى تحقيق الأمن على المدى الطويل لإسرائيل.
فالقيام بتلك التعديلات هو مقياس لنهج فعال لإدارة علاقاتنا مع الشرق الأوسط، أو كيفية إعاقة قدرتنا على المساهمة في تحقيق السلام والاستقرار، لدينا وسائل الإعلام الرئيسية وهم “ببغاوات” مع الإعلام الرسمي.
ويكرس ساستنا روايات لا تحمل أي علاقة بواقع الشرق الأوسط، كما أن حكومتنا مختلة، وكذلك سياستنا.
في النهاية، احتمالات حصولنا على تلك السياسة ليست جيدة، ولكن التاريخ لن يعفينا، مع الوضع في الاعتبار تعريف أينشتاين عن الجنون وهو “أن تفعل نفس الشئ مع توقع نتائج مختلفة”، ونحن لن نحصل عليها.
التقرير