لا حديث عن سورية الآن سوى حديث الحرب، مرة بدعوة النظام إلى إلحاق الهزيمة بـ «داعش» و»جبهة النصرة» وتحرير الأراضي التي يحتلانها، وأخرى بذريعة قطع خطوط الإمداد بين التنظيمين والحدود العراقية والتركية، ودائماً بحجة أن جولات التفاوض الثلاث بين النظام والمعارضة في جنيف لم تؤد، ولا يبدو أنها ستؤدي، إلى تقدم الحل السياسي على الحل العسكري.
تقود الحركة في هذا الاتجاه طهران، ومعها حكماً نظام بشار الأسد، كما في الأجواء وعلى الأرض الطيران الروسي وميليشيا «حزب الله»، فيما لا تبدو واشنطن بعيدة كلياً عن المشهد وهي تشن حربها الخاصة في منبج على الحدود مع تركيا، تحت راية ما يسمى «قوات سورية الديموقراطية».
وإذا كانت لهذه الأطراف أهدافها من الحرب، وحتى نياتها المحلية كما بالنسبة إلى إدارة باراك أوباما التي تسعى إلى تحقيق إنجاز خارجي عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، فلم يعد خافياً أن ما تريده طهران ودمشق من ناحيتهما، وتشاركهما فيه موسكو لأسبابها الأميركية والأوروبية، هو توجيه ضربة قاضية لكل أمل بالتسوية السياسية في سورية… أقله في المدى المنظور.
استضافة طهران الاجتماع الأخير بين وزراء دفاع الدول الثلاث، وإعلانها من بغداد تعيين اللواء قاسم سليماني مستشاراً عسكرياً للحكومة العراقية، يشيران بوضوح- ومعهما على الأرض رفع منسوب الهجمات على كل محاور حلب وفي الرقة كما في الغوطتين الشرقية والغربية- إلى اعتماد ما قال نظام بشار الأسد مراراً أنه «لا حل مع الإرهاب إلا الحل العسكري». ولا حاجة للقول إن مناورة روسيا الخاصة بإعلانات «وقف الأعمال العدائية» لساعات فقط، 24 أو 48 أو 72، في حلب أو في إدلب أو في الغوطتين، إنما يصب في هذا السياق أكثر من أي شيء آخر.
لم توافق طهران يوماً على الحل السياسي في سورية (ولا طبعاً في العراق)، ومثلها نظام دمشق الذي اشترك في المفاوضات إن في جنيف أو في فيينا أو موسكو لكنه تعمد إفشالها كلها، وهما لا يفعلان الآن سوى العودة بالحال فيها إلى النقطة صفر: نقطة النظام الأولى بقتل الأطفال الذين تظاهروا في درعا يوم 15 آذار (مارس) 2011.
ويبدو أن حركة «الولي الفقيه» الإيراني في الفترة الحالية، تقوم على نظرية أن لا مجال لتحقيق أهداف طهران البعيدة في سورية والعراق إلا بالحرب بمعناها الواسع: في الأولى، لإنجاز نصر حاسم لربيبها بشار، من شأنه أن يمنع أية تسوية سياسية تأخذ منه ولو القليل من السلطة، فضلاً عن احتمالات فدرلة البلاد أو حتى لا مركزية مناطقها وطوائفها ومذاهبها وأعراقها. وفي الثاني، للدفع باتجاه تمكين سلطة «حزب الدعوة» وميليشياته الطائفية في الأقاليم الشيعية، على حساب «داعش» أولاً كما يتم الآن بدعوى محاربة الإرهاب، ثم السنّة لاحقاً، ولو أدى الأمر إلى تقسيم العراق رسمياً في نهاية المطاف.
أما لماذا؟ فلأن إيران لا تتحمّل أن ترى نفسها ونفوذها خارج سورية في أية تسوية سياسية يمكن أن تطرح لمستقبل هذا البلد أو لمستقبل نظامه، فضلاً عن انعكاس ذلك مباشرة على «حزب الله» في لبنان، في الوقت الذي لا تريد فيه للعراق أن يبقى بلداً موحداً وقوياً… بوابة العالم العربي الشرقية من ناحية، والسد التاريخي في مواجهة الأطماع الإيرانية التاريخية من ناحية ثانية. ولم يعد سراً ما بات يقال علناً في طهران، عن أن «كأس السم» التي شربها الخميني مع نهاية الحرب العراقية- الإيرانية لا بد أن تُرَد إلى العراق بالمئات وربما حتى بالآلاف. وليست الحروب الأهلية العراقية، القائمة فعلياً منذ سنوات (السنية- الشيعية، والإسلامية- المسيحية، والعربية- الكردية) كما التقسيم الواقعي للأرض والسكان، إلا بعض هذه الكؤوس.
ولا يعني غير ذلك عملياً، قرار إيران تعزيز قواتها المسلحة وحرسها الثوري كما قوات «حزب الله» في سورية، على رغم الخسائر الكبيرة التي لحقت بها في الشهور الماضية، وفي حلب والغوطتين تحديداً استعداداً للحرب المزمعة فيهما، وإطلاق يد ما يسمى «الحشد الشعبي» (اعترفت طهران أخيراً بأنها هي التي أنشأتها) في الفلوجة ونينوى لاعتقال وإعدام الهاربين من «داعش» ومن الحرب الأميركية- العراقية لتحريرها.
ولكن، ماذا تفعل روسيا، وتالياً الولايات المتحدة، إزاء هذه الخطة التي تدفع باتجاه الحرب وتحضّر لها، على حساب كل ما تقوله الدولتان الكبريان عن العمل، متحدتين ومنفردتين، من أجل تسوية سياسية في سورية من جهة، وفي العراق من جهة ثانية؟
غالب الظن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يستبعد الدخول في مساومة، فضلاً عن مقايضة، مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، لا حول سورية وأوكرانيا، ولا حول منطقتي الشرق الأوسط وشرق آسيا وتقاسم الأدوار فيهما، لا يريد إدخال علاقاته مع إيران في الامتحان، ولا كذلك اختبار علاقاته مع إسرائيل التي ترى في نظام الأسد (كما في سورية الإيرانية تحت رعاية موسكو) جاراً يمكن الاطمئنان إليه.
«ليجربوا»، يقول بوتين في سرّه، تماماً كما قال للأسد الذي «رغب في تحرير سورية كلها» غداة وصول القوات والطائرات المقاتلة الروسية إلى طرطوس واللاذقية في أيلول (سبتمبر) الماضي، وذلك انطلاقاً من نظريته القائمة على أن كل الغيوم ستمطر عنده في نهاية المطاف: المزيد من الأوراق للمساومة مع واشنطن… إن لم يكن مع الإدارة الحالية، فمع الإدارة المقبلة.
أما أوباما فلا يبدو أنه معني بأكثر من تحقيق «إنجاز» خارجي ما، ضد «داعش» في الفلوجة أو ربما في منبج أو الرقة بالتنسيق مع القوات الكردية، عله يعزّز فرص زميلته هيلاري كلينتون بالرئاسة في الولايات المتحدة.
صيف ساخن جداً، ودموي جداً، في سورية والعراق؟ يخشى أن تكون هذه هي الحقيقة.
محمد مشموشي
صحيفة الحياة اللندنية