لا يزال كثير من خبراء العلاقات الدولية، والمعنيين بها، يميل إلي تفسير اضطراب النظام العالمي بالصراعالمعتاد بين المهيمنين عليه، والراغبين في تعديله. وفي هذا الإطار، نظر ريتشارد هاس في مقالته (كيف نتعامل مع عالم مضطرب؟)، في عدد نوفمبر ديسمبر من مجلة “فورين أفيرز”، إلي الاضطراب الراهن في النظام العالمي من زاوية هذا الصراع المألوف بين قوي الاستقرار وقوي التغيير. وذهب إلي أن ميزان القوي في هذا الصراع يتحول لمصلحة أو قوي عدم الاستقرارForces Of Disorder ، وعلي حساب تلك التي تعمل من أجل استمرار النظام Forces Of Order. غير أن الصراع يبدو أكثر تعقيدا وتركيبا الآن، من حيث أطرافه وطابعه، لأسباب، في مقدمتها صعود جيل جديد من العنف أكثر تطرفا، وأشد خطرا، وأوفر ذكاء، وتنامي دوره ونفوذه، حجما ونوعا، نتيجة تحوله جزئيا إلي حركة تمرد اجتماعي في بعض البلاد التي تغلغل فيها، ووجد حاضنة له، فصار مزيجا من الإرهاب بمرجعياته السلفية الجهادية، والتمرد بطابعه الاجتماعي. ولذلك، يبدو أن الصراع في العالم يتجه لأن يكون ثلاثيا بين قوي محافظة، وأخري مراجعة، وهو ما يحدث عادة في الأغلب الأعم، وثالثة مدمرة، وهو الجديد الذي يميز المرحلة الحالية. يتحول الإرهاب الراهن، الذي يمثل تنظيم “الدولة الإسلامية” المعروف حتي الآن باختصار اسمه السابق “داعش”، رأس الحربة فيه، إلي قوة ثالثة في النظام العالمي. ويبدو هذا التطور إرهاصا لحالة جديدة تنطوي علي بعدين، أولهما يتعلق بأنماط الصراع الذي يتجه، لعدة سنوات قادمة علي الأقل، لأن يأخذ طابعا ثلاثيا. أما البعد الثاني والأخير والأهم، فهو أن القوة الثالثة الصاعدة، التي تهدف إلي تقويض أركان النظام العالمي وقواعده كافة، وإحلال منظومة مختلفة تماما محله، تملك من القدرة والتأثير ما يجعلها إحدي القوي المركزية فيه، بعد أن كان هذا النوع من القوي هامشيا أو ثانويا من قبل. ولذلك، قد لا يكون جوهر الأزمة الآن هو الصراع بين القوي الهادفة إلي استقرار النظام العالمي، وتلك الساعية إلي مراجعته. فما يجمع هذه وتلك، علي كل ما يفرقهما، هو أنهما تخشيان القوي الصاعدة التي تهدف إلي تغيير جوهر النظام العالمي، وليس إلي تغيير في بعض قواعده، وأنماط تفاعلاته، أي إلي إزالته، واستبدال منظومة أخري به، تختلف جذريا عنه. ولعل هذا ما يفسر ترحيب قوي المراجعة الرئيسية بالحرب الجديدة التي أعلنتها الدولة الأكبر بين القوي المحافظة ضد الإرهاب، والتي ربما تكون هي الأغرب حتي الآن في تاريخ الحروب في العصر الحديث.
دروس غائبة وأخطار متكررة:
يقترن الاضطراب الذي يجتاح النظام العالمي بتخبط في معالجته. ولا يخلو هذا التخبط من فوضي يلاحظها كثير من الباحثين والمراقبين، ويراها بعضهم استراتيجية، مثل الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في الولايات المتحدة، أنتوني كوردسمان، خاصة في السياسة الأمريكية تجاه سوريا. وبغض النظر عن دقة هذا التعبير “فوضي استراتيجية”، فهو يعبر عن حالة تعد جزءا من مشهد الاضطراب في سياسات اللاعبين الأساسيين، وكذلك الثانويين أيضا، المنخرطين في الصراع العالمي الثلاثي الذي بلغ ذروته في الشهور الأخيرة، عبر إعلان حرب ثانية علي الإرهاب عموما، وعلي تنظيم “الدولة الإسلامية” بصفة خاصة. وهذه حرب جديدة وقديمة في آن معا. فقد أعلنت الولايات المتحدة حربا علي الإرهاب في العالم، عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، وسعت إلي تعبئة حلفائها وغيرهم، والحصول علي مساعدة حتي من بعض خصومها في تلك الحرب، ولكن بدون بناء، أو محاولة بناء تجمع دولي، بخلاف ما تفعله منذ سبتمبر 2014، حيث تسعي إلي إقامة ما تسميه “تحالفا دوليا” واسعا. غير أن إعلان الحرب الجديدة لم يقترن باستخلاص دروس مواجهة الإرهاب منذ سبتمبر 2001، واستيعاب الأخطاء التي حدثت فيها، وتحديد مصادر الوهن التي عانتها، حتي لا يعاد إنتاج ما صار هناك اتفاق واسع علي أنه فشل استراتيجي كان له أثر كبير -وربما الأكبر- في حالة الاضطراب الراهنة في النظام العالمي. فلم يكن عدم الاهتمام ببناء تحالف دولي واسع ضد الإرهاب هو المشكلة في الحرب الأولي. ولذلك، لا يعد السعي إلي بناء مثل هذا التحالف الآن هو الحل، بافتراض أن في إمكان الولايات المتحدة إيجاد أكثر من تجمع فضفاض يفتقد الحد الأدني من التماسك، ويموج بخلافات بين معظم أطرافه، وتناقضات جوهرية بين بعضها. كما لم يكن إرسال “جحافل” من القوات البرية الأمريكية إلي أفغانستان والعراق، في حد ذاته، هو المشكلة، بل الأهداف التي أُرسلت تلك القوات لتحقيقها، والرؤية التي انبثقت منها هذه الأهداف. ولذلك ما كانت النتائج تختلف في جوهرها لو أن واشنطن اكتفت بإرسال قوات جوية، وليست برية، واعتمدت علي طائراتها، وصواريخها، وقنابلها. فالفشل الاستراتيجي يعود إلي خلل في الرؤية، وعطب في السياسة، وليس إلي نوع القوات المستخدمة. فالتباين في نوع، وبالتالي في طبيعة الحرب، يؤدي إلي نتائج مختلفة في تفاصيلها، ولكن ليس في محصلتها. وقد يكون التباين في التفاصيل كبيرا، ولكن بمنأي عن المحصلة المقصودة هنا، وهي الفشل الاستراتيجي فيما يمكن أن نسميه الحرب الأولي علي الإرهاب، والذي قد يكون هو نفسه مصير الحرب الراهنة. وإذا صح هذا التقدير، فربما نكون إزاء “حرب بلا نهاية” في أي مدي زمني يمكن أن يغطيه التحليل السياسي الاستراتيجي، وفق ما ذهب إليه برونو توتريه، الباحث في “مؤسسة البحوث الاستراتيجية” الفرنسية، في كتاب أصدره قبل نحو عشرة أعوام (2004)، وحمل هذا العنوان. ولذلك، ربما تكون هذه الحرب علي الإرهاب هي الأغرب بين حروب العصر الحديث لأسباب أبعد بكثير من طابعها المتمثل في حرب بين دولة أو دول من ناحية، وتنظيم أو تنظيمات من ناحية أخري. فكم من حروب من هذا النوع، الذي يعرف بالحروب غير المتماثلة، وقعت وستقع في المستقبل. فهذه حرب تقودها دولة هي الأقوي في التاريخ، وتقف وراءها عشرات الدول والبلاد فيما تسميه “تحالفا”، لم يظهر له من اسمه نصيب، حتي كتابة هذه الافتتاحية، ضد تنظيم يضم بضعة آلاف من المقاتلين، ويعيش في عصر سحيق، كان العقل الإنساني فيه محدودا، بينما تنتمي الدول التي تحاربه انتماء” فعليا أو شكليا إلي العصر الحديث الذي يسعي فيه العقل إلي سبر أغوار المنظومة الشمسية كلها. فقد تزامن إطلاق تلك الحرب علي تنظيم منبت الصلة بالعقل الحديث، وما ينتجه من علم، مع نجاح هذا العقل -للمرة الأولي- في إرسال روبوت إلي سطح مذنب يكون في قلب المنظومة الشمسية قبل نحو 4.6 مليار سنة، أي مع ولادة هذه المنظومة نفسها، سعيا إلي استكشافه. ولما كان عمر المذنب هو نفسه عمر المنظومة الشمسية، فهذا يعني أنه يمثل أرشيفا كاملا لتلك المنظومة، وتطورها عبر الزمن، الأمر الذي قد يتيح معرفة أصل الكون للمرة الأولي. فيا له من تناقض بين القوي الكبري التي تقود الحرب (الولايات المتحدة ودول أوروبية)، ويبلغ العقل فيها أعلي مبلغ في التاريخ، ويحقق أكبر اختراق في الطريق إلي المستقبل، والقوي التي تُشن عليها هذه الحرب بعقلها الذي يقبع في مجاهل التاريخ، وتبدو صلته بالمستقبل مقطوعة. ولا يقلل من حدة هذا التناقض أن بلادا تشارك في الحرب الراهنة تقف في منزلة بين هاتين المنزلتين، ويبدو بعضها أقرب من حيث الجوهر إلي حالة القوي التي أُعلنت عليها هذه الحرب، وإن ظهر علي السطح أن لها علاقة بالعصر الحديث. فالتخلف سمة عامة لهذه البلاد، خاصة علي مستوي العقل والعلم المرتبطين بالحرية التي تتراجع فيها، إذ يعاد إنتاج شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، رغم أن التجارب السابقة في هذا المجال أنتجت فشلا كاملا لم تتسن معالجته إلا بمراجعة هذا الشعار، والحد من غلوائه. وبسبب إغفال كثير من الدروس، وليس هذا الدرس فقط، تظل الحرب العالمية الراهنة علي الإرهاب محصورة في عمليات عسكرية وأمنية تهدف إلي مطاردة إرهابيين وملاحقتهم سعيا إلي قتل واعتقال من يتيسر منهم. وهذه إحدي غرائبها، بعد أن تبين، علي مدي عقود، أن حصر محاربة المنظمات الإرهابية في استهداف أعضائها لا يجدي كثيرا في وجود بيئة -أو بيئات- منتجة للتعصب الذي يتحول بعضه إلي تطرف فإرهاب. ورغم أن البيانات الصادرة عن بعض الاجتماعات واللقاءات، التي استهدفت تدشين تحالف دولي ضد الإرهاب، تضمنت إشارات إلي مواجهة شاملة يفترض أنها تعني عدم الاقتصار علي عمليات عسكرية وأمنية، فقد ظلت المواجهة محصورة في هذه العمليات. وربما تقترن الفجوة بين ما ورد في تلك البيانات، وما يحصل في الواقع بالحدود الضيقة للمقصود بشمول المواجهة، والتي تقف عند إصلاح، أو تصحيح، أو تغيير ما يسمي الخطاب الديني المتطرف. فهذا الخطاب موجود منذ قرون، ولم يرتبط بعنف إلا في ظل بيئة مجتمعية (اجتماعية – ثقافية – اقتصادية) تدفع إلي هذا العنف الذي يبحث عن لافتة يضرب تحتها. فالبيئة المجتمعية، إذن، هي المتغير الرئيسي، بينما الخطاب المتطرف هو المتغير التابع الذي يؤدي وظيفة عنفية في ظل هذه البيئة. وينطبق ذلك علي الخطاب الديني المتطرف الآن، كما علي الخطاب اليساري الأكثر راديكالية في مرحلة سابقة، حين استخدم لافتة لعنف طبقي أفرزته بيئات اجتماعية في تلك المرحلة التي كانت لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة ودول في أوروبا وغيرها تضم تنظيمات يسارية لا أصولية.
تناقضات لا نهائية:
لا يخفي أن الحرب الثانية الراهنة التي أعلنتها الولايات المتحدة علي الإرهاب، واستهدفت حشد أكبر عدد من الدول والبلاد للالتحاق بها، في تجمع فضفاض أطلقت عليه “تحالفا”، لم تفتقد فقط المقومات الأساسية لأي تحالف، بل غابت فيها الرؤية والاستراتيجية. وحرب بدون استراتيجية لا تعدو أن تكون جملة من العمليات العسكرية والأمنية تعتمد علي التجريب، وتجعل العراق وسوريا مسرح عمليات مفتوحا. وتحالف بدون مقومات ليس أكثر من لافتة لتجمع مفتوح لم يجتمع المشاركون فيه جميعهم مرة واحدة، إذ اقتصرت اللقاءات التي عُقدت تحت هذه اللافتة في جدة، وباريس، وقاعدة أندروز الأمريكية علي مجموعات منهم. كما لا يعرف أحد عدد الدول والبلاد المنضمة إلي هذا التحالف. فليس هناك حصر لها، ولا سبيل أصلا إلي هذا الحصر في أي تجمع فضفاض، يبدو المجهول فيه أكثر من المعلوم. كما لا يوجد أي نوع من تقسيم العمل المنهجي والمنظم والمتفق عليه في إطار تجمع يحفل بتناقضات قد يستعصي حصرها، كما هو الحال بالنسبة لأعضاء هذا التجمع. ولا تقتصر هذه التناقضات علي الملتحقين بـ “التحالف الدولي ضد الإرهاب”، فهي تبدأ داخل الولايات المتحدة بين مؤسسات صنع القرار فيها. وكانت استقالة وزير الدفاع، تشاك هيجل، هي أول تداعيات هذه التناقضات0وقد ظهر أول مؤشر علي تضارب مواقف المؤسسات الأمريكية في أول نوفمبر 2014 بين البيت الأبيض، ووزارة الدفاع (البنتاجون) بشأن السياسة التي ينبغي اتباعها تجاه الأوضاع المعقدة في سوريا. نشرت “نيويورك تايمز” في ذلك الوقت أن هيجل أرسل مذكرة إلي البيت الأبيض، نبه فيها إلي مثالب غموض السياسة الأمريكية تجاه سوريا. وعندما سئل عن ذلك في مؤتمر صحفي، لم ينف ما نُشر، وحملت إجابته المراوغة ما يستفاد منه تأكيد ضمني. كما ظهر تعارض بين هيجل ورئيس هيئة الأركان الجنرال، مارتن ديمبسي، في تصريحين متزامنين تقريبا في 19 من الشهر نفسه. فبينما تحدث ديمبسي عن أن مهمة التحالف تتركز في هزيمة “داعش”، لا إسقاط نظام الأسد، أو قيادة عملية تحول في سوريا، نبه هيجل إلي خطر استفادة هذا النظام من الحملة علي التنظيم المتطرف، وإلي مغبة عدم إغفال أن الأسد هو الذي تسبب في الفوضي في سوريا. ورغم أن وزير الخارجية، جون كيري، لم يكن في مجال الرد علي هيجل، عندما قال إن الضربات الجوية ضد “داعش” لن تساعد الأسد، وأن من يعتقدون في ذلك يخطئون قراءة الواقع، فقد ظهر الخلاف بينهما واضحا. وعندما تحدث نائب الرئيس، جو بايدين، في الوقت نفسه تقريبا، وخلال زيارته إلي تركيا يوم 22 نوفمبر، عن أن واشنطن تعمل لإطاحة الأسد بعيدا عن الأضواء، بدا أركان الإدارة كل في واد. وإذا كان مفهوما أن يحدث ارتباك في مؤسسات صنع القرار، نتيجة غياب استراتيجية واضحة، فإن المسافات البعيدة هذا البعد بين اتجاهات القائمين عليها تظل مثيرة للتأمل. وإذا كان هذا هو الحال بين مؤسسات صنع القرار في الدولة التي تقود “التحالف” نفسها، فما بالنا بالتناقضات بين أطراف هذا التحالف الذي كان واضحا -منذ أول اجتماع لإطلاقه في جدة في 5 سبتمبر 2014- أن ما يفرقهم (خاصة بلاد المنطقة التي تدور الحرب فيها) أكثر مما يجمعهم؟ وتبدو هذه التناقضات الهائلة امتدادا مفهوما لارتباك متزايد في السياسة الأمريكية، منذ ولاية الرئيس باراك أوباما الأولي.
تحول مرتبك:
كان تحول أوباما، بدءا من عام 2009، عن سياسة إدارتي جورج بوش الابن مرتبكا. ولذلك، صار التحول المفاجئ في سبتمبر 2014 عن التحول السابق الذي لم يكتمل أكثر ارتباكا في لحظة يزداد فيها خطر قوي الإرهاب الصاعدة التي ترفض النظام العالمي في مجمله، وتسعي إلي هدمه. ولذلك، يخلط صعود هذه القوي الأوراق، ويخلق أنماطا من التفاعلات تختلف في بعض جوانبها عما كان معتادا في العلاقات الدولية، منذ نشأة الدول القومية أو الوطنية. فحتي شهور قليلة مضت، وربما حتي يونيو 2014، كان المشهد العام في النظام العالمي هو أن الصراع يتنامي بين القوي المحافظة، والقوي المراجعة. غير أن هذا المشهد بدأ يختلف، عندما تبين أن قدرات القوي الإرهابية وإمكاناتها أكبر مما كان مقدرا، الأمر الذي دفع أوباما للاعتراف بأن إدارته وأجهزتها الأمنية أساءت تقدير تلك القدرات، خاصة ما يمتلكه “تنظيم الدولة الإسلامية” أو “داعش” منها. ولذلك، كانت الذكري الثالثة عشرة للهجمات التي أطلقت الحرب الأمريكية الأولي علي الإرهاب مناسبة لإعلان حرب ثانية تسعي الولايات المتحدة إلي حشد أكبر دعم دولي لها. وليس ممكنا أن يحدث ذلك إلا نتيجة تغير كبير يحمل في طياته تحولات محتملة في أنماط التفاعلات السائدة في النظام العالمي، ومؤثرة في مستقبله. وربما يكون أول هذه التحولات هو اضطرار القوتين المحافظة والمراجعة إلي إعادة النظر في بعض حساباتهما، والسعي إلي إعادة ضبط التفاعلات الصراعية بينهما، في ضوء صعود قوة ثالثة مدمرة تهددهما في آن معا، وتسعي إلي تغيير جذري في النظام العالمي. فالمتوقع أن يضع كل من الولايات المتحدة وحلفاؤها، من ناحية، وروسيا والصين والدول الأصغر التي تدور في فلك هذه أو تلك، من ناحية أخري، في حساباته خطر هذا التهديد. والمفترض أن ينعكس ذلك تدريجيا في سياسات محددة، وليس فقط في بيانات يجمعها رفض الإرهاب، والاتفاق علي ضرورة محاربته. غير أنه يصعب توقع المدي الذي يمكن أن يبلغه إدراك خطر القوة الثالثة المدمرة الصاعدة، وما يقترن به من سياسات. ولكن القدر الذي قد يكون متيقنا هو خفض السقف الذي يمكن أن يبلغه الصراع، وتجنب تصاعده باتجاه حرب باردة جديدة، بحيث تظل “البرودة” قائمة في الخطاب الرسمي، ولكن دون أن تمتد إلي السياسات، خاصة تلك المتعلقة بالتسلح الاستراتيجي، فنكون بالتالي إزاء “علاقات باردة”، وليست حربا باردة. وقد توصف هذه العلاقات بأنها “في الحضيض”، كما قال وزير الخارجية الروسي، سيرحي لافروف، في ندوة حزبية في موسكو في 20 أكتوبر.2014 ولكن من يرونها كذلك، يسعون في الوقت نفسه إلي وقف تدهورها، مادام تحسينها ليس ممكنا. وكانت “البرودة” حتي في المشاعر واضحة في قمة دول مجموعة الـ 20 في بريسبن في منتصف نوفمبر 2014 بين أوباما، ومعه بعض القادة الغربيين، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فكانت عزلة بوتين هي أبرز ملامح هذه القمة التي بدت فقيرة خاوية من أية مشاريع أو أفكار جديدة اقتصادية أو سياسية. ولذلك، لم يجد الإعلام ما يجذبه فيها إلا الحملات التي استهدفت روسيا ورئيسها، علي نحو لا سابق له منذ انتهاء الحرب الباردة الدولية، إلي حد أن الرئيس الأمريكي عدًّها أحد ثلاثة أخطار تهدد البشرية إلي جانب تنظيم “داعش”، ووباء إيبولا. ورغم ما في هذا الخطاب ضد روسيا من سوء تقدير، فهو يظل تكتيكا لا استراتيجية، لأن تنامي تهديد القوة الثالثة الصاعدة لا يترك مجالا واسعا لحرب باردة جديدة. وقل مثل ذلك عن الموقف تجاه الصين التي تلقت رسالة تهديد ضمني في الإعلان الذي أصدره قادة أمريكا، واستراليا، واليابان بشأن تعزيز التعاون العسكري في المحيط الهادي. ولكن عمومية ذلك الإعلان تضعه في إطار “الخطاب البارد” أكثر مما تجعله إطلاقا لحرب باردة. غير أن تجنب تصاعد محتمل في الصراع بين القوي المحافظة، وقوي التغيير في النظام العالمي، وضمان عدم تطور هذا الصراع في اتجاه يصب في مصلحة القوي المدمرة، ينبغي أن يقترن بإدراك الولايات المتحدة ضرورة مراجعة سياستها الخارجية المرتبكة في مرحلة لا يتحمل فيها هذا النظام المزيد من الارتباك، واستيعاب دروس حربها الأولي علي الإرهاب، والنتائج العكسية التي ترتبت عليها. وربما تكون الحلقة الأهم، في هذا السياق، هي أن تعترف الولايات المتحدة بالمفارقة التاريخية التي أسهمت في خلق الحالة الجديدة الراهنة في النظام العالمي، وهي أن سياسات الدولة التي تقود معسكر الاستقرار شاركت -علي مدي عقد ونصف عقد- في زعزعة هذا الاستقرار، وتهيئة الأوضاع لصعود القوي المدمرة التيتحلم بمنظومة دولية مختلفة جذريا.
د.وحيد عبد المجيد
مجلة السياسة الدولية