عاد الحديث مرة أخرى في الجزائر عن خطر ظاهرة التشيَّع في البلاد، وذلك في ظل تصريحات صادرة عن وزير الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر محمد عيسى، نهاية مايو الماضي، مفادها أن “هناك إرادة أجنبية تريد التشويش على الجزائر من خلال سعيها إلى نشر فكرة الطائفية وتقوية حركات التشيع خاصةً على مستوى الولايات الحدودية الشرقية والغربية للوطن”، كما أعلنت الحكومة الجزائرية أنها بصدد إنشاء مرصد لمكافحة ظاهرة التشيَّع في البلاد. وجدير بالذكر أن رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر كان قد دعا، في نوفمبر 2015، المتشيعين الجزائريين للخروج إلى الشارع وكسر حاجز الخوف، وهي التصريحات التي أثارت انتقادات كثيرة للصدر.
ويعدُّ التّشيُّع في الجزائر حالة تاريخية تجاوزها الزمن، حتى لو عاد اليوم في صيغة هي أقرب إلى البحث عن انتماء خارج إطار المجتمع الجزائري السني – المالكي المذهب، وإن كان هذا لا ينفي وجود أتباع لم تُعْرف أعدادهم، لأن السلطات الجزائرية لم تكن مهتمة بهذا الأمر، على خلفية تجارب حاضرة على المستوى الأيديولوجي حين تحمّس وتفاعل وتَحَزًّب كثير من الجزائريين للشيوعية، وبعضهم للقومية العربية أو تبنّي آخرين لتصورات عًقَدِّية ومذهبية على غرار الوهابيّة، أو إقامة آخرين لأحزاب على أساس ديني مثل الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، أو حتى ذهاب جماعات جزائرية بعيداً في التاريخ من ذلك استحضار فتاوى ابن تيمية عبر الجماعة السلفية، أو السلفية الجهادية مُمثلة في جماعات إرهابية متطرفة عثت في الجزائر فساداً من خلال القتل والتدمير في العشرية الدموية، أو السوداء كما يسميها البعض.
هوية.. وإثبات وجود
لقد أثبتت التجربة التاريخية للشعب الجزائري، أن استحضار الدين بعيداً عن التصنيف المذهبي، مثّل قاعدة انطلاق لمواجهة الغزاة، ولمحاربة الإستعمار، ولتشكيل وعي وطني، وللتأكيد عن الهوية، فالدين في الدول المغاربية، وليس الجزائر فقط، ليس عقيدة فحسب، ولكنه وجود وحضارة، وإدارة للأزمة، وذلك لأمرين:
الأول: أن هذه المنطقة وعلى عكس المشرق العربي، لم تكن تملك أديولوجية لعملها العسكري في مواجهة الغزاة قبل الفتح الإسلامي، فإذا كان الإسلام قد أعطى للعرب قوة حضارية ومعنوية انطلاقاً من سياسة التوحيد، وللداخلين فيه قوة إيمانية للتحرر من صنمية الفكر البشري واستعباد الأديان الأخرى، فإنه بالنسبة لسكان الشمال الأفريقي أعطى لحياتهم معنى، وأخرجهم من انتصار القوة وهزيمة المعرفة إلى انتصار الحق وإثبات الوجود، وطرح من خلالهم مشروعاً حضاريّاً، ظهر في الأندلس، وعمّر لقرون.
الأمر الثاني: أن التحرر من الاستعمار في ستينيات القرن الماضي تحقق بفضل التمييز في الهوية، وبالعودة إلى أدبيات الثورات في المغرب العربي وإرهاصاتها، سنجد للإسلام حضور مميز وطاغ، حتى لدى الأحزاب العلمانية، ذلك لأن التمسك الشعبي بالدين حَالَ دون تتويج الأفكار والاختيارات الوضعية أو نجاحها حتى أثناء حكم الدولة الوطنية في فترة الاستقلال، تماماً مثل رفض أيّ تصورات دينية متطرفة حتى لو كانت تكلفتها باهضة كما حدث قي تسعينيات القرن الماضي في الجزائر.
تناقض المغاربة والمشارقة
على خلفية الأمرين السابقين، تدرك الجزائر (السلطة والمعارضة والنًّخب) أن مسألة التّشيَّع لا تتعدَّى أن تكون رد فعل عن الواقع العربي الراهن، حيث تتسع مساحة الرفض لدى الجزائريين لما يحدث في الدول العربية. ويختلف الجزائريون والتونسيون والليبيون والموريتانيون والمغاربة بنسب مختلفة في نظرتهم للشيعة مقارنةً بباقي العرب السنة، وهذا يتناقض مع مخاوف مشرقية وخليجية محقة وصائبة بعد المجازر في العراق وسوريا وتدخل حزب الله وإيران في الدولتين، وما تبع ذلك من تجاوزات مقصودة أو غير مقصودة أحدثت خللاً في الدولتين، ورجّحت الكفة بالقوة العسكرية لصالح الشيعة.
وانطلاقاً مما سبق، يمكن فهم تأييد البعض لحزب الله في تونس والجزائر وموريتانيا وبدرجة أقل في ليبيا، وبنسبة أقل في المغرب، وذلك آت من ثلاثة أسباب، أولها: الموقف السياسي في كل دولة من إيران وحزب الله، وثانيها: الخلط بين المقاومة والمصالح المذهبية لدى العامة من الناس في تلك الدول، وثالثها: رفض التدخل العسكري الغربي في الدول العربية مهما كانت الأسباب والدوافع والمبررات، وهذه الأسباب هي المدخل للتشيَّع في الشمال الأفريقي، وخاصةً في الجزائر.
تيار “الجزأرة”
بالرغم من كل ذلك، فإن الجبهة الداخلية ترفض المنتمين للتشيَّع، الظاهرين منهم والمختفين، ليس هذا فقط بل إن أتباع أيّ مذهب آخر مرفوضون أيضاً، رغم وجود حركة مجتمع السلم (الإخوان المسلمون في الجزائر)، ذلك لأن غالبية الجزائريين تؤمن بــ”تيّار الجزأرة”، وهو الفريق الذي يطرح الإسلام من خلال خصوصية جزائريّة، ناهيك عن المحافظة على اختيار الدولة التاريخي للمذهب المالكي، وتخلّي الجزائريين باختيارهم عن المذهب الشيعي بعد التجربة التاريخية المعروفة للدولة الفاطمية.
من الناحية العملية، لا يهتم الجزائريون بالمذاهب الإسلامية الأخرى حتى لو كانت سنية، والسلطات الجزائرية تعي ذلك، ولهذا لا تخشى دينياً تشيَّع بعض الأفراد، ولا يمثل عددهم غير المؤكد، سواء أكان في حده الأدنى 3 آلاف أو في حده الأقصى 75 ألفاً، أي مخاوف تذكر، لكنها بالمقابل تتابع بحذر شديد تحركات الشباب الشيعة وتوظيف أولئك الأتباع من أطراف معادية للجزائر أو اختراق المجتمع الجزائري من خلالهم، وذلك ضمن متابعتها للخارجين عن الدين سلوكاً مثل “المفطرون علناً في نهار رمضان بشكل استقزاوزي، أو الخارجون عن الدين مثل الذين تفاعلوا مع دعوات التبشير المسيحية”.
وسواء كان الأمر بالنسبة للتشيَّع، أو حتى اعتناق المسيحية، فإن الدستور الجزائري يكفل حرية المعتقد، وبناءً عليه يرى بعض الباحثين وحتى السياسيين في الجزائر، أن النقاش الدائر حول الاختيارات الدينية والفكرية للجزائريين لجهة قبولها أو رفضها لا جدوى منه، ما دام لا يشكل خطراً على الدولة أو على السلم الاجتماعي، وأن قوة الدولة في حمايتها لتلك المعتقدات المذهبية والدينية وليس في مطاردة أصحابها والتضييق عنهم.
وقد سارت السلطات الجزائرية على ذلك الرأي، إلى أن جاءت التصريحات غير المقبولة لـ”مقتدى الصدر” الزعيم السياسي والديني العراقي، العام الماضي، والتي تعد سابقة جديدة بالنسبة لتدخلات قوى خارجية في الشأن الجزائري.
الصَّدر.. و”الثلة الضّالة”
دعا زعيم التيار الصدري، في نوفمبر 2015، شيعة الجزائر إلى “الظهور والبحث عن حرية أكثر في الجزائر عن طريق إقامة الشعائر وغيرها من الطقوس”، وذلك في إطار انتقاده للتقرير الأمريكي حول حرية الأديان في الجزائر، لإهماله ما وصفه بــ”معاناة الشيعة”، ضمن إجابته على سؤال تقدمت به مجموعة من طلبة الحوزة العلمية الجزائريين بمدينة النجف العراقية، طلبت من خلاله رأيه حول التقرير الأمريكي الخاص بالحريات الدينية في العالم.
كما أكد الصدر، في معرض ردّه على التقرير الأمريكي، أن “تياره لا ينتظر من الولايات المتحدة وحلفائها إعطاء صورة حقيقية عن المظلومين في الجزائر أو غيرها، وعلى أتباع الإمامية الّإثني عشرية في الجزائر عدم التقوقع والخوف من الثلة الضالة، والعمل على توحيد الصف مع المعتدلين والأقليات الأخرى”.
وفي إطار مثل هذه الدعوات للتغلغل الشيعي، جاء رد فعل السلطات الجزائرية على لسان وزير الشؤون الدينية محمد عيسى، الذي اعتبر أن تقوية حركات التشيَّع في الفترة الأخيرة يؤكد أن الجزائر “مستهدفة”، مُعلناً عن اتخاذ إجراءات لتحصين البلاد ضد المد الشيعي.
ومما لاشك فيه أن تصريحات الزعيم الشيعي قد أسهمت في طرح الجدل حول مسألة التشيَّع في الجزائر، ومدى تأثيرها على المنظومة العقائدية السائدة في هذا البلد وعلى نظام الحكم نفسه، باعتبار أن المد الشيعي يستمدّ وجوده من الدعم الإيراني المرتبط أساساً برغبة في التوسع وفرض السيطرة والنفوذ. والجزائر، كما هو معروف، على علاقة قوية مع إيران.
رفض شعبي
كان موقف السلطات الجزائرية قائماً على عدم الاهتمام بالمد الشيعي، نظراً لعدم مساسه بنظام الحكم القائم، وهذا كان حال سائر الحكومات الجزائرية منذ الاستقلال، ولأنه في نظرها لا يًشّكل خطورة كبيرة، ولا يمكن أن يتطور ويصبح ن أن ظاهرة اجتماعية، وإن كان الباحث الجزائري “عبد الحفيظ غرس الله” قد حذر، في نوفمبر 2015، من أن انتشار المد الشيعي في الجزائر تحولّ إلى ظاهرة شديدة الخطورة، إذ انتقل من مرحلة إقامة نخبة شيعية إلى بناء قاعدة شعبية شيعية، يضمنها تشيَّع عائلات بأكملها في العديد من المناطق، ما سيساعد على ضمان أعداد كبيرة من المتشيعين بالولادة سنوياً.
ومهما يكن موقف السلطات الجزائرية من التشيَّع، فإن هذا الأخير يواجه بالرفض من غالبية الشعب الجزائري، كما تُشنُّ عليه حرب من التيار السَّلفي مُمَّثلاً في أحد أقطابه البارزين، وهو “عبد الفتاح حمداش”، رئيس جبهة الصحوة السلفية، غير المرخصة، الذي بدأ حملته منذ 2013. ويرى “حمداش:” أن الشيعة يشكّلون خطراً على الجزائر، وأن التيار الشيعي يهدد فعلاً كيانات المجتمعات العربية السنية، والجزائر ليست بمعزل عن خيوط المؤامرة الصفوية، لذلك لابد من تحجيمهم عبر حراك مضاد”، مُلوّحاً بحرب فكرية عقائدية دعوية ضدّ المتشيعين. غير أن تلويح “حمداش” لم يخف المتشيعون بدليل إقدام مجهولين، في عام 2013، على كتابة شعارات تشيد بالتشيَّع وتدعو إليه على العديد من الجدران في ضاحية” برَّاقي” شرق الجزائر العاصمة. وقد رجّح بعض المتابعين، آنذاك، أن يكون أصحاب الشعارات أرادوا تمرير رسالة مضمونها أن ظاهرة التشيَّع حقيقة لا مفر منها، خاصةً وأن إطلاق صيحات الفزع من خطورة هذا التشيًّع على الجزائر بدأت منذ سنوات عديدة.
مخاوف سياسية
هناك إذن رؤى مختلفة لقوى سياسية ودينية تجمع كلها على رفض التشيَّع في الجزائر، مع الاستثناء من ذلك بعض أساتذة الجامعات. وتتخوف هذه القوى من التداعيات المسقبلية للتشيَّع على تماسك المجتمع ووحدته المذهبية بالنسبة للغالبية (السنية المالكية)، وكذلك تأثيره على الأقلية المذهبية (الإباضية). وقد ظهر ذلك جليًّاً في موقف الصحافة الجزائرية من تصريح مقتدى الصدر، إذ اعتبرته دعوة للفتنة، خاصةً وأن ذلك التصريح تزامن مع أحداث مدينة غرداية، العام الماضي، والتي وُظفت على أساس مذهبي، مع أنها ذات خلفيات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
عمليَّاً، ترى الحكومة في الحديث عن المتشعيين الجزائريين من جهات خارجية تدخلاً في الشؤون الداخلية، وهي نظرة قاصرة على مخاوف سياسية، تتناقض وتتعارض مع مخاوف دينية – مذهبية بالأساس تبديها التنظيمات الدينية داخل الجزائر، وتصر الدولة على تكريسها لجهة تثبيت مذهب واحد لمعظم الشعب الجزائري. لكن المحصلة لكل هذا أن الحديث عن الشيعة في الجزائر لم يعد من المحرمات، وإن كان أنصاره لا يكشفون عن انتمائهم إليه، خوفاً من ردة فعل المجتمع الجزائري.
د. خالد عمر بن ققه
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة