يعد ضمان القدرة علي الوصول إلي الطاقة أحد الشروط الأساسية لاستمرار التفاعلات البشرية، سواء علي مستوي الأفراد والوحدات من غير الدول، أو علي مستوي الدول، والنظام الدولي في مجمله.
ولعبت القدرة علي الوصول إلي الطاقة، بشكل وافر وبتكلفة مناسبة، دورا مهما في نمو النشاط الإنساني، واتساع نطاقه، ونهضة الدول عبر التاريخ.
ويمكن ملاحظة أنه في مراحل الثورة الصناعية الأولي، كان التباين في القدرة علي الوصول إلي الطاقة وتوظيفها بشكل فعال أحد العوامل الرئيسية التي حددت تباين نمو الأمم والدول في تلك المرحلة، وفي صراعها لاحقا علي المستعمرات، إما لضمان وصول كل منها لمصادر طاقة رخيصة نسبيا، أو حتي الحيلولة دون إتاحتها بشكل يسير، أو بتكلفة منخفضة للأطراف المنافسة. ومع تغير بعض عناصر هذا المشهد التنافسي، واتساع درجة التكامل الاقتصادي العالمي، وتزايد درجة الاعتماد المتبادل بين اقتصادات العالم المختلفة، واعتماد النمو العالمي علي إتاحة فرص النمو لمختلف اقتصادات العالم، بات التعاطي مع قضية ضمان الوصول إلي الطاقة قضية عالمية، وليست مجرد قضية فردية تخص دولة بعينها.
كما بات التعاطي مع إتاحة الطاقة وضمانها، أو حتي الهيمنة علي مصادرها واحتكارها، قضية أكثر تعقيدا من مجرد كونها مباراة صفرية بين دول العالم الكبري، بقدر ما باتت قضية تنسيق دولي. وإجمالا، يمكن القول إنه مع التطور في العلاقات الدولية، والنظام الدولي، تطور مفهوم الأمن، وانتقل من مفهوم الأمن التقليدي، الذي ركزت عليه النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، إلي مفهوم الأمن غير التقليدي، الذي ظهر بوضوح مع انتهاء الحرب الباردة.
وأكد بروز قضايا جديدة ترتبط بأمن الطاقة، مثل الآثار السلبية، والمخاطر المرتبطة بالتوسع في استخدام أنواع معينة من مصادر الطاقة، التوجه العالمي نحو تبني سياسات تنويع مصادر الطاقة وأنواعها، بعدّ مثل تلك السياسات ركنا أساسيا من أركان أمن الطاقة. ولعل ذلك كان هو المعني الذي قصده رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ونستون تشرشل، عندما سُئل عن المقصود بأمن الطاقة فقال إن أمن الطاقة يكمن في التنوع ”Variety”، والتنوع فقط. ولعله كان يقصد التنوع في مصادر الطاقة، وأنواعها، ومنتجيها، ومصدريها، وهو بذلك ركز بالأساس علي البعد المتعلق بالدول المستوردة والمستهلكة للطاقة.
وللطاقة نوعان من المصادر:مصادر أولية، وأخري ثانوية. وتنقسم مصادر الطاقة الأولية إلي نوعين: مصادر تقليدية، ومصادر غير تقليدية، أو متجددة. والمعيار هنا هو مدي إمكانية تجدد مصدر الطاقة واستمراريته. والطاقة التقليدية هي القابلة للنفاذ، والتي لا يمكن تعويضها، مثل النفط، والغاز الطبيعي، والفحم، واليورانيوم. أما مصادر الطاقة غير التقليدية، فهي متجددة، ونظيفة، وغير قابلة للنفاذ، وتشمل طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، وطاقة المياه، والطاقة الحرارية الجوفية، وطاقة الكتلة الحيوية. أما مصادر الطاقة الثانوية، فهي تلك التي يتم إنتاجها من مصادر الطاقة الأولية، مثل الطاقة الكهربائية، والكهرومائية.
يتناول هذا المقال مفهوم أمن الطاقة، من خلال محاولة مقاربة العلاقة بين سياسات الطاقة لدي الدول المنتجة والمصدرة للطاقة، وسياسات الطاقة لدي أكبر الدول استخداما للطاقة واستيرادا لها، وتأثير ذلك في أمن الطاقة. ويركز المقال في هذا السياق علي مصادر الطاقة التقليدية، لأنها لا تزال أكبر مصادر الطاقة، وأكثرها استخداما. صحيح أن الخطط والجهود الحالية والمستقبلية تعطي اهتماما متزايدا لخطط إنتاج مزيد من الطاقة المتجددة وغير التقليدية، ورغم ذلك، لا تزال الفجوة كبيرة من حيث كمية المنتج والمستهلك من الطاقة لمصلحة الطاقة التقليدية.
أولا- مفهوم أمن الطاقة:
يمكن أن نلاحظ تقليديا قدر من التباين في تعريف أمن الطاقة بين منظور الدول المستوردة والمستخدمة للطاقة، ومنظور الدول المنتجة والمصدرة لها، خاصة مصادر الطاقة التقليدية، وعلي نحو أخص النفط والغاز الطبيعي، اللذان لا يزالان يمثلان أكبر وأهم مصادر الطاقة حتي الآن، وذلك رغم تنامي اهتمامات الدول المختلفة، خاصة المتقدمة منها، بمصادر الطاقة الجديدة والمتجددة.
ولأن الدول الأكثر استيرادا واستهلاكا للطاقة التقليدية، ممثلة في الولايات المتحدة، والصين، والدول الأوروبية، كانت، ولا تزال، الدول الكبري والأقوي في العالم، فإن منظورها لقضية أمن الطاقة، كان، ولا يزال، هو المنظور الأقوي والأكثر تأثيرا في صياغة ذلك المفهوم، طوال القرن العشرين، بل وحتي الآن بدرجة كبيرة. وفي المقابل، فإن أكبر الدول إنتاجا للنفط كانت، ولا تزال، روسيا الاتحادية، ودول مجلس التعاون الخليجي، وإيران، والعراق، ودول آسيا الوسطي. وهي كلها، باستثناء وحيد يتمثل في روسيا الاتحادية، ليست دولا كبري، بل تعتمد في قوتها الاقتصادية بالأساس علي مواردها النفطية، وإيراداتها الناتجة عنها. ومعني ما تقدم أن لأمن الطاقة منظورا آخر يتمثل في استمرار عملية إنتاج النفط والغاز، وعرضها للبيع بأسعار جيدة من منظور مصالح تلك الدول المنتجة والمصدرة. ولأن ثمة فارقا كبيرا في القوة القومية، والاقتصادية، والعسكرية بين كبري الدول المستوردة والمستهلكة للنفط والغاز الطبيعي، وكبري الدول إنتاجا وتصديرا، فإن منظور الدول المستوردة والمستهلكة للنفط ظل هو المنظور الأهم، والأكثر تنفيذا، في النظر إلي مفهوم أمن الطاقة.
ومن الملاحظ هنا أن السيطرة علي أسواق النفط العالمية، وتحديد سعر برميل النفط ظلا تحت سطوة الدول الكبري المستوردة والمستهلكة له حتي عام 1974. فقبل ذلك التاريخ، لم يكن للدول المنتجة، رغم إنتاجها لمعظم النفط المتاح عالميا، أي تأثير في سوق النفط. وظل برميل النفط يعرض ويباع بثلاثة دولارات حتي أكتوبر 1973، وهو منخفض، أو متدن، يخدم مصالح الدول المستوردة المستهلكة، ولم يكن يخدم مصالح الدول المنتجة والمصدرة.
ولم يتغير ذلك الوضع إلا في عام 1974، أي بعد حرب أكتوبر 1973، التي حققت فيها مصر والعرب، لأول مرة في العصر الحديث، إنجازا تاريخيا عسكريا، وهو ما مكن دول الخليج العربية من اتخاذ قرار غير مسبوق بفرض حظر نفطي علي الدول الغربية التي كانت قد ساعدت إسرائيل عسكريا بشكل مباشرة في أثناء حرب أكتوبر .1973 وكان التأثير الأكبر لذلك القرار العربي غير المسبوق في الولايات المتحدة الأمريكية. ونتيجة لذلك القرار غير المسبوق، حدثت طفرات كبيرة في أسعار برميل النفط، وبدأت الدول المنتجة للنفط في الخليج العربي، وخارجه، في الاستفادة من آثار ذلك القرار، بل وتقرير مزيد من الارتفاعات في أسعار برميل النفط الخليجي. ولأول مرة، تم تنشيط منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك – OAPEC). في المقابل، أنشأت الدول المستوردة للطاقة منظمة دولية موازية، هي وكالة الطاقة الدولية التي أنشأتها الدول المستوردة والمستهلكة للنفط، في منتصف سبعينيات القرن العشرين، لكي تنسق علاقات التعاون فيما بين تلك الدول، حتي تستطيع مواجهة سياسات ومواقف منظمة “أوبك” والدول المنتجة المصدرة للبترول.
وبالتالي، يمكن ملاحظة أنه مع توسع نطاق العلاقات الدولية، اتسع بدوره نطاق مفهوم أمن الطاقة عما كان عليه خلال القرن العشرين. من ناحية، لم يعد المفهوم مقتصرا علي تحقيق مصالح الدول الكبري المستوردة للطاقة والمستهلكة لها، وإنما امتد المفهوم ليضم، إلي جانب ذلك، مصالح، وهواجس، واهتمامات الدول المنتجة للنفط والمصدرة له، التي بدأت تسعي إلي إحكام سيطرتها علي قطاع الطاقة وأسواقه. كما يرتبط بتغير خريطة الطاقة العالمية تغير بنية منظومة عرض مصادر الطاقة وإمدادها، خاصة مع بروز الطفرة الكبيرة في الطاقة الصخرية لدي كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وجمهورية الصين الشعبية. وفي المقابل، يتصاعد الطلب العالمي علي مختلف مصادر الطاقة، خاصة مع ظهور مستهلكين كبار جدد، مثل الصين والهند. وفي الإجمال، فقد بات أمن الطاقة تحكمه العديد من المتغيرات التي تلقي آثارا متباينة.
وهكذا، تتعدد وتتنوع أبعاد مفهوم أمن الطاقة. ونلاحظ بداية البعد الخاص بتأمين وضمان وصولها، خاصة النفط والغاز الطبيعي، إلي الدول الأكثر استهلاكا واستيرادا للطاقة. وقد يتسع المفهوم ليشمل سلامة عمليات النقل الدولي من الدول المنتجة إلي الدول المستهلكة والمستوردة، بما في ذلك تأثير التطور التكنولوجي في عمليات النقل واللوجيستيات، وقبل ذلك تطور تكنولوجيات التنقيب، والإنتاج، والاستخدام، وكذلك العوامل الخارجية المؤثرة، مثل عامل المناخ، ومستوي الاستقرار الداخلي، وتأثر عمليات نقل النفط والغاز دوليا بالمشكلات الجيوسياسية، أو الصراعات الاستراتيجية مع بعض، أو كل الدول، التي تمر بها خطوط نقل الطاقة.
ويعد ضمان النقل والتوزيع الآمن لموارد الطاقة، وتأمين الاستثمار المحلي أو الدولي في مجال التنقيب والإنتاج لعناصر الطاقة التقليدية، وصيانة محطات التكرير، وزيادة الاستثمارات الموجهة إلي صناعات الطاقة الجديدة والمتجددة وغير التقليدية، هي من العناصر المهمة في التأثير في أمن الطاقة، وتحديد مستواه.
ويعد التعاون بين الدول المتجاورة المنتجة للطاقة مهما لتعزيز أمنها عامة، وتحقيق أو تطوير مصالح مشتركة أو متبادلة قائمة بينها علي مستوي الاستثمار في مجال إنتاج الطاقة، أو نقلها، وقبل ذلك التنقيب، واكتشاف مصادرها، بدلا من التنافس، بل التصارع عليها. إلا أن مقدار التعاون فيما بين الدول المنتجة المصدرة والدول المستهلكة وفرصه يعد بدوره محددا أساسيا لفرص ضمان أمن الطاقة، بل ولفرص النمو الاقتصادي العالمي، من خلال تبني سياسات رشيدة للإنتاج، وتحديد مستويات سعرية عادلة تتيح النمو لجميع الأطراف. أما إذا اختلف منظور مجموعة الدول المستوردة المستهلكة للطاقة عن منظور الدول المصدرة المنتجة، فإن فرص أمن الطاقة ونتائجها الإيجابية تقل.
وهكذا، تتضح أهمية بناء علاقات تعاون بين الدول المنتجة المصدرة للطاقة والدول المستهلكة المستوردة لها، حيث تحتاج الفئة الأولي إلي عائدات النفط والغاز لتشغيل اقتصادها الريعي بالأساس، بينما تمثل الواردات الوقود الأساسي لاستمرار نموها الاقتصادي، ولتحقيق رفاهية مواطنيها. وعلي صعيد آخر، تواجه المجموعتان من الدول خطر نضوب حقول النفط علي المستوي العالمي. لذا، أصبح لزاما عليهما التعاون فيما بينهما من أجل زيادة الاستثمارات في مجالات البحث والتنقيب، وتوصيل النفط والغاز، بما يحقق التوازن عالميا بين العرض والطلب العالميين.
ويستمد مفهوم أمن الطاقة أحد معانيه من تضافر عوامل التنمية المستدامة والبيئة. إن قطاع الطاقة هو أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ولذا، أصبح الحد من تلك الغازات أداة مهمة للحد من التغير المناخي الذي يهدد العالم.
وإذا كان الكثير من المحللين قد ركزوا في دراساتهم لأمن الطاقة علي البعد الاقتصادي لذلك المفهوم، فإن البعض انشغل بدراسة الجانب السياسي الاستراتيجي. ومع ذلك، فإن ثمة ملامح وعناصر مشتركة تجمع بين الجانبين، ومنها -علي سبيل المثال- توافر موارد الإمدادات النفطية بأسعار معقولة، وهو التعريف الذي ساد خلال معظم فترات القرن العشرين، إلي أن ظهر أثر أوضح للبعد السياسي الاستراتيجي بعد حرب أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط. وقبل ذلك، كان يعرف مفهوم أمن الطاقة بأنه القدرة علي تأمين كميات كافية من الطاقة للمستوردين الكبار، بغض النظر عن مدي ما يحققه ذلك من مصالح للدول المنتجة والمصدرة، خصوصا في الشرق الأوسط. ثم جاءت حرب أكتوبر كعلامة فاصلة فتحت مرحلة جديدة، كانت فيها مصالح المنتجين المصدرين تؤخذ في الحسبان.
ويمكن النظر في السياسات، والمواقف، والآليات التي تحقق أمن الطاقة، والتي تتمثل في تنويع مصادر إمدادات الطاقة التقليدية وغير التقليدية، والعمل علي وجود سوق نفط عالمية واحدة، ووجود هامش حسن أمان يتمثل في الاحتياطيات، وتزايدها، واستمرار البحوث الفعالة من أجل اكتشافها، والاعتماد علي مرونة الأسواق لتسهيل التكيف السريع، وتقليل الأضرار، علي المدي الطويل، والاستثمار في البحث العلمي، والتطوير التكنولوجي في مجال الطاقة ونقلها بريا (طريق الحرير الجديد)، وبحريا بآليات آمنة وأكثر تقدما، وتعزيز العلاقات التعاونية بين المصدرين المنتجين والمستوردين المستهلكين لتعزيز الترابط المتبادل فيما بينهم، بما يضمن المصالح المتبادلة والمشتركة بين طرفي علاقة أمن الطاقة، وتأكيد أهمية الترابط المتبادل بين الدول والشركات في مجالات الطاقة، سواء في الإنتاج، أو النقل، أو التصدير، أو الاستيراد، أو الصناعة، أو غير ذلك من ميادين ذلك الترابط المتبادل، وتأسيس علاقة بين الدول، والشركات، والجمهور، تستهدف رفع الوعي والإدراك لجميع التحديات التي تواجه قضايا الطاقة: إنتاجا، وتنقيبا، وإدارة، وتجارة، وغير ذلك من القضايا المهمة التي يكون مفيدا فيها بناء علاقات شراكة بين الدول والشركات من ناحية، والجمهور من ناحية أخري.
وتتعدد المخاطر التي يمكن أن تهدد أمن الطاقة. وفي المقابل، تتعدد وتتنوع السياسات التي يمكن، أو يجب، أن تستخدم لتقليل تلك المخاطر، أو إزالتها. والمخاطر قد تكون جيولوجية، أو تقنية، أو اقتصادية، أو جيوسياسية، أو بيئية.
وترتبط المخاطر الجيولوجية بنضوب مصادر الطاقة. وفي بعض التقديرات، قد تنضب حقول الغاز الطبيعي بحلول عام .2060 ومن هنا، تكون أهمية الاكتشافات التكنولوجية في مجالات البحث والتنقيب، بما قد يؤدي إلي مواجهة تلك المخاطر الجيولوجية.
وتتمثل المخاطر التقنية في الأعطال التي قد تصيب الأجهزة، جراء العوامل الجوية. وتزيد احتمالات هذه المخاطر مع قلة الاستثمار في هذا المجال، بما يؤدي إلي انخفاض منتج التنقيب أو النقل.
وتتمثل المخاطر الاقتصادية، أساسا، في تذبذب أسعار الطاقة في الأسواق العالمية. ويمكن مواجهة تلك المخاطر الاقتصادية في الأجل القصير بالاعتماد، ولو جزئيا، علي مخزون الطاقة المستوردة آنفا من النفط والغاز الطبيعي، فيقل الطلب، وينخفض السعر، ويقل تأثير ذلك التهديد.
ولذلك، توصي وكالة الطاقة الدولية دولها الأعضاء بالاحتفاظ باحتياطيات تكفي لمدة 90 يوما علي الأقل من استهلاكها. وفي المدي المتوسط، تؤدي السياسة المالية، التي تفرض ضرائب علي الطاقة المستوردة، إلي تخفيض الطلب، ومن ثم تقليل الاعتماد علي الخارج، وهو ما يحد من ارتفاع الأسعار.
وتتمثل المخاطر الجيوسياسية في توقف إمدادات الطاقة من دولة ما، نتيجة لاندلاع حرب أهلية (حالة ليبيا وإمداداتها للدول الأوروبية، خاصة إيطاليا)، أو وقوع هجمات إرهابية. وقد ثبت أن المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط (وهو منطقة إنتاج كبري ورئيسية) هدفها الأساسي هو السيطرة علي منابع وحقول النفط والغاز، وهو ما تجلي في الغزو العراقي للكويت بين عامي 1990 و1991، ومن قبلها الحرب العراقية – الإيرانية ما بين عامي 1980 و1988، وغزو الولايات المتحدة للعراق واحتلالها له في عام 2003. حقا، لم يكن النفط هو الدافع الأول أو الأهم لتلك الحروب، ولكن من الحقيقي أيضا أن تلك الحروب مثلت تحديات، ومخاطر، وتهديدات لأمن الطاقة، وهي تهديدات ذات طبيعة جيوسياسية لا يمكن إنكارها، أو تجاوزها، أو التغاضي عنها. أما المخاطر البيئية، فتنتج عن حوادث تسرب نفطي أو إشعاعي يترتب عليه تأثير سلبي في أمن الطاقة.
والخلاصة أن أمن الطاقة لا يتحقق إلا بتنويع مصادرها، وبالتعاون الدولي لتطوير البحث والتكنولوجيا في ذلك المجال، وبخدمة المصالح المشتركة أو المتبادلة دوليا لكل الأطراف المنتجة والمصدرة، أو المستهلكة والمستوردة.
ثانيا- تغير خريطة أمن الطاقة:
منذ منتصف القرن العشرين، كانت الطاقة موضوعا للصراع الدولي من حيث محاولة السيطرة علي المناطق الغنية بها، أو إخضاعها لنفوذ قوي دولية في سياق عملية ضمان أمن الطاقة لتلك القوي، أو استخدام الطاقة كأداة لإدارة صراع دولي مع أطراف دولية أخري. وكانت أهمية النفط تتزايد مع تزايد أهميته كمصدر للقوة الاقتصادية، والقوة العسكرية للدول. ويلفت النظر أنه خلال المرحلة المذكورة، كان النفط مورد قوة مالية أو اقتصادية فقط عند الدول المنتجة والمصدرة للنفط، بينما كان النفط مصدرا للقوة العسكرية والاقتصادية للدول المستهلكة المستوردة. فلا يمكن تصور وجود عسكري كبير وواسع خارج أراضي الدولة من دون امتلاك الدولة لأدوات نشر ذلك الوجود العسكري، وعلي رأسها النفط. ولذلك، استمرت خريطة علاقات النفط قائمة، خلال تلك المرحلة الماضية، علي طرفين يختلفان في سبل توظيف النفط كعنصر قوة. فالدول الغربية، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، كانت الطرف المستورد والمستهلك للطاقة، وقد استطاعت توظيف تلك الطاقة في بناء قدراتها العسكرية والاقتصادية، والحفاظ عليها، بل وتطويرها.
أما الدول المنتجة والمصدرة للطاقة، فقد تمكنت من امتلاك قوة مالية، لكن من دون المنافسة، عالميا أو دوليا، علي القوة العسكرية أو الاقتصادية. وهكذا، يمكن القول إن خريطة أمن الطاقة، في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت تقوم علي ما يمكن وصفه بـ “قطبية نفطية” من طابع خاص، يتكون قطبها الأول من الدول المنتجة والمصدرة في منطقة الخليج العربي، بالإضافة إلي إيران والعراق، ويكون قطبها الثاني متمثلا في كبري الدول المستهلكة والمستوردة للطاقة، وهي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. ولكن الحديث عن “قطبين” هنا لا يعني تكافؤا في القوة بينهما، سواء كان عسكريا أو اقتصاديا، وإنما المقصود هنا يتمثل فقط في قطبية حجم المنتج وحجم المستهلك، والمصدر والمستورد من الطاقة، ودون امتداد “قطبي” علي الإطلاق إلي علاقات القوة العسكرية أو الاقتصادية.
ولكن خلال العقد الأخير، بدأت مجموعة العوامل الاقتصادية، والسياسية، والتكنولوجية، والبيئية تغير الخريطة القديمة التقليدية لأمن الطاقة. وقد أدت تلك العوامل إلي ولادة مراكز طاقة جديدة علي مستوي الاستهلاك، تتمثل في الصين، والهند، ودول أخري في جنوب شرقي آسيا. ومن المتوقع أن يتضاعف حجم طلب الطاقة في آسيا خلال الفترة من 2008 إلي 2035، أي أن طلب آسيا من الطاقة في عام 2035 سيكون ضعف ما كان عليه في 2008. كما ستمثل الزيادة في طلب الصين نحو ثلث حجم الزيادة علي الطلب العالمي للطاقة، وستمثل الزيادة في طلب الهند نحو خمس إجمالي الزيادة علي الطلب العالمي، أي أن الزيادة في طلب الدولتين سيمثل أكثر من 53٪ من حجم الزيادة في الطلب العالمي علي الطاقة، وفي تأثيرات ذلك في علاقات وديناميات أمن الطاقة عالميا.
وفي هذا السياق، يذكر أن الانخفاض في استهلاك الطاقة في الدول، أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مقرونا بالزيادة في الإنتاج المحلي من النفط الخام في الولايات المتحدة الأمريكية، ودول غربية أخري، يفضي إلي تسريع التحول لوجهة التدفقات النفطية الشرق أوسطية من الغرب إلي شرق وجنوب آسيا، التي ستصبح مركز الاستقطاب الرئيسي لصادرات دول الشرق الأوسط النفطية.
ومن التغيرات المهمة التي يجب رصدها، هنا، وضع الولايات المتحدة الأمريكية في معادلة أو خريطة أمن الطاقة العالمية. فمن المعروف أن الولايات المتحدة كانت، كأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، خلال العقود السبعة الأخيرة، أكثر دول العالم استهلاكا واستيرادا للنفط. وفي عام 2012، كان استهلاك الولايات المتحدة من النفط يساوي نحو 21٪ تقريبا من إنتاجه العالمي.
كما أنتجت الولايات المتحدة نحو 95٪ من إجمالي استهلاكها من الغاز الطبيعي، واستوردت الباقي (5٪ من استهلاكها) من كندا، أي أنها لم تضطر للذهاب إلي خارج أمريكا الشمالية للحصول علي أي احتياجات من الغاز الطبيعي. ومنذ عام 2012، انخفض استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة بسبب تحسين التقنيات المستخدمة في وسائل النقل، التي تؤدي إلي حرق وقود أقل، وبسبب تأثير الأزمة المالية العالمية، والأهم بسبب ارتفاع مستوي الإنتاج المحلي الأمريكي من الطاقة بنحو 30٪ في عام 2012، مقارنة بعام 2008، وذلك بفضل اللجوء إلي عملية التكسير الهيدروليكي للغاز الصخري. هكذا، أضحت الولايات المتحدة تتجه إلي تحقيق اكتفاء ذاتي في مجال الطاقة، حيث من المتوقع أن يتم ذلك بدءا من عام 2020. وحين يتحقق ذلك، ستكون له انعكاسات مهمة علي مستقبل خريطة أمن الطاقة العالمية.
ومن التغيرات المهمة والجديرة بالرصد، عند استطلاع خريطة أمن الطاقة الجديدة، تلك التي تتعلق بإنتاج الصين المتوقع من الغاز الطبيعي. ويلي الصين، في هذا المجال، الولايات المتحدة. وفي أوروبا، توجد أكبر احتياطيات الغاز في بولندا، وفرنسا، والنرويج، وأوكرانيا، والسويد. وبالطبع، فإن روسيا من كبري الدول المنتجة لكل من الغاز الطبيعي والنفط، وهو ما سنخصص له جزءا مهما من هذا الجزء من حديثنا عن الخريطة الجديدة لأمن الطاقة.
وفي الشرق الأوسط، يؤسس منتجو النفط والغاز تعريفهم لمسألة أمن الطاقة ولسياساتهم الخاصة علي مدي كفاية الطلب العالمي علي منتجهم، ومدي استدامة ذلك الطلب مستقبليا. ومعني ذلك أن المشهد الجديد، بالنسبة لهم، سوف يعني، بالتأكيد زيادة تركيزهم علي علاقاتهم مع حدودهم الشرقية في شرق وجنوب آسيا. وفي هذا السياق، تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية لعام 2013 إلي تزايد الاستهلاك العالمي للطاقة، ومن ثم تزايد الطلب علي نفط الشرق الأوسط. ويصل معدل تلك الزيادة إلي نحو 56٪ فيما بين عامي 2010 و 2040. ومن المتوقع أن ينمو استهلاك الطاقة في غير بلاد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بمعدل 90٪، وداخل تلك البلاد بنسبة 17٪ فقط.
ورغم أن الطاقة المتجددة والطاقة النووية هما أسرع مصادر الطاقة نموا، حيث تحقق كل منهما معدل نمو سنويا يبلغ 2.5٪، فلا يزال الوقود الأحفوري هو المصدر الأساسي الذي سيغطي نحو 80٪ من استهلاك العالم من الطاقة بحلول عام 2040، حيث يعد الغاز الطبيعي هو الوقود الأحفوري الأسرع. ولذلك، يتزايد اللجوء إلي استخدامه من جانب الولايات المتحدة، لأنها تقنية من شأنها تحقيق شبه اكتفاء ذاتي من الطاقة، وقلب موازين القوي من جديد.
إن تقنية الغاز الصخري تتميز بارتفاع تكلفتها الاقتصادية، نظرا لوجود الغاز في طبقات مسامية تستدعي دفع كميات من المياه في هذه الطبقات تحت ضغط مرتفع ليندفع الغاز خارج مكامنه، حيث توجد هذه المكامن علي أعماق تصل من 3 إلي 4 كيلو مترات في باطن الأرض.
ويستهلك القطاع الصناعي الحصة الكبري من الطاقة، وقد تصل هذه الحصة إلي أكثر من نصف الطاقة العالمية في عام .2040 وعلي الرغم من السياسات واللوائح التي تحد من استعمال الوقود الأحفوري حاليا، فإن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المرتبطة بالطاقة في جميع أنحاء العالم يتوقع أن تسجل ارتفاعا من 31 مليار طن في عام 2010 إلي 36 مليار طن في عام 2020، ثم إلي 45 مليار طن في عام 2040، وبزيادة قدرها نحو 46٪.
وقد حققت بعض المؤسسات الدولية، مثل مجموعة العشرين، ومنتدي الطاقة الدولي، نجاحا في احتواء كبار المستهلكين الجدد للطاقة، مثل الصين، والهند، وكبار المنتجين المصدرين، مثل المملكة العربية السعودية، وذلك بإجراء مناقشات مع دول الاقتصادات الصناعية. ولكن نظرا لتباين المصالح بين المنتجين والمستهلكين، فإن هذه المؤسسات قد لا تنجح تماما في تنسيق فعال بين العرض والطلب. وفيما يتعلق بأسعار النفط، فإن مصالح الدول المنتجة المصدرة تقتضي سعرا لبرميل النفط يمكنها من الحفاظ علي ميزانياتها السنوية اللازمة للاستجابة إلي مطالب مهمة، مثل زيادة فرص العمل، وزيادة الإنفاق العام علي أنشطة الصحة والتعليم، بل واستهلاك الطاقة الداخلية.
ونعرض فيما يأتي لحالتي روسيا الاتحادية والمملكة العربية السعودية كأكبر الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي، ولحالتي الصين والولايات المتحدة كأكبر الدول المستهلكة. وروسيا دولة كبري، بل هي بالمعايير العسكرية دولة عظمي. وقد استعادت روسيا مكانتها هذه مع بدايات القرن الحادي والعشرين. وزاد من أهمية روسيا، في مجال الطاقة، تزايد الطلب الأوروبي علي النفط الروسي، والأهم التزايد الكبير في الطلب الصيني والهندي، والآسيوي بشكل عام، علي النفط والغاز، وهو ما زاد من أهمية روسيا ومصادر الطاقة فيها. وكان للجوار المباشر، أو غير المباشر، بين روسيا والدول الآسيوية الطالبة، كموارد الطاقة، تأثير مهم في زيادة أهمية روسيا كمصدر لتلك الموارد إلي الصين، وأوروبا الشرقية، والوسطي، بل والغربية.
وقد زادت أهمية روسيا من خلال أدوارها في إدارة أزمة جورجيا 2008، والأزمة السورية الممتدة منذ 2011، وأزمة أوكرانيا التي تفجرت في 2014، وهي أدوار مهمة ومؤثرة بقوة في تطور كل من تلك الأزمات. وفي تلك الأزمات، انشغلت روسيا بتعزيز سياسة إبعاد القوي الدولية الأخري، خاصة الأمريكية والأوروبية، عن الوجود المباشر في مناطق الجوار المباشر، مثل أوكرانيا وجورجيا، لأنه قد يؤثر سلبيا في مصالح الأمن القومي الروسي. وفي الحالة السورية، أتاح التدخل الروسي المباشر تعديل مسار المجتمع الدولي في تعامله مع تلك الأزمة. ولم يكن الموقف الروسي من أزمة أوكرانيا بعيدا عن الدفاع عن المصالح النفطية الروسية، حيث تعد أوكرانيا بلد معبر لجزء كبير من إمدادات الطاقة الروسية إلي بلاد القارة الأوروبية.
وتقوم سياسة الطاقة الروسية علي التعاون والتنسيق مع كبار منتجي الطاقة للحفاظ علي السوق النفطية، وضمان حد أدني لأسعار النفط، من خلال التحكم في حجم الإنتاج، وتنمية الصادرات الروسية من النفط والغاز لمختلف الأسواق الآسيوية والأوروبية، وتعزيز العلاقات المتنامية مع الصين، ثاني أكبر مستوردي الطاقة عالميا، وكان ذلك واضحا في الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي بوتين في مايو عام 2014 للصين، وتوقيع 40 اتفاقية تعاون مع الصين الشعبية. ويمثل مشروع نقل الغاز الطبيعي الروسي إلي الصين واليابان أحد أهم ملامح التطور الراهن في سياسة الطاقة الروسية، واستكمال عملية مد أنبوب النفط الروسي الذي يمتد من سيبيريا إلي المحيط الهادي. والانطلاق في تصدير الغاز والنفط الروسي لن يتم فقط في آسيا، ولكن أيضا أوروبا، حيث تقوم روسيا بإمداد الاتحاد الأوروبي بـ 27 ٪ من احتياجاته من النفط، وأكثر من 50٪ من احتياجاته من الغاز الطبيعي. وبالإضافة إلي منطقتي المحيط الهادي والاتحاد الأوروبي، فإن سياسة الطاقة الروسية تمتد كذلك إلي منطقة آسيا الوسطي، ذات الأهمية الخاصة جيواستراتيجيا لروسيا. وبالإضافة إلي ذلك، تدفع روسيا باستثمارات في قطاع الطاقة خارج روسيا، مع تشجيع شركات النفط الروسية علي فعل ذلك، ليس فقط في مجال التنقيب، وإنما، أيضا، في مجالات تطوير الإنتاج، والصناعات البتروكيماوية، ولذلك امتدت خريطة الاستثمارات الروسية في مجال الطاقة لتشمل المنطقة العربية، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا.
وروسيا هي عملاق في مجال الطاقة (أغني دولة في العالم)، وهي تحوز أكبر مخزون من الغاز الطبيعي، وهي الأولي في إنتاجه وتصديره، وهي ثاني أكبر احتياطي فحم في العالم، وتحتل الترتيب الثامن عالميا في تصدير الكهرباء، وتغطي أكثر من 10٪ من الاحتياج العالمي لليورانيوم.
وبالإضافة إلي مصادر الطاقة، تسيطر روسيا علي شبكة خطوط نقل إلي دول وسط آسيا، ودول الاتحاد الأوروبي. وكل ذلك يستخدم كأداة في يد روسيا لمكافأة أو معاقبة آخرين، من خلال قطع الإمدادات، أو التهديد بقطعها، أو رفع الأسعار قسريا، أو الاستحواذ علي حصص من البني التحتية للطاقة، أو من شركات الطاقة في دول أخري للتأثير فيها، وذلك كما حدث مع الشركة الوطنية لنقل الغاز في روسيا البيضاء (بيلا روسيا). وقد استطاعت روسيا توظيف قضية الطاقة وسياساتها كأداة للتأثير في دول الجوار الجغرافي، مثل أوكرانيا، ودول البلطيق (ليتوانيا، واستونيا، ولاتفيا) وأرمينيا، وجورجيا ومولدافيا، ودول آسيا الوسطي.
وتتناوب السعودية وروسيا صدارة كبري الدول تصديرا للنفط في العالم. ولدي السعودية نحو خمس احتياطي النفط المؤكد في العالم، وهي أكبر منتج ومصدر لإجمالي السوائل النفطية في العالم. ومن أجل تلبية الطلب المحلي المتزايد علي الكهرباء، تخطط السعودية لزيادة قدرة توليد الكهرباء من 55 جيجاوات إلي 120 جيجاوات بحلول عام .2020
ويشكل النفط أكثر من 90٪ من صادرات السعودية، ونحو 75٪ من إيراداتها الحكومية. وكبري الدول استيرادا للنفط السعودي هي اليابان، والصين، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وحافظت السعودية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، علي شراكة استراتيجية مهمة مع الولايات المتحدة، تقوم علي ضمان إمدادات النفط إليها، مقابل مظلة أمنية غربية للمملكة ودول الخليج العربي الأخري. ولسنوات طويلة أيضا، تشاركت السعودية مع الغرب الأمريكي – الأوروبي في سياسات احتواء كل من الشيوعية والقومية العربية، وهو ما أدي إلي مواقف مشتركة من قضايا عدة في الشرق الأوسط، وإفريقيا، وآسيا، بل وأمريكا اللاتينية. كما عمل الطرفان علي مواجهة النفوذ والتهديد الإيراني في الخليج العربي، بعد نشوب الثورة الإيرانية الخمينية في عام .1979 وقد استمرت تلك العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من ناحية، والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج العربية من ناحية أخري، مثل الكويت، والإمارات والبحرين، طوال مرحلة الحرب الباردة، وفترة الحرب بين العراق وإيران، منذ 1980 وحتي 1988، وحرب تحرير الكويت في عام .1991 ورغم الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، فإن خريطة علاقات الطاقة بين السعودية وبقية دول الخليج من ناحية، والولايات المتحدة وأوروبا الغربية من ناحية أخري، لم تعرف تغيرا جوهريا.
ومع ذلك، فإن السنوات الأخيرة القليلة شهدت تطورات وتغيرات ربما تؤثر في العلاقة الاستراتيجية “الممتدة” بين السعودية والخليج العربي من ناحية، والولايات المتحدة ومستوردي النفط الآخرين، وخصوصا الصين، من ناحية أخري. فالتغير في الموقف الأمريكي من ملف البرنامج النووي الإيراني، والتطور الإيجابي المهم الذي حدث لمفاوضات (5 + 1)، والذي علق العقوبات الغربية علي إيران، مقابل التزام الأخيرة، بتخفيض مستوي أنشطة برنامجها النووي، هو تغير من شأنه أن يزيد المخاوف والتهديدات المحتملة لذلك البرنامج علي الأمن القومي لدول الخليج العربية. وفضلا عن ذلك، فإن توافق السياسة الأمريكية مع النهج الروسي الرافض لحرب وعمل عسكري ضد النظام السوري، والانشغال بملف الأسلحة الكيميائية السورية، كانا من العوامل التي باعدت بين الموقف الأمريكي والموقف السعودي – الخليجي من أزمة الحرب الأهلية السورية، بما زاد من مستوي التوتر بين الطرفين، حيث يري الطرف الخليجي أن من شأن ذلك تقوية نهج إيران علي نحو يجعل من الصعب وضع حد للنفوذ الإيراني، أو “الهلال الشيعي” في المنطقة.
وبالإضافة لذلك، فإن زيادة الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز، نتيجة لطفرة الغاز والنفط الصخري، قد تؤدي إلي انخفاض الطلب الأمريكي علي النفط الخليجي. ولذلك، ارتفعت الصادرات النفطية السعودية إلي الصين، وتجاوزت الصادرات السعودية إلي الولايات المتحدة في عام .2009 وكذلك، أخذت الاستثمارات الصينية في المملكة العربية السعودية في الارتفاع. وأنفقت الصين علي نطاق واسع علي مصافي النفط في المملكة، وتم توقيع اتفاق تعاون نووي بين الطرفين. وفي عام 2014، زادت واردات الولايات المتحدة من النفط السعودي، بعد أن كانت قد تأثرت بالأزمة المالية في الغرب. حدث ذلك رغم أن الولايات المتحدة كانت قد أصبحت في عام 2013 أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي، ولكنها تفضل الاحتفاظ باحتياطيها منهما، أو بجزء مهم منهما حرصا علي أمن الطاقة مستقبليا.
وعلي المستوي النظري، يؤدي النفط والغاز الصخريان إلي انقلاب في خريطة الطاقة العالمية. فهل يحدث ذلك عمليا، فتنخفض أهمية منطقة الخليج العربي؟ ربما لا يحدث ذلك لعدد من الأسباب، منها أن الولايات المتحدة لن تعتمد بالكامل علي مواردها من الطاقة، فليس ذلك هو الأسلوب الأمريكي، لأن واشنطن تفضل دائما الاحتفاظ بجزء من احتياطياتها النفطية لمواجهة احتمالات المستقبل المختلفة. وكذلك، فإن ارتفاع تكلفة استخراج الغاز والنفط الصخريين يجعل من الأوفق أن يتم الاعتماد، جزئيا وليس كليا، علي تلك الموارد، مع استمرار الاعتماد، ولو جزئيا، علي الواردات من دول ومصادر أخري. ويؤدي التزايد الكبير في الطلب الآسيوي علي نفط الخليج، وفتح آفاق واسعة للتعاون بين الطرفين الصيني والخليجي إلي الحيلولة دون السيطرة الأمريكية، والتأثيرات السلبية الكبيرة في دول الخليج.
وعلي العكس، ربما تكون الأزمة الليبية تمثل مصدر تهديد لأمن الطاقة لدول غربية، وعلي رأسها إيطاليا. وكذلك، فإن تحول روسيا إلي مورد غير موثوق به للغاز الطبيعي والنفط إلي العديد من الدول الأوروبية، في ظل الأزمة في أوكرانيا، من شأنه أن ينتج صورة غامضة، أو أقل تفاؤلا، فيما يختص بأمن إمدادات الطاقة إلي أوروبا.
وعلي الجانب الآخر، تقف الصين والولايات المتحدة ككبري الدول المستوردة للطاقة. وكان ذلك هو حال الولايات المتحدة طوال القرن العشرين، ودخلت الصين إلي حيز المنافسة علي استيراد النفط والغاز، في إطار عملية تحولها إلي القوة الاقتصادية الثانية عالميا، وإلي القوة العسكرية الثالثة عالميا أيضا، وهو وضع تحدد وتبلور خلال العقد الماضي.
تعد الطاقة لدي الولايات المتحدة الأمريكية أحد الجوانب المهمة للغاية للأمن القومي الأمريكي، حيث يعد تأمين مصادر الطاقة بكميات كافية، وبأسعار معقولة للمواطنين الأمريكيين أمرا مهما للحفاظ علي المكانة العالمية للولايات المتحدة التي تعد أعلي الدول استهلاكا لكل من النفط والغاز الطبيعي. وفي معظم الأوقات، كانت هناك فجوة كبيرة بين المنتج والمستهلك من النفط والغاز، وكان الفرق يغطي بالمستورد، الذي جعل واشنطن دائما علي رأس قائمتي الدول المستهلكة والمستوردة لأهم موردين للطاقة، ونتيجة لأزمة أكتوبر 1973 التي عانت فيها الولايات المتحدة ارتفاعا ضخما في سعر النفط، بعد تطبيق سياسة الحظر النفطي علي واشنطن لمساندتها إسرائيل عسكريا في أثناء حرب أكتوبر. ولذلك، أعلنت الولايات المتحدة عن استهدافها، في نوفمبر 1973، لاستغلال الطاقة، وهو ما لم يتحقق بدرجة واضحة حتي الآن، وذلك رغم الطموحات الكبيرة المعلن عنها ببدء الوصول إلي حالة الاكتفاء الذاتي في الطاقة، بدءا من عام 2020، وذلك من خلال سياسات زيادة المنتج، وانخفاض المستهلك من موارد الطاقة، وذلك علي نحو يحقق الاكتفاء الذاتي الكامل في عام 2035. وبطبيعة الحال، هذه طموحات قد تواجه صعوبات متعلقة بارتفاع تكلفة إنتاج الغاز والنفط الصخري، وباحتمال اتجاه دول “الأوبك” إلي سياسات ومواقف قد تمثل تحديا، أو تفرض صعوبات، علي مسار الارتفاع الكبير في إنتاج موارد الطاقة الصخرية أمريكيا. ومن تلك السياسات زيادة إنتاج وعرض النفط والغاز، وخاصة من السعودية، بما يؤدي إلي انخفاض سعرهما دوليا، ومن ثم تحدي آفاق الزيادة الضخمة المتاحة نظريا للموارد الصخرية للطاقة في الداخل الأمريكي، حتي وإن ترتب علي ذلك انخفاض في سعر بترول “أوبك” المصدر إلي دول أخري، من بينها الولايات المتحدة.
وقد فرضت الصين نفسها علي خريطة الطاقة العالمية بعد عام 1992، وهو العام الأخير لمرحلة الاكتفاء الذاتي للصين من موارد الطاقة. ومع ذلك، لا تزال الصين حالة مختلفة، فأكبر موارد الطاقة لديها هو الفحم الذي بلغ 69٪ من استهلاكها من الطاقة في عام 2011، ويليه النفط بنسبة 18٪، ثم الغاز الطبيعي بنسبة 1.4 ٪.، وهي ثاني أكبر مستهلك للنفط بعد الولايات المتحدة، ويتوقع أن تصبح أكبر مستهلك في عام 2027، وهي ثالث أكبر مستورد للغاز المسال في العالم. وتتميز سياسة الصين بتعدد دوائر تحرك سياستها الخارجية في مجال الطاقة. وتتضمن تلك الدوائر الخليج، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا الوسطي، والقوقاز، وهو ما يعطي لتلك السياسة الصينية مرونة، وفعالية، ومساحة كبيرة للحركة، وتعددا وتنوعا في البدائل المتاحة، وتعددا في مجالات التعاون من مجال التنقيب، وحتي مجال تمويل المشروعات التنموية، والاستثمار في مشروعات صينية أو مشتركة، وذلك نهج تختص به الصين من بين الدول المستوردة للنفط والغاز. فمحدودية مصادر الطاقة من نفط وغاز طبيعي في الصين لم تؤد إلي محدودية دورها الدولي، بل علي العكس دفعتها إلي تبني مواقف وأدوات نشطة، والمزج بين أدوات متنوعة، بما يتلاءم مع ظروف كل منطقة. وذلك نهج يختلف، ربما، عما تتبعه دول أخري تعاني محدودية أدوارها الخارجية بسبب محدودية مواردها من الطاقة، وكذلك عن النهج التدخلي العنيف الذي تتبعه دول أخري لتعويض حالة معاناتها من نقص الموارد المهمة للطاقة. وهكذا، تتبع الصين نهجا تعاونيا يركز علي توظيف أدوات القوة الناعمة في التعاون مع الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز، وذلك من خلال تقديم الاستثمارات والمساعدات التي تهدف إلي المشاركة في التنمية، وليس فرض حالة هيمنة. ومستقبليا، لا يتوقع حدوث تغيير في ذلك النهج المرن.
د.مصطفى علوي
مجلة السياسة الدولية