لا تخفي فرنسا وإيطاليا رغبتهما في رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، وقد تفاءلت دول أوروبية، منها المجر واليونان، بزيارة رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، سانت بيترسبورغ ولقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أعمال المنتدى الاقتصادي الدولي في منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي، تفاءلت برفع كلّي، أو جزئي، للعقوبات الاقتصادية، في وقت تذمّرت فيه دول البلطيق وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية من الزيارة، بغضّ النظر عن نتائجها. وعلى الرغم من كلّ ما ذُكر، صادقت المفوضية الأوروبية على تمديد العقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا ستّة أشهر أخرى، كما هو معروف.
لم تتمكّن هذه العقوبات، بالطبع، من تغيير مسار السياسة الخارجية الروسية، وليس متوقعاً أن توافق روسيا على تنفيذ كامل بنود اتفاقية مينسك المتعلقة بحلّ الأزمة الأوكرانية. لكنّ العقوبات تسبّبت بضرر كثير للاقتصاد الروسي، صاحبه انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية وتراجع قيمة صرف الروبل الروسي، والحيلولة دون تصعيد عمليات التدخل الروسية في شرق أوكرانيا ودول الجوار.
أوجه العقوبات وتبعاتها
طاولت العقوبات الاقتصادية قطاع المال والطاقة والسلاح بصورة أساسية. وتسبّبت بآثار سلبية، نسبية وقصيرة المدى، على قطاع المال الروسي، لعدم توفّر ما يكفي من رؤوس الأموال في البلاد، لكن البيانات تشير كذلك إلى أنّ قيمة الدين الخارجي لقطاع البنوك في روسيا، حتى نهاية العام 2015، تراجعت بقيمة 56.6 مليار دولار مقارنة بالعام 2013. وتشير بيانات البنك المركزي الروسي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية المقبلة، تحديدًا من المنظومة الأوروبية، بنسبة 44%، في وقتٍ تراجعت فيه الاستثمارات الروسية في دول المنظومة الأوروبية بنسبة 21%، ما يدل على تراجع حجم التبادل التجاري بين الطرفين، لكنّ روسيا هي المتضرّر الأكبر، لأنّ المنظومة الأوروبية هي السوق الأساسية للمنتجات الروسية، بينما تحتل الأسواق الروسية المرتبة الرابعة في أسواق المنظومة الأوروبية بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين وسويسرا. من جهة أخرى، تمكّنت عدة دول أوروبية من الالتفاف على العقوبات وتسويق منتجاتها في الأسواق الروسية، بوساطة دول محايدة، مثل صربيا وروسيا البيضاء.
وعلى صعيد الطاقة، العقوبات غير مجدية من الناحية العملية، لانخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي في الأسواق العالمية، وتراجع صرف العملة الروسية، ما أدّى إلى تجميد كل مشاريع الشركات الكبرى للتنقيب عن النفط في الوقت الراهن. ولم تجرؤ بروكسل على ضمّ شركة “غازبروم” العملاقة لقائمة العقوبات، خوفاً من تعرّض أوروبا لأزمة غاز كما حدث قبل سنوات، وبهذا تركت أهمّ أسس الاقتصاد الروسي وأعمدته فاعلة ونشطة. وتحدثت أنستسيا نيسفيتائيلوفا، المعيدة في كلية الاقتصاد في جامعة سيتي اللندنية، لصحيفة نيوزويك عن سهولة تمكّن رجال الأعمال ورؤوس الأموال الروسية من تخطّي قائمة المحظورين من الاستثمار في أوروبا، من خلال تسجيل شركات خاصّة في جزر فيرجينيا البريطانية التي استقبلت نحو 80 من رؤوس الأموال القادمة تحديدًا من شبه جزيرة القرم.
التبعات الاقتصادية للعقوبات المفروضة على روسيا واضحة، خلافًا للتبعات السياسية، التي ما زالت قيد الجدل للأهمية الكامنة للأنظمة الشمولية، كما هو نظام الحكم في روسيا، بحيث يتمكّن هذا النظام مثالاً من حصر أثر الحصار الاقتصادي، وقد يحوّلها، من الناحية النظرية، إلى إيجابية، تصبّ في صالح البلاد، كترويج أهمية الاقتصاد الوطني، وتعويض الخسارة الناتجة عن الحصار برفع الإنتاج والبحث عن أسواق بديلة. من جهة أخرى، تسبّب الحصار الذي أعلنه بوتين ضدّ الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من القلق، وتحوّل إلى ضغط سياسي ملحوظ للأنظمة الأوروبية الديمقراطية. وهذا ما يوضّح الخطاب الودّي الذي تبنّاه رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينتسي، والبرلمان الفرنسي والرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، وحتى وزير خارجية ألمانيا، فرانك فالتر شاينماير، تجاه روسيا أخيراً، إضافة إلى شكاوى الشركات الأوروبية، خصوصاً في قطاع إنتاج المواد الغذائية والمنتجات الزراعية ومشتقات الألبان، نتيجة الخسائر الكبيرة التي صاحبت الحصار الاقتصادي ضدّ روسيا.
كما ساهم استمرار فرض العقوبات على دعم الحزب الحاكم في موسكو وأنصاره “روسيا الموحّدة”، وإضعاف موقف القوى الديمقراطية ذات التوجّهات الأوروبية، كما نجح بوتين، حتّى اللحظة، في قلب التبعات السلبية للحصار وتحويلها لفوائد سياسية، ومنها إحياء مشاعر الفخر لدى فئات الشعب الروسي، باعتبار روسيا إمبراطورية سابقة ودولة عظمى، محاصرة في الوقت نفسه بالأعداء من كلّ الجهات.
يرى خبراء أنّ مجرّد تخفيف هذه العقوبات قد يؤدّي إلى أثرين خطرين. يتمثل الأول بسقوط أوكرانيا في حالةٍ من اليأس وانعدام الجاذبية، بعيدًا عن إمكانية حلّ الأزمة التي لم تتوقّف على حدودها الشرقية، وابتعادها عن المدار الأوروبي. والثاني حال عدم تقيّد روسيا ببنود اتفاقية مينسك سيؤدّي للفتّ في الوحدة الأوروبية وإضعاف المنظومة. ويعتمد الأمر، في نهاية المطاف، بصورة أساسية على الدور الألماني الرائد. وتصر المستشارة الألمانية على عدم تخفيف العقوبات أو إلغائها، من دون تنفيذ روسيا بنود معاهدة مينسك.
روسيا وانفصال بريطانيا
أكّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنّ بلاده لم تلعب دوراً للتأثير على نتائج الاستفتاء الشعبي في بريطانيا بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وفقًا لما نشرته وكالة إنترفاكس. وعلّق بوتين على النتيجة قائلاً إنّ الأسباب التي أدّت إلى ذلك واضحة، ولا يوجد من يرغب بتمويل اقتصاديات ضعيفة لدول أخرى وإطعام شعوبٍ بأكملها، عدا عن الفشل في حلّ قضايا أمنية عديدة في إطار المنظومة الأوروبية، على ضوء موجات الهجرة الكبيرة. وقال إنّ الشعب البريطاني يرغب في مزيد من الاستقلالية لتحديد مصيره. وإنّ لخروج بريطانيا آثاراً عديدة إيجابية وسلبية على دول المنظومة. وستعمل روسيا على تغيير مسارها الاقتصادي والسياسي تجاه بريطانيا وباقي دول المنظومة الأوروبية، في ظلّ التطوّرات الجيوسياسية الجديدة.
قرار خروج بريطانيا ذو أبعاد سيئة لبعض الدول الأخرى، أوكرانيا ومولدافيا وجورجيا، الذين يشعرون بأنّ المسافة التي تفصلهم عن أوروبا ازدادت رقعتها. وعدا نايجل فرج في بريطانيا نفسها، انتشى بالفوز كثيرون من أعداء التحالف الأوروبي، مثل غيرت فيلدرز في هولندا، ومارين لو بين في فرنسا، باستثناء القوميين في أوروبا الشرقية، الذين ينظرون إلى المنظومة الأوروبية باعتبارها بقرة حلوباً، ودول أوروبا الشرقية هي آخر من يفكّر بالتخلّي عن عضويتها في الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من عدم اعترافه العلني بعبثية المنظومة، ليبقي على صورته رجل دولة محافظاً ودبلوماسيّاً، أتاح بوتين المجال لأنصاره للنيل من قدر الاتحاد الأوروبي وسمعته، والتعبير عن تأييد انفصال بريطانيا، وتوقّع مغادرة مزيد من الدول الأوروبية للاتحاد. ولا يمكن الاستهانة بخروج بريطانيا من المنظومة بالطبع. لكن، من المبالغ فيه حالياً الإعلان عن قرب انهيار الاتحاد الأوروبي، حسب قراءة وسائل الإعلام الرسمية الروسية، وإيحائها بأنّ الاتحاد لعنة على الشعب الأوروبي، لحرمانه من حقّه في الاختيار وسلبه استقلالية القرار، وتعريضه لموجاتٍ كبيرة من الهجرة غير الشرعية.
لعب الكرملين دوراً ملحوظاً في السنوات القليلة الماضية، بشأن دعم التوجّهات القومية الرافضة لإطار الاتحاد الأوروبي وتوسيع رقعته، بطرق ووسائل مختلفة، أهمّها المال الذي قدّم كقروض من البنك الروسي التشيكي للجبهة القومية في فرنسا، بزعامة مارين لو بين، أو من خلال الدعم المالي لوسائل الإعلام المحلية الموالية للكرملين في دول أوروبية عديدة، ونشر سيل من المعلومات بشأن أهمية روسيا على الصعيدين، الاقتصادي والسياسي.
يهدف المنطق، الذي يعتمده الكرملين، في خطابه الأوروبي، إلى الحصول على مزيد من المصالح، حال تواصل عمليات الانفصال في الاتحاد الأوروبي، كي تتمكّن روسيا من الحصول على أفضل الشروط الممكنة لفكّ الحصار الاقتصادي المعلن ضدّها. ويدرك الكرملين جيّدًا أنّ الاتحاد الأوروبي سينشغل، في السنوات القليلة المقبلة، بإيجاد حلول لمشكلاته الداخلية وترتيب البيت الأوروبي، وانعدام الرغبة في قبول أعضاء جدد في إطار المنظومة، ورفض مبادرة رفع تأشيرات الدخول لمواطني أوكرانيا، وعدم الشروع في ضمّ مولدافيا وجورجيا إلى الاتحاد في الوقت الراهن. وقد جمّد خروج بريطانيا عملياً مشاريع توسيع إطار الاتحاد حتّى إشعار آخر.
مستقبل العلاقات الروسية الأوروبية
حسب تصريحات سكرتيرة المكتب الإعلامي لوزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، ستواصل روسيا تعاونها مع بريطانيا، بعد خروجها رسمياً من الاتحاد الأوروبي، ومع المنظومة الأوروبية بصورة مستقلة، ستعمل موسكو على تشكيل رؤيتها الخاصّة بهذا الشأن، بعد المصادقة القانونية دولياً على قرار انفصال بريطانيا عن المنظومة الأوروبية. وموسكو على استعداد للتعامل مع الطرفين، وفقاً لشروط وأطر مقبولة من كل الأطراف المعنية.
لكن، من دون بريطانيا، سيفقد الاتحاد الأوروبي ثقله على الساحة الدولية، ولن يتمكّن من لعب دور الشريك الكفؤ لروسيا والصين، كما في السابق. وتشير بيانات إلى أنّ الملياردير المعروف بمضارباته المالية الدولية، جورج سوروس، هو أحد المستفيدين من قرار خروج بريطانيا، وهو الذي لعب أدواراً عديدة في زعزعة الأسواق المالية الدولية، بضخّه المليارات، والاستفادة من فارق العملات في السابق، أمّا توقّعاته بإعادة هيكلة الاتحاد بصورة عاجلة فقد تكون قريبة من الصحّة، من دون وجود مخاوف عملية لانهيار الاتحاد بهذه السرعة.
وقد أكد الرئيس التشيكي، ميلوش زيمان، على عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على البقاء ذلك الشريك القوي في المحادثات الثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين على المستوى البعيد. وحمّل مسؤولية خروج بريطانيا من المنظومة لرئيس المفوضية الأوروبية، جان- كلود يونكر، ورئيس البرلمان الأوروبي، دونالد توسك. وعلى الرغم من الفوضى التي يمرّ بها الاتحاد، ليس من المعروف الوجهة، التي سيسير فيها، خصوصاً على صعيد السياسة الخارجية تجاه روسيا والصين. وأكّد الرئيس التشيكي أنّ خسائر بريطانيا والاتحاد الأوروبي ستكون هائلة حال انفصالهما، وستستثمر روسيا والصين، باعتراف بريطانيا، هذه الوضعية. وستبحث روسيا، بصدد تمتين علاقاتها الاقتصادية مع بريطانيا والصين، عن إمكانيات الاستثمار فوق الجزيرة في ظلّ ضعف المنظومة الأوروبية، وتراجع أثرها الخارجي.
وفي ظلّ الفراغ الجيوسياسي، الذي تشهده القارة الأوروبية، حسمت تركيا أمرها تجاه روسيا، لتعتذر أو لتعرب عن أسفها لإسقاط الطائرة الروسية فوق أراضيها، وقد أدركت أبعاد التغييرات المتوقعة لخروج بريطانيا من إطار المنظومة الأوروبية، وارتفاع أسهم موسكو على الساحة الدولية. ويحتاج الطرفان لهذه المصالحة والتحالف لتحقيق مصالح كثيرة مجمّدة. لذا، سارع الرئيس الروسي إلى مباركة سفر مواطنيه إلى المناطق السياحية في تركيا، ورفع مستوى التعاون وتلطيف الأجواء بين البلدين.
خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد