في 29 حزيران/يونيو، صادق مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي على اتفاق مستحَق منذ وقت طويل لإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع تركيا بتأييد سبعة وزراء مقابل ثلاثة. ويُنهي هذا الاتفاق فعلياً قصة “مافي مرمرة” التي بدأت عام 2010، عندما سعى أسطول سفن بقيادة منظمة غير حكومية تركية إلى خرق القيود البحرية التي تفرضها إسرائيل على غزة الخاضعة لسيطرة «حماس». وتحديداً، ركّز المفاوضون على تأمين 20 مليون دولار كتعويض لعائلات الأتراك التسعة الذين قُتلوا عندما شنّت القوات الإسرائيلية غارة على “أسطول الحرية”. بيد، قد تكون لهذا الاتفاق، الذي لم يُنشر نصه بعد، تبعات أكثر شمولاً. وعلى الرغم من أنه ليس هناك من يتوقع أن ذلك سيُعيد البلديْن فجأة إلى العصر الذهبي لعلاقاتهما في التسعينات، إلا أنه يشكل، بسبب مجموعة من المصالح المشتركة، شرطاً لا غنى عنه لتحقيق منافع سياسية وأمنية واقتصادية مغرية أخرى في الشرق الأوسط المضطرب.
تزايد المخاوف الأمنية
كان الهجوم في مطار اسطنبول في 28 حزيران/يونيو تذكيراً بأن تركيا تواجه العديد من الأعداء المتطرفين. وزعمت أنقرة أن أعضاء من تنظيم «الدولة الإسلامية» هم الذين ارتكبوا الهجوم رداً على تخمُّر الاتفاق الإسرائيلي التركي. وبالإضافة إلى الحاجة إلى المزيد من الحلفاء لمحاربة تسلل التنظيم وأشكال أخرى من التطرف العنيف، عارض الأتراك بشدة حكم الرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي أقحمهم في نزاع مع مختلف حلفائه الشيعة (لمعرفة المزيد عن حسابات أنقرة، انظر المرصد السياسي 2638، “جاذبية تركيا وحيلتها الإقليمية: الدوافع والتوقّعات“).
ومن جهتها، أصبحت إسرائيل تعتقد أنها بحاجة إلى أكبر عدد ممكن من الأصدقاء للتعامل مع الفوضى العارمة في المنطقة. لذلك، عندما أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في وقت سابق من هذا العام عن الحاجة إلى نسج علاقات أقرب مع القدس، لاقت تعليقاته اهتماماً واسعاً في وسائل الإعلام والدوائر السياسية الإسرائيلية. وسابقاً، كان كل من أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد تفادى اختتام مفاوضات الصلح لأن مخاوف وشكوك أخرى فاقت حاجتهم إلى حلفاء إقليميين. فعلى سبيل المثال، خشي نتنياهو من أن الاتفاق لن يؤدي سوى إلى تعزيز ميول أردوغان إلى توجيه انتقادات صاخبة لإسرائيل ودعْم عدوّها اللدود «حماس».
منع اندلاع حرب أخرى في غزة؟
إن إحدى الانعكاسات الأكثر أهمية للاتفاق هي إمكانية منعه جولات أخرى من القتال في غزة، خاصةً من خلال تخفيفه من حدة الظروف الإنسانية المتفاقمة في المنطقة. ويعتقد الجيش الإسرائيلي أن تحسين نوعية الحياة في غزة هو أفضل أمل لتجنب الحروب المستقبلية ضد «حماس»، كما أن الاتفاق مع أنقرة سيسهل مثل هذه الجهود.
وعلى وجه التحديد، سيُسمَح لتركيا الآن ببناء محطة لتوليد الكهرباء في غزة، والتي بدورها ستمكِّن بناء محطة تحلية لمواجهة مشاكل المياه في المنطقة. ويقيناً، ستبقى القيود الأخرى سارية المفعول. وفي المقام الأول، لن تسمح إسرائيل لتركيا ببناء مرفأ في غزة أو رسو باخرة لتوليد الطاقة قرب الشاطئ. وقد أدرك أردوغان أيضاً أن إسرائيل لن تنهي قيودها الاقتصادية على القطاع، لذلك تراجع عن إصراره المسبق (والعلني جداً) في هذا الخصوص – مما يشكل تغييراً ملحوظاً. وبدلاً من ذلك، وافق الأتراك على أن تجري جميع المعاملات التجارية مع غزة عبر ميناء أشدود الإسرائيلي. ولطالما أصرت القدس على هذه الرقابة بسبب مخاوف أمنية من جهود التهريب التي تقوم بها «حماس». ومن المثير للاهتمام أنه، بينما تندد «حماس» باستمرار بالبلدان التي تحسن علاقاتها مع إسرائيل، لم تنتقد الحركة اتفاق تركيا، إذ لا يمكنها أن تتحمل خسارة دعم أردوغان.
ويشير الاتفاق أيضاً إلى أن الإسرائيليين يتواءمون مع قلة الاهتمام التي تبديها السلطة الفلسطينية لاستئناف السيطرة على غزة كما يبدو. لذلك شعرت إسرائيل أنها ملزمة بإبرام اتفاق مع تركيا وإن كان ذلك سيسمح لـ «حماس» بالمطالبة بالاعتراف بمساهمتها في التحسينات في غزة. وكانت إسرائيل قد أصرت سابقاً على أن يتم الاعتراف بمساهمة السلطة الفلسطينية في إدخال تحسينات في غزة. وعلى الرغم من أن الحديث الفلسطيني غالباً ما يغذي نظريات المؤامرة ضد إسرائيل، كونها ترغب كما يُفترض في سيادة «حماس» على السلطة الفلسطينية، إلا أن هذا التفكير منافياً للمنطق في ظل الوضع الحالي في غزة.
ويُبدي نتنياهو حذراً إزاء تفادي التوصل إلى أي تسوية مع أنقرة قد تثير غيظ مصر. فلطالما نظرت «حماس» إلى نفسها على أنها فرع «الإخوان المسلمين» في غزة – تلك الجماعة التي هي العدو اللدود للقاهرة، لذلك لا يريد الرئيس عبد الفتاح السيسي تعزيز تأثير تركيا في غزة إذا كان ذلك سيساعد حركة «حماس». كما أن مصر غاضبة على أنقرة بسبب عدم اعترافها بحكومة السيسي. وفي حين أن نتنياهو لم ينسق موقفه مع السيسي قبل التوصل إلى اتفاق مع تركيا، يبدو أنه قد تأكد من أن شروط الاتفاق لا تحتوي على مفاجآت للقاهرة. وليس لدى إسرائيل أية نية لمأسسة دور تركي في غزة على حساب مصر، كما أن القاهرة طوّرت مستوى مقبول من الروابط مع القدس، نظراً إلى النطاق الواسع لعلاقتهما الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، يأتي الاتفاق في الوقت الذي ينشغل فيه المصريون في قضايا اقتصادية أكثر إلحاحاً في وطنهم.
من الأبعاد الفلسطينية الأخرى للاتفاق عدم سماح أنقرة بعد الآن للعناصر العسكرية لحركة «حماس» باستخدام تركيا كقاعدة عمليات لشن هجمات في الضفة الغربية، وإن كان بإمكان المنظمة الاحتفاظ بمكتب هناك لأغراض أخرى. ففي نظر إسرائيل، كان العميل صالح العروري شخصية أساسية في أعمال العنف في الضفة الغربية التي أدت إلى اندلاع الحرب في غزة عام 2014، وكان متمركزاً في تركيا حتى عام 2015 كما سُمح له بزيارة البلاد في أكثر من مناسبة خلال العام الماضي. وكانت هذه المسألة على ما يبدو إحدى أواخر النقاط العالقة في المفاوضات.
علاقات اقتصادية
خلال السنوات القليلة الماضية كرّس نتنياهو جهداً كبيراً لتحسين العلاقات مع اليونان وقبرص، وخاصةً لضمان بيئة مثالية لتطوير الغاز الطبيعي الذي تملكه إسرائيل في البحر المتوسط. وعلى نحوٍ مماثل، ينبغي أن يسهّل اتفاق أنقرة المحادثات الجادة حول تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا. وحيث قد تكون تركيا بمثابة بوابة عبور لإسرائيل إلى أسواق الغاز الأوروبية، فقد ترحب أنقرة أيضاً بمورّد زهيد الثمن لتخفيف اعتمادها الخاص على روسيا في مجال الطاقة – لاسيما في ضوء التوترات الحادة مع موسكو التي برزت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بعد أن أسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية. (ينبغي على المرء أن لا يستبعد الاحتمال بأن نتنياهو قد تباحث موضوع الاتفاق مع تركيا مع فلاديمير بوتين، خلال زيارته إلى موسكو في حزيران/يونيو؛ ومن الملحوظ كذلك توقيت “الاعتذار” التركي في نهاية حزيران/يونيو عن عملية إسقاط الطائرة الروسية).
وكان وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز، الذي التقى مع أردوغان على هامش القمة النووية المتعددة الأطراف في واشنطن في شهر آذار/مارس، قد قال إن الغاز هو فرصة ثنائية مهمة، وإن اتفاقات خطوط الأنابيب مع تركيا ستمكّن إسرائيل من تطوير مواردها البحرية من الغاز حتى أكثر من ذلك. بالإضافة إلى ذلك، لن تؤدي التكهنات المستمرة حول اتفاق سلام محتمل في قبرص هذا العام إلا إلى زيادة الآمال للنمو الاقتصادي في بلدان شرق البحر المتوسط.
إلا أن هذا النمو واضحاً بالفعل – فتجارة إسرائيل مع تركيا قد تضاعفت أو أكثر في خلال السنوات القليلة الماضية وتجاوزت خمسة مليارات دولار في عام 2015. ويُقال إن أكثر من 13000 شاحنة قامت بنقل الطعام والفولاذ والآلات والأدوية وأغراض أخرى من تركيا إلى إسرائيل في العام الماضي، حيث وصلت إلى ميناء حيفا ومن ثم استمرت إلى الأردن عبر “جسر الشيخ حسين”. وحلت هذه النقليات محل الشاحنات التي اعتادت عبور سوريا في الأوقات التي كانت أكثر أمناً وهدوءاً.
ومع ذلك، فإن المكاسب الاقتصادية لا تمحو التراجع في العلاقات الثنائية، الذي بدأ قبل “مافي مرمرة” وتسارع لاحقاً. ففي عدة مناسبات خلال السنوات القليلة الماضية، أدلى أردوغان بتصريحات لاذعة ضدّ إسرائيل، حتى أنه اتهمها بـ “جرائم حرب”. وبقيت العلاقة باردة على الرغم من حقيقة أن بعض عناصر الاتفاق الذي تم التوصل إليه في نهاية حزيران/يونيو كانت قد تمت تسويتها إلى حد ما منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، في إحدى المحادثات الهاتفية التي نظّمها الرئيس أوباما في آذار/مارس 2013، لبّى نتنياهو أحد المطالب الرئيسية لتركيا من خلال الاعتذار عن أي “أخطاء لها علاقة بالعمليات” في الحادثة البحرية. وأصرت القدس لسنوات على ألا تقوم تركيا بتوجيه اتهامات جنائية ضد مسؤولي الأمن الإسرائيليين بسبب غارة “أسطول الحرية” أو دعم هذه الاتهامات – وهو طلب لم تقبل به تركيا رسمياً إلا في نهاية حزيران/يونيو. وفي الأول من تموز/يوليو، أخبر كبير المفاوضين الإسرائيليين في المحادثات صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن مبلغ العشرين مليون دولار للتعويض عن الضحايا لن يُسلَّم إلى حين تمرير البرلمان التركي قانوناً ضد مثل هذه الاتهامات.
بالإضافة إلى ذلك، صوّت ثلاثة وزراء إسرائيليين ضدّ الاتفاق، من بينهم وزير الدفاع المعيَّن حديثاً أفيغدور ليبرمان. كما عارضه وزير التعليم نفتالي بينيت، حيث أشار إلى أن مبدأ منح التعويضات إلى ضحايا “أسطول الحرية” التركي يشكل سابقة سيئة للقضية الفلسطينية. وفيما خابت آمال بعض الوزراء لأن الاتفاق لم يُربَط بمسألة إعادة جثتيْ الجندييْن الإسرائيلييْن اللتين ما تزالان في غزة، يبدو أن القدس قررت أن ربط المسألتين سيعطي «حماس» فعلياً حق النقض في ما يخص العلاقات الإسرائيلية التركية.
البُعد الأمريكي
لطالما كانت واشنطن تدعو إلى التوصل إلى مثل هذا الاتفاق بين حلفائها للتحكم بشكل أفضل في الاضطرابات المتنامية في المنطقة. فبالإضافة إلى مكالمة أوباما الهاتفية عام 2013، زار نائب الرئيس جو بايدن كلا البلدين هذا العام (أنقرة في 21 كانون الثاني/يناير وإسرائيل في 8 آذار/مارس) حيث يُعتقد أنه ناقش الحاجة إلى التقارب. وفي السنوات الأخيرة، استخدمت تركيا عضويتها في حلف شمال الأطلسي لمنع مختلف أشكال التواصل مع إسرائيل، وبالتالي، فإن الاتفاق الجديد سيسمح للمنظمة بتوسيع تعاونها مع القدس.
وليس هناك ما يؤكد قيام فرص للتعاون الإسرائيلي التركي ضد الجماعات الجهادية، على الرغم من أن بعض التصريحات الأخيرة تعِد بشيء من إمكانية التحرك في هذا الصدد. فوفقاً لتقرير نُشر في 9 أيار/مايو في صحيفة “حريت” التركية، أشار القنصل الإسرائيلي العام في إسطنبول شاي كوهين أنه “في النهاية، نتفق بالرأي مع تركيا حول القضاء على المنظمات المتطرفة الجهادية، وخاصةً في سوريا، لكن ]أيضاً[ في المنطقة بشكل عام. وهناك الكثير من الأمور لتحقيق التعاون حول ذلك”. يبقى أن نرى في ما إذا كان نزاع تركيا المتأجج كما يُفترض ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» سيؤدي إلى مشاركة أكبر للمعلومات مع إسرائيل، على الأقل في ما يتعلق بالمواضيع المتميّزة. إن التكهنات تملأ وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنه سيتم تجديد مبيعات الأسلحة الثنائية التي كانت تجري قبل عام 2010 بشكل مصغر نوعاً ما، لكن لا يمكن تأكيد ذلك.
المحصلة
لا يبدو أن الاتفاق الإسرائيلي التركي يعني “إعادة العلاقات إلى وضعها الأصلي” بين القادة الذين يحتفظون بآراء دولية متباينة جداً حول الإسلام السياسي وغيره من القضايا. لكن من خلال وضع حد لسنوات من التدهور السياسي والاتهامات المضادة الصاخبة بين الحكومتين، يمكن أن يكون الاتفاق الحافز الذي يمكّنهما استغنام الفرص الثنائية والإقليمية عندما تلتقي مصالحهما الاستراتيجية.
ديفيد ماكوفسكي
معهد واشنطن