“يصادف الرابع عشر من تموز/يوليو الذكرى السنوية الأولى لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران المعروف بـ «خطة العمل المشتركة الشاملة». وهذا المقال هو جزء من سلسلة من المراصد السياسية التي تقيّم الكيفية التي أثّر فيها الاتفاق على المصالح المختلفة للولايات المتحدة. وستصدر المقالات المقبلة في الأيام التي تسبق الذكرى”.
في الوقت الذي تطلعت فيه الشركات الأوروبية بنظرة حالمة إلى إيران في مرحلة ما بعد العقوبات كمنطقة “إلدورادو” جديدة أو أرض تزخر بالثروات، بدا الشعب الإيراني بنفسه مذعناً لواقع التقدم البطيء المسجل في أفضل الأحوال. بيد، سيكون من الصعب الاستمرار في تحقيق حتى هذا التقدم البطيء نظراً لانهيار أسعار النفط الدولية، ودرجة مقاومة كلاً من «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني ومصالح محلية مكتسبة أخرى للإصلاحات الضرورية للمشاركة على نحو كامل في الاقتصاد العالمي.
خيبة أمل من الثورة
لطالما كان الأداء الاقتصادي لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» دون المتوسط، الأمر الذي ولد خيبة أمل كبيرة لدى الإيرانيين. فقد شهد العقد الأول بعد ثورة 1979 تراجع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي مع أخذ التضخم بعين الاعتبار، بالرغم من أن مستويات أمد الحياة والتعليم قد ارتفعت بحدة بفضل البرامج التي تم إطلاقها في عهد الشاه (من الصعب قياس مدى تراجع إجمالي الناتج المحلي بدقة لأن آليات التحكم الخاصة بالنظام الجديد قد شوهت الاقتصاد). ومنذ عام 1990، مع انتهاء “حرب الخليج” وتعافي أسواق النفط، حتى عام 2010، ارتفع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 90% فيما استمرت مستويات أمد الحياة والتعليم بالارتفاع.
وفي العقد الأول من القرن الحالي، كان يُفترض أن تحُقق إيران نمواً ضخماً نظراً لدخل النفط الهائل وتدفق الشباب الذين ينضمون للقوى العاملة والذين يحمل الكثير منهم شهادات متقدمة (نسب ارتياد الجامعات في إيران أعلى من تلك في الولايات المتحدة). ولكن في حين نعمت دول الخليج ذات الأنظمة الملكية بفترات ازدهار قياسية، اكتفت إيران بتسجيل نمو ثابت في إجمالي الناتج المحلي. وارتفعت نسبة البطالة إلى 11.7% بحسب التقارير الرسمية، مع أن قلة من النساء يبحثن عن عمل. وفي غضون ذلك، استشرى الفساد، معززاً بذلك الانطباع السائد بأن الأشخاص الذين لديهم معارف سياسية وثيقة هم فقط من يستطيعون المضي قدماً.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أدى تشديد العقوبات الدولية إلى قيام حالة من الركود، بحيث أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2015 كان أعلى بنسبة لا تتعدى 50% مما كان عليه أثناء الثورة. وبما أن معظم الإيرانيين مهووسون بالولايات المتحدة، فقد انزعجوا بلا شك من معرفة أن ارتفاع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي كان أبطأ بكثير بين الأعوام 1980 و2015 من الارتفاع الذي سجلته الولايات المتحدة بنسبة 80% خلال تلك الفترة. وبالطبع، اعتُبر أداء إيران أفضل بكثير من أداء جيرانها في الشرق والغرب، أي أفغانستان والعراق. ولكن دول الخليج ذات الأنظمة الملكية المجاورة حققت أداءً أفضل بعد. فبينما كان نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الإمارات العربية المتحدة حوالي ثلث نظيره في إيران عام 1979، أصبح اليوم موازياً له. ولعل تركيا تشكل المثال الأنسب للمقارنة كونها جارة مشابهة لإيران من حيث الحجم والخلفية الاجتماعية والاقتصادية. ففي عام 1978، كان نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في إيران أكبر بنسبة 30% من نظيره في تركيا، أما اليوم فأصبح أقل بـ 50%، في انعكاس ملحوظ للحظوظ.
إنجازات حقيقية، مشاكل حقيقية
في العقد الأخير أو نحو ذلك، حققت إيران بعض التقدم غير المقدر بما فيه الكفاية فيما يتعلق بتنويع مواردها الاقتصادية خارج إطار النفط، إذ طُبّق فعلياً شعار “اقتصاد المقاومة” الذي طرحه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إلى حد كبير. فقد جاهرت السلطات الإيرانية ببيانات الجمارك لعام 2015/2016 (العام الإيراني ينتهي في 20 آذار/مارس)، التي أظهرت أن قيمة الواردات بلغت 41.5 مليار دولار وصادرات النفط غير الخام 42.3 مليار دولار. وحتى مع تعديل تلك الأرقام وفقاً للمكثفات المصدَرة التي تقارب قيمتها 6.6 مليار دولار، وهي نوع من النفط لا يُعتبر خاماً بنظر إيران والولايات المتحدة، من الضروري أن ندرك أنه تم تنويع الاقتصاد. على سبيل المثال، تنتج إيران اليوم كمية أكبر من الفولاذ بالمقارنة مع فرنسا أو بريطانيا، وقد أنتج قطاع صناعة المركبات 976835 مركبة آلية عام 2015/2016 بالرغم من تعرضه لنكسات في الأعوام الأخيرة.
وفي حين اعتُبر التنويع إنجازاً كبيراً، شكّل الاستثمار مشكلة حقيقية. وبينما تتباهى إيران بقدرتها على تنفيذ مشاريع كبرى بالرغم من العقوبات المفروضة عليها، يبقى واقع الأمر أن “خاتم الأنبياء”، وهي شركة البناء الإيرانية التابعة لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» والمكلفة بتنفيذ معظم تلك المشاريع الكبرى، سجلت أداءً متردياً في هذا الإطار. فالطريق السريع من طهران إلى بحر قزوين والذي يبلغ طوله 75 ميلاً هو قيد الإنشاء منذ 17 عاماً، وتقوم الخطة (المتفائلة) الحالية على إكماله في غضون ستة أعوام من خلال إشراك شركة “دايوو للهندسة” (Daewoo Engineering) التابعة لكوريا الجنوبية والتي مُنحت عقداً بقيمة 1.5 مليار دولار. وكذلك، خلُص تقرير استشاري حول خط سكة الحديد فائق السرعة بين طهران، قم وأصفهان، وهو مشروع آخر موكل إلى شركة “خاتم الأنبياء”، إلى أنه سيتوجب تخفيض السرعة المزمعة وأن العقد “ليس مكتملاً من ناحية المواصفات الفنية” وفقاً لنائب وزير النقل الإيراني أصغر كاشان.
التوقعات ما بعد «خطة العمل المشتركة الشاملة» تعتمد على نظرة الشخص
ازداد انتاج إيران من النفط بحوالي مليون برميل يومياً، وهي نسبة تفوق توقعات الأغلبية ولكنها تتلاءم مع توقعات النظام قبل “يوم تنفيذ” «خطة العمل المشتركة الشاملة» (للبرنامج النووي الإيراني) في كانون الثاني/يناير. كما زادت الحكومة الصادرات من حوالي 1.3 مليون إلى 2.3 مليون برميل يومياً. وبخلاف التقاليد، فقد أجرت تخفيضات كبيرة في الأسعار لإعادة كسب أسواق النفط. بالإضافة إلى ذلك، حققت إيران نجاحاً كبيراً من ناحية معالجة مشاكل التأمين في ما يتعلق بناقلات النفط الخاصة بها. فقد رفعت “المجموعة الدولية لرابطات الحماية” والتعويض مستوى إعادة التأمين بالنسبة إلى شحن النفط الخام الإيراني من 80 مليون دولار قبل تنفيذ «خطة العمل المشتركة الشاملة» إلى 830 مليون دولار ابتداءً من 15 نيسان/إبريل.
إلا أن زيادة الصادرات النفطية قد طُمست إلى حد كبير بفعل تراجع سعر النفط. فتصدير 2.3 مليون برميل يومياً بسعر 50 دولار للبرميل الواحد يؤمن 115 مليون دولار يومياً، أي أقل من مبلغ 130 مليون دولار الناتج عن تصدير 1.3 مليون برميل بسعر 100 دولار وهو السعر الجاري قبل انهيار الأسعار. وستكون عائدات الصادرات النفطية الإيرانية عام 2016 على الأرجح موازية تقريباً لما كانت عليه عام 2015. وعلى الرغم من انتهاء العقوبات النووية، فإن الأسعار المتدنية وانتعاش الإنتاج غير المكتمل ستُبقي إيرادات الصادرات عند ربع المستوى المسجل عام 2011 (115 مليار دولار).
وفي حين سينمو إجمالي الناتج المحلي على الأرجح بنسبة 4% هذا العام، إلا أن معظمه سيأتي من الإنتاج النفطي المتزايد. ومن غير المرجح أن يبلغ الإنتاج غير النفطي 3%، وحتى هذا الرقم يعتمد على مواصلة الحكومة الإنفاق بالرغم من عجز الميزانية الهائل كما يحتمل. وتتمثل الأولوية بالنسبة إلى الرئيس حسن روحاني بإبقاء التضخم محصوراً ضمن الأرقام الأحادية، وبالتالي فمن غير المرجح أن يلجأ إلى الممارسة السابقة القائمة على طباعة الأموال عندما ينقص التمويل. وتدّعي الحكومة على نحو غير قابل للتصديق أنه بالرغم من النمو الضئيل في الأرباح النفطية، فبإمكانها أن تجمع ما يكفي لسد احتياجاتها عن طريق الاقتراضات غير المصرفية والإيرادات غير النفطية. وفي الواقع، يُفترض أن تشهد الخدمات الأمنية زيادة بنسبة 90% في الميزانية قبل التعديل تحسباً للتضخم. وتُستخدم حالياً عدة موارد غير اعتيادية لتمويل هذه النفقات. على سبيل المثال، انطلاقاً من الميزانية الأمنية المقدرة بـ 19 مليار دولار، يُفترض أن يأتي مليار دولار من الترويج في صفوف المواطنين لحق تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية وأن يأتي 1.7 مليار دولار أخرى من تسوية عُقدت في كانون الثاني/يناير مع الحكومة الأمريكية بناءً على ادعاء يعود إلى ما قبل 35 عاماً حول مبيعات الأسلحة لنظام الشاه.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن إجمالي الناتج المحلي يقيس فقط ما يحصل في الاقتصاد الوطني ولا يُترجم بالضرورة بمشاعر الناس في الشارع. فميزانية عام 2016/2017 تستمر في تقويض الفوائد المالية العائلية التي أدخلها الرئيس السابق محمود أحمي نجاد عندما تم تقليص الإعانات، إذ باتت اليوم تبلغ 15 دولار شهرياً للفرد الواحد. وكان الفساد بمثابة لعنة في عهد أحمدي نجاد، إلا أن الشكاوى لم تتقلص في عهد روحاني، الذي كان متوقعاً أن يقود “سفينة” أضيق وأكثر تكنوقراطية. وقد برزت الشهر الماضي فضيحة حول ارتفاع بعض الأجور لتصل إلى 60000 دولار شهرياً للمدراء الذين لديهم علاقات سياسية متينة في شركات حكومية، في حين أن عمالاً في بعض المصانع التابعة للدولة لم يتلقوا أجورهم منذ أشهر. وفي خطاب ألقاه خامنئي أمام أساتذة جامعيين في 18 حزيران/يونيو، انتقد بشدة أولئك الذين يريدون إقامة “وول ستريت إيراني”، قائلاً إن الولايات المتحدة لديها “قمم من الثروات بالإضافة إلى وديان من البؤس والفوضى والفقر والحرمان”، وهذا على الأرجح رأي مفاده أنه مهما كانت الفوارق القائمة في إيران، فتلك السائدة في أمريكا هي أسوأ.
وتتمثل المشكلة الاقتصادية الأساسية بالنسبة إلى إيران في ترسخ المحسوبية بعمق في النظام، وبالتالي، تتم الإصلاحات بوتيرة بطيئة. فمشاكل إيران المتعلقة بإعادة الاتصال بالنظام المالي الدولي تُظهر تقاعسها من ناحية الاستعداد لإعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي. ولا تعي طهران على ما يبدو أن العالم قد تغير خلال العقد الأخير وأن على الجمهورية الإسلامية أن تغير مسارها لتناسب العصر.
وبالإضافة إلى القطاع المصرفي، تأثر قطاع النفط بشكل كبير بفعل التطورات. وقد تبوأ روحاني سدة الحكم متعهداً باستقطاب شركات النفط الدولية للاستثمار في إيران، إلا أن فريقه لم يتمكن من إجراء التغييرات الضرورية لتحقيق ذلك. فاللجنة المسؤولة عن صياغة “عقد البترول الإيراني” قد أنهت عملها في شباط/فبراير 2014، ولكن الوثيقة لم تنشَر بعد بسبب الخلافات الداخلية، كما لم تحظَ بعد بموافقة “المجلس”. ويصر المتشددون على تعديل بنود الوثيقة لتلبية اعتراضاتهم الشعبوية، متجاهلين واقع أن شركات النفط الدولية قد قلصت الاستثمارات في كل مكان بسبب تراجع أسعار النفط. وقد يُطلَق العقد النموذجي أخيراً هذا العام، إلا أن ذلك لن يشكل سوى مرحلة أخرى من مسيرة طويلة- في حين تتوقع وزارة النفط الإعلان عن اتفاق سيتصدر عناوين الصحف في الأشهر القليلة المقبلة، وسيكون هذا الأخير عبارة عن اتفاق مبدئي وليس عقداً. فـ “شركة النفط الوطنية الإيرانية”، التي تتفاوض على العقود مع شركات النفط الدولية، لديها علاقات متعثرة مع وزارة النفط، التي حل المسؤول الأعلى فيها للتو محل رئيس “شركة النفط الوطنية الإيرانية”. فضلاً عن ذلك، من غير المرجح أن تكون العقود الأولى معدة للاستثمار، بل ستركز على الأرجح على العمل المتعلق بالبنى التحتية من قبل شركات الخدمات النفطية (على سبيل المثال، لمرافق ضغط الغاز وخطوط الأنابيب الرئيسية).
وحتى الآن، يبدو أن الإيرانيين مستعدون لانتظار أن تؤتي «خطة العمل المشتركة الشاملة» ثمارها. ويبدو أن التشكيك هو المزاج الشعبي السائد، سواء حول إصلاح المحسوبية أو استعداد المجتمع الدولي لرؤية ازدهار إيران. وفي أفضل الأحوال، يمكن أن تقنع واشنطن أبناء الشعب الإيراني بأن المشاكل الاقتصادية الأساسية في بلادهم ليست ناتجة عن عدائية أمريكية بل عن سياسات حكومتهم، غير أن هذا السيناريو بعيد كل البعد عن الواقع.
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن