كان كل شيء يسير بشكل طبيعي في مختلف أنحاء تركيا، لكن مساء الخامس عشر من يوليو/تموز الجاري حمل مفاجأة للشعب التركي، وحكومته والعالم، حيث تواردت أنباء عن محاولة انقلاب عسكري، لمجموعة من الضباط، أعلنوا استيلاءهم بالقوة على السلطة، في بيانٍ، بثّوه على قناة تي آر تي الرسمية، قبل أن يتم قطع بثّها، وبرّروا محاولتهم الانقلابية بأنهم أقدموا على هذه الخطوة، بهدف “الحفاظ على النظام الديمقراطي”، فيما كانت الدبابات تنتشر أمام بعض مقرّات العاصمة أنقرة، وكذلك في مدينة إسطنبول، فيما حامت مقاتلات حربية في سماء المدينتين، معلنةً إلغاء كل الرحلات في مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول.
كان الذهول سيد الموقف، وبدا الناس في حيرةٍ من أمرهم، إذ لم يدركوا لحظتها ما الذي يجري في بلدهم، خصوصاً مع انتشار قطعات العسكريين الانقلابية في أماكن حسّاسة في أنقرة وإسطنبول، وبدأ كثيرون منهم يتراكضون في الشوارع، بحثاً عن الطريق الموصل إلى البيت، خصوصاً مع انقطاع حركة المواصلات العامة، وقطع أغلب الجسور والطرقات الرئيسية.
حدث ذلك كله في الساعات الأولى لمحاولة الانقلاب، لكن الأمر لم يدم طويلاً، فقد تناقل أتراك كثيرون، وخصوصاً النشطاء منهم، الأخبار، عبر وسائل الاتصال الحديثة، ولا سيما مواقع التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع أول ظهور للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عبر السكايب، على إحدى القنوات الفضائية الإخبارية، مناشداً إياهم النزول إلى الشوارع والساحات العامة ومطار إسطنبول الدولي.
لم يتأخر الأتراك، بل نزلت حشود كبيرة منهم إلى الشوارع، وتوجهوا بالآلاف إلى مطار إسطنبول، وواجهوا الدبابات مباشرة، رافعين الأعلام التركية، ومندّدين بالمحاولة الانقلابية، وناشدوا الجنود ترك أسلحتهم ودباباتهم وتسليم أنفسهم، ولم يمنعهم إغلاق جسري البوسفور في إسطنبول، ولا حالة الاستنفار الأمني غير الطبيعية في المدينة، من قول كلمتهم، منادين: “عودوا إلى بيوتكم”، ليضربوا مثالاً، ويسطّروا درساً، لا بد أن يسجله تاريخ تركيا والعالم أجمع، بأن إرادة الشعب أقوى من رصاص العسكر، خصوصاً عندما يعي الشعب معنى حياته وحقوقه وواجباته.
وعلى الرغم من فرض حظر للتجوال، وقطع للطرقات، وإطلاق الرصاص على الحشود
الرافضة للانقلاب، وتحليق المقاتلات فوق الرؤوس على ارتفاعٍ منخفض، إلا أن المواطنين الأتراك أكملوا طريقهم، حتى تراجعت الدبابات التي كانت تحاصر مطار أتاتورك في إسطنبول، وكذلك في ساحة تقسيم، ومن أمام مقرّ قيادة الشرطة، فيما كانت القوى الرافضة للانقلاب، وخصوصاً وحدات الشرطة الخاصة، وقوات مكافحة الشغب، وقوى الأمن الأخرى، تقوم باقتحاماتٍ منظمة لمواقع سيطر عليها الانقلابيون في أنقرة، وخاضت معهم معارك، انتهت بالسيطرة على الأوضاع، واعتقال عديدين من منفذي المحاولة الانقلابية الفاشلة ومخططيها.
وظهر للعالم أجمع، أن الشعب التركي واجه قوات الانقلابيين وأسلحتهم بصدورٍ عارية، وبطريقة سلمية، وساهم في إفشال محاولتهم، وأنه لم يسمح لهم بالنيْل من التجربة الديمقراطية التركية، على الرغم من ادعاء بيان الانقلابيين الحرص على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وعلمانية الدولة، الأمر الذي عنى أن الشعب التركي لم يستجب لادعاءات الانقلابيين، وأن ذاكرته ما تزال تحفظ حجم المعاناة التي ذاقها من سطوة العسكر الانقلابيين على حياتهم ومعيشتهم.
وما يسجّل، أيضاً، أن أحزاب المعارضة التركية اتخذت مواقف تاريخية، برفضها المحاولة الانقلابية الفاشلة، حيث ذكّر زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، أن “تركيا عانت من الانقلابات كثيراً وستدافع عن الديمقراطية”، معلناً وفاءه للجمهورية والديمقراطية، ودفاعه عنها حتى النهاية، وأيّد نزول الشعب إلى الميادين، للوقوف في وجه الانقلاب.
وفي السياق نفسه، أعلن زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، أن بلاده تواجه “انقلاباً حقيقياً”، وأنهم لن يسمحوا “بأي نشاط يجلب الضرر لديمقراطيتنا”، معتبراً أن الحكومة التركية منتخبة من المواطنين، وتمثل إرادة الأمة”، وتوعد “الذين حاولوا الانقلاب بأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لفعلتهم”. ورفض حزب الشعوب الديمقراطي المحاولة الانقلابية.
يضاف إلى ذلك كله أن شخصيات حزب العدالة والتنمية التي لم تعد في الحكم، كالرئيس السابق عبد الله غل، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، وسواهما، وقفت بقوة وحزم إلى جانب الحكومة، ورفضت أي مساس بالمسار الديمقراطي التركي، فضلاً عن وقوف كل وسائل الإعلام تقريباً، الموالية والمعارضة، إلى جانب الحكومة والديمقراطية، وكذلك وقف مثقفون وساسة أتراك كثيرون الموقف نفسه.
شكلت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة حدثاً مفصلياً في تاريخ الجمهورية التركية، وفي مسار الديمقراطية التركية خصوصاً، والتجربة التركية عموماً، وسيكون لها ما بعدها، حيث أنها ستولّد مفاعيل وإرهاصات متعدّدة، إن من جهة تصحيح مسار الممارسة الديمقراطية، وتلافي النواقص والأخطاء، أم من جهة التمعّن في دور الجيش التركي في الحياة العامة، وإعادة النظر فيه، بما يفضي إلى إتمام عملية إنهاء أيِّ دورٍ سياسي للمؤسسة العسكرية التركية، والتحول إلى مهمته الأساسية في حماية الشعب والجمهورية، وفق قواعد مهنية، توجه مهامه في حماية الممارسة الديمقراطية.
وإن كان ما يزال في صفوف الجيش التركي من يعتبر نفسه وريث التقاليد الأتاتوركية وقيمها، والقوة القائدة للدولة والمجتمع، أي المسؤول عن حماية الدولة العلمانية التركية، والشريك الأساسي في تجربة التحديث التي قادها مصطفى كمال أتاتورك منذ 1923، فإن هذا الدور انتهى. وليست تركيا اليوم هي نفسها تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، فقد أطاح الجيش التركي أربع حكومات مدنية، منذ ستينيات القرن العشرين المنصرم، وصولاً إلى تولي حزب العدالة والتنمية الحكم التركي في عام 2002، عبر صناديق الاقتراع، وبالتالي، حان الوقت كي يعود الجيش بشكل نهائي إلى ثكناته، أي إلى مكانه الطبيعي.
عمر كوش
صحيفة العربي الجديد