بالنسبة إلى معظم الناس الذين وُلدوا في تركيا أو يدرسون شؤون البلاد، شكّل المشهد في أنقرة الصورة الأصعب على التحمل من ضمن الأحداث الأخيرة في البلاد. فهذه المدينة لم تتعرض لهجوم أو احتلال منذ القرن الخامس عشر، وها هي تتعرض للقصف من الأتراك أنفسهم. وفي النهاية، أثبتت مؤامرة 15 تموز/ يوليو أنها عبارة عن انقلاب مزيف. فعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تبدو المحاولة وكأنها انقلاب كامل قام به كبار ضباط الجيش، إلا أنها كانت في الحقيقة عبارة عن انتفاضة قامت بها فصائل داخل الجيش. فلم يشارك فيها سوى ما يقرب من 20 في المائة من الجنرالات في البلاد، وكانوا يأملون في حشد كتلة كبيرة كافية من كبار الضباط للقيام بانقلاب كامل بعد ذلك، لكنهم افتقروا إلى الدعم الواسع النطاق. فقد كان الدعم الكبير الوحيد الذي حصلوا عليه هو من القوات الجوية وقوات الدرك، في ظل غياب دعم حقيقي في صفوف الجيش، الذي يشكل 65 في المائة من القوات المسلحة. وفي الواقع، بدأت مؤامرتهم الشريرة تتكشف عندما ظهر قائد الجيش الأول على شاشة التلفزيون وصرّح أن “ما نشهده ليس انقلاباً“.
أما فشل المؤامرة فيعود جزئياً إلى تخطيطها بشكل سيئ. على سبيل المثال، تم تنفيذها في تمام الساعة العاشرة ليلاً عندما كان الجميع في الشوارع، بدلاً من القيام بها بعد منتصف الليل، وهو الوقت الذي عادة ما يتم فيه تنفيذ الانقلابات. فعندما أدرك المتآمرون أن المخابرات التركية كشفت خططهم، شنوا الانقلاب في غير وقته [الملائم]، مما أدى إلى انهياره.
إلى جانب ذلك، فشلت الخطة لأن القوى الداعمة للرئيس رجب طيب أردوغان كانت قوية جداً. والحمد لله أن محاولة اغتياله قد فشلت بعد أن أبلغته الاستخبارات عن المؤامرة. وكان قادراً ايضاً على التواصل مع الجماهير وحشدهم للتحرك أيضاً. أما المتآمرون فقد استولوا على محطة “تي آر تي” الرسمية، التي ليست من أكثر الشبكات مشاهدة في البلاد. من جهته، رد أردوغان من خلال الظهور على شبكة “سي أن أن” التركية عبر برنامج “فيس تايم” ودعا أنصاره إلى النزول بقوة إلى الشوارع. وفي الوقت نفسه، بقيت الشرطة الوطنية موالية للرئيس ومنعت قوات الدرك من مغادرة ثكناتها، مما مكّن الجماعات المسلّحة الموالية للحكومة من أن تتفوق بعديدها على القوات المؤيدة للانقلاب. إضافة إلى ذلك، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالرسائل المناهضة للانقلاب، وأظهرت عملية حشد الجماهير المؤيدة لأردوغان انتصار العصر الرقمي على الانقلاب بشكله المعتاد. ومن المفارقات أن وسائل التواصل الاجتماعي التي أنقذت أردوغان، هي نفسها التي كان يحاول حظرها.
لقد كان من الممكن أن يكون الانقلاب سيئاً للأتراك، بغض النظر عن نتيجته. ويقيناً أنه لو نجحت المؤامرة لكان الوضع أسوأ، إذ كان بالإمكان أن تصبح تركيا دولة أكثر قمعاً يديرها الضباط، بل وربما تنزلق إلى حرب أهلية. ولكن حتى مع فوز أردوغان الظاهر، ستصبح تركيا أكثر قمعاً. ففي أعقاب هذا الهجوم ضد النظام الدستوري، يمتلك الرئيس الآن تفويضاً مطلقاً لقمع المعارضة. فمنذ عام 2003، يبني أردوغان لنفسه هالة من التمجيد على أنه زعيم استبدادي مستضعف، مصوراً نفسه كضحية اضطرت لاتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين يتآمرون لتقويض سلطته. أما الآن، فقد أصبحت نظرية المؤامرة هذه واقعاً محتملاً، ومن وجهة نظر أردوغان وأنصاره، تعني معارضة الرئيس بالفعل التخطيط للانقلاب.
ومن بعض النواحي، من المرجح أن يكون رد أردوغان على المؤامرة شبيهاً برد الولايات المتحدة على تنظيم «القاعدة»، إلا أنه قد يوسع نطاق هذا الرد ليشمل مجموعة كبيرة من الأطراف عبر استهداف الليبراليين ومؤسسات المجتمع المدني، وفصائل المعارضة الديمقراطية التي لم تكن مرتبطة بالانقلاب، وذلك على الرغم من حقيقة أن جميع الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام التركية، إلى جانب العديد من المنظمات غير الحكومية و”جمعية رجال الأعمال والصناعيين التركية” (“توسياد”)، كلها أطراف وقفت ضد هذه المؤامرة منذ البداية. (وعلى الرغم من أن أردوغان ربما يكون قد اعترف بهذا الولاء، إذ تمت دعوة رئيس حزب المعارضة الرئيسي مؤخراً للظهور عبر شاشة “تي آر تي” للمرة الأولى منذ ست سنوات، بيد أنه لا يزال يتكلم بصيغة خطابه الانقسامي “نحن ضدهم)“.
وفي المرحلة القادمة، سيستخدم أردوغان هذه الفرصة لتوسيع سلطته، ساعياً لأن يصبح رئيساً للحكومة بالإضافة إلى احتفاظه بمركزه الحالي كرئيس للدولة. وهذا من شأنه أن يسمح له بأن يصبح الشخص الأكثر نفوذاً في تركيا منذ عهد كمال أتاتورك. ولكن حتى مع كونه عبارة عن أتاتورك جديد، لن يحظى سوى بدعم نصف البلاد، وبالتالي فإن مخاطر عدم الاستقرار الداخلي ستكون مرتفعة في الأشهر المقبلة.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن العلاقات التركية مع الولايات المتحدة قد تصبح أكثر تعقيداً. وستتجلى القضيتان الثنائيتان الأكبر في “حركة غولن” وعضوية “منظمة حلف شمال الأطلسي” (“الناتو“).
وبالنسبة للمسألة الأولى، يعتقد أردوغان أن الحركة، التي يتزعمها الداعية التركي فتح الله غولن الذي يعيش في الولايات المتحدة كمقيم دائم، هي التي كانت بشكل مطلق وراء مؤامرة الانقلاب. وبالتالي، ستضغط أنقرة بشدة لتسليمه، وسيتعيّن على واشنطن أن تأخذ هذا الطلب بعين الاعتبار بشكل وافٍ وسريع. وفي الوقت نفسه، يتوجب على الرئيس التركي ألا يربط ما بين هذه القضية وبين التعاون العسكري ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإذا حاول أن يُعطي الولايات المتحدة إنذاراً نهائياً، سيأتي ذلك بنتائج عكسية.
أما بالنسبة إلى “حلف شمال الأطلسي”، فإن الجو السائد حالياً في أنقرة قاتم وقلق ومشحون، حتى أن البعض يدّعي بأن الولايات المتحدة كانت وراء الانقلاب لأن غولن يعيش على أراضيها. وبالتالي، وللمرة الأولى في التاريخ الحديث، يشكك بعض الأتراك بجدية بعضوية بلادهم في “حلف شمال الأطلسي”. وإذا لم تقنع واشنطن تركيا بالتزامها بالتعاون في قضية غولن، يمكن أن تحوّل أنقرة اهتمامها بسرعة نحو روسيا، وهي فكرة واقعية نظراً إلى أنه من المقرر أن يجتمع أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأسبوع الأول من آب/ أغسطس.
حتى الآن، يُعتبر أردوغان المنتصر رقم واحد في أعقاب محاولة الانقلاب. إذ اكتسب قوة هائلة في صفوف مجموعة السكان التي تناصره وحقق مكانة أسطورية حين نجا من الاغتيال. من هنا، ستكون الخطوات التي يتخذها الآن مدفوعة برغبة مزدوجة تقوم على منع حدوث المزيد من المؤامرات وعلى توسيع سيطرته.
وفي هذا الإطار، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة قد تساعد في تفسير منهجية أردوغان في أعقاب الانقلاب. أولاً، “حركة غولن” منتشرة على نطاق واسع في صفوف الشرطة والقضاء وقد تتمتع بنفس الانتشار في الأوساط البيروقراطية، إذ من الصعب تحديد مدى انتشار شبكة هذه الحركة التي هي أشبه بطائفة دينية يصعب اختراق صفوفها. بناءً على ذلك، قد تملك الحكومة مبرراً حقيقياً لإلقاء القبض على أكبر عدد من الناس المحتجزين. أما البديل الثاني، فهو الذي يقول بأن الحركة متورطة في الانقلاب، ولكن الحكومة توسع إطار ردها إلى حد كبير من أجل تطهير كل من يعارض الرئيس. والسيناريو الثالث يقول إن غولن لم يشارك في المخطط، وإن أردوغان يعتبر محاولة الانقلاب على أنها مجرد “هدية من السماء” (كما وصفها في اليوم التالي) تمنحه العذر الذي يحتاجه لتطهير البيروقراطية وتوسيع سلطته.
وأياً كان الأمر، فإن استجابة أنقرة ستخلق مشاكل كبيرة في العلاقات مع الولايات المتحدة. فتركيا هي بالفعل مجتمع فيه أقطاب منقسمة، وهذا الانقسام سيتسع بصورة أكثر. وستؤدي الاضطرابات الداخلية إلى تراجع الوضع الاقتصادي التركي على المدى القصير، وبما أنه يتم التشكيك في سيادة القانون واستقلال القضاء، فإن الآفاق الاقتصادية على المدى الطويل ستتضرر أيضاً. أضف إلى ذلك أن انتهاكات حقوق الإنسان ستزيد من توتر العلاقات الثنائية بين البلدين، وستجد واشنطن نفسها مضطرة لإدانة انتهاكات أردوغان للحريات الديمقراطية.
ومع ذلك، كان يمكن أن يكون الوضع أسوأ من ذلك لو نجحت عملية الاستيلاء العسكري على السلطة. وخلافاً للانقلاب الذي تم في عام 1980، فحتى الناس الذين يعارضون حكومة أردوغان لم يريدوا التدخل العسكري. بالإضافة إلى ذلك، فإن نصف السكان يدعمونه بقوة وكانوا سيقاومون لو تولى الجيش السلطة. كما أن السيناريو الناتج عن ذلك كان يمكن أن يكون أشبه بالحرب الأهلية السورية أكثر من تشابهه مع انقلاب عام 1980.
وحتى الآن، عالجت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الوضع بشكل جيد، ولكن كل يوم سيطرح تحديات جديدة. فتركيا بلد يلعب دوراً هاماً في الاستقرار الإقليمي والسلم الدولي، لكن لدى الحكومة الأمريكية خيارات محدودة في الوقت الراهن. أي أنه سيتعين على واشنطن أن تكون منفتحة جداً وصريحة في الدفاع علناً عن قيمها، ولكن اعتماد هذا الموقف وإقناع تركيا على اتخاذه سيكون أكثر صعوبة. فالمجتمع التركي يتمتع بتاريخ طويل من إلقاء اللوم على واشنطن في مشاكله، ولكن نظريات المؤامرة المستمرة حول التدخل الأمريكي في الانقلاب قد تدفع بالولايات المتحدة بعيداً أكثر من اللازم [عن تركيا].
إن القضية الأكثر إلحاحاً هي مسألة تسليم غولن. وبشكل عام، تشمل عملية التسليم في الولايات المتحدة ثلاث خطوات: (1) مراجعة الإدارة الأمريكية الطلب للتأكد من أنه يلبي متطلبات المعاهدة الثنائية، (2) معالجة المحاكم الأمريكية القضية وفقاً للنظام القانوني الأمريكي، (3) إرسال الشخص إلى البلد المطالب به لمحاكمته وفق النظام القانوني لهذا الأخير. ويتجلى التحدي الذي تواجهه واشنطن في قضية غولن في أن السلطات التركية كانت تتعامل بتهور مع سلطة نظام المحكمة فيها، الأمر الذي قوّض من شرعية طلبات التسليم. وحتى لو كان الطلب شرعياً على الورق، إلا أنه سيتوجب على المحاكم الأمريكية والمسؤولين في الإدارة الأمريكية النظر في ما إذا كان غولن سينال بالفعل محاكمة حرّة في حال تم تسليمه إلى تركيا. ومن منظور السياسات العامة، قد يكون من الأفضل أن تضع الإدارة الأمريكية مخاوفها جانباً وأن تحيل هذه القضية إلى المحاكم ليتوصل النظام القضائي إلى قرار. ففي هذه المرحلة الدقيقة من العلاقات مع هذا الحليف الهام، يجب على السياسة الواقعية أن تدير التعامل مع مثل هذه الأمور.
أويا أكتاس
معهد واشنطن