اجتاحت موجات الإرهاب المتتالية على امتداد الشهور الأخيرة العاصمة الفرنسية بضربات متتالية توحي بالاستهداف المتعمد والرغبة في ترويع الشعب الفرنسي حيث يسعى الإرهاب إلى أن يبعث برسالة عالمية عبر ما يقوم به في باريس، ولا شك في أن ما حدث في فرنسا يمكن أن يحدث في أية دولة أخرى سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة أو المشرق العربي والإسلامي، وربما كان المكان الوحيد الذي يتفادى تنظيم «داعش» الدخول إلى معتركه هو إسرائيل لأسباب ذات دلالات معينة وإشارات واضحة، ولكن يبقى السؤال معلقاً: لماذا فرنسا تحديداً؟ ولماذا يبدو بينها وبين الإرهاب ثأر قديم؟ إن الأمر يحتاج إلى الغوص في الملاحظات التالية:
أولاً: إن الجمهورية الفرنسية دولة ذات خصوصية دولياً حتى في إطار المنظومة الغربية بل وفي إطار الحضارة الأوروبية المسيحية، إذ إن لها حضوراً ثقافياً محسوساً وقدرة واضحة على التأثير في غيرها والرغبة في استيعاب من يقترب منها واحتواء المستعمرات التي كانت فيها، ويكفي أن نتذكر أن سنوات ثلاث هي عمر حملة بونابرت في مصر قد تركت لديها تأثيراً ثقافياً أكبر من تأثير سبعين عاماً للمستعمر البريطاني، فالفرنسيون يندمجون في الشعوب الأخرى ويتذوقون التاريخ ويعشقون الآداب والفنون ولهم باع كبير في الفلسفة والفكر، لذلك كان إسهامهم واضحاً في التيارات المختلفة التي ظهرت في العالمين العربي والإسلامي، وأتذكر الآن أيضاً أنه عندما سقط حكم «طالبان» في أفغانستان هرعت الدول الغربية لاستعادة سفاراتها في كابول، أما الحكومة الفرنسية فقد هرعت لتجديد مدرسة «الليسيه» هناك باعتبارها مظهراً حضارياً ومركزاً ثقافياً يسبق العلاقات السياسية، وهذه الفرادة للمكون الفرنسي جعلت الانفتاح عليه القادم من دول العالمين العربي والإسلامي أكثر من غيره.
ثانياً: إن خصوصية العلاقات بين فرنسا ودول شمال أفريقيا وما كان فيها من سياسة استغلال جعلت رواسب المراراة للعلاقات بين فرنسا وتلك البلاد تحمل روحاً عدائية تنشط بين حين وآخر من دول عربية مسلمة تعشق فرنسا بلداً وثقافةً ولكنها تعاديها تاريخاً وسياسةً، ولعل ذلك يفسر نوعية العمليات الإرهابية التي يقوم بها شباب من أصول مسلمة في الشمال الأفريقي، فالجزائريون لا ينسون مرارة الجرائم الفرنسية على أرضهم وتشاركهم في ذلك شعوب الجوار العربية في تلك المنطقة، فتاريخ المعاناة مع الاستعمار الفرنسي خلّف وراءه جزءاً من أسباب الظاهرة الإرهابية التي تستهدف الأراضي الفرنسية.
ثالثاً: إن وجود جالية إسلامية كبيرة فوق الأراضي الفرنسية تمثل شريحة مؤثرة في التركيبة السكانية للبلاد هو وضع يميز فرنسا وإلى حد ما بلجيكا أيضاً حيث يشكل عرب شمال أفريقيا نسبة كبيرة من تلك الجالية التي تحمل في أعماقها الموروث الثقافي لبلادها، حتى وإن «تفرنست» أو دفعت بأجيال جديدة من أبنائها الذين لم يعيشوا إلا في فرنسا، ولعل الإرهابي الذي قاد الشاحنة مقتحماً التجمع البشري في مدينة نيس هو نموذج لشاب فرنسي من أصول تونسية قام بفعلته بدافع الكراهية لبلد احتضنه، ولعل دراسة الدوافع النفسية لمثل هذه الجرائم الإرهابية تعكس درجة التناقض بين التكوين الذاتي الموروث لدى بعض عناصر الجالية والبيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة، إذ إن درجة التواؤم بين المسلم المتطرف والمجتمع الذي يعيش فيه هي تعبير واضح عن الاختلاف الثقافي بين الأطراف التي انطلقت من منابع بشرية مختلفة ولم تفلح الثقافة المشتركة في إحداث الاندماج الإنساني وخلق روح التسامح وإنهاء التعصب ومشاعر الكراهية الدفينة.
رابعاً: إن حادث مدينة نيس في عيد الثورة الفرنسية يبدو وكأنه رسالة رفض لمبادئ تلك الثورة من حرية وإخاء ومساواة، فضلاً عن أنه يبدو وكأنه يمثل رغبة دفينة في تحطيم مفهوم الدولة المدنية الغربية كما أرستها التقاليد الأوروبية، ولا شك في أن استهداف فرنسا في يوم عيدها هو إشارة سلبية إلى ما تؤمن به الجماعات المتطرفة وتعتنقه في شكل ملحوظ في العقود الأخيرة.
خامساً: إن تكوين الاتحاد الأوروبي ورفع الحدود بين دوله وسريان اتفاقية «شنغين» لعب بدوره تأثيراً واضحاً في سهولة الوصول إلى الأراضي الفرنسية من الدول المجاورة خصوصاً بلجيكا أو من شواطئها البحرية خصوصاً في جنوب فرنسا، فضلاً عن أن موقع فرنسا في مواجهة القارة الأفريقية والتواصل السهل مع بريطانيا علاوة على التقدم العلمي الهائل في تكنولوجيا المعلومات كل ذلك قد جعل الأمر سهلاً والطريق ميسوراً أمام أي مخطط إرهابي أو محاولة تسريب أسلحة إلى أراضيها، ولا ننسى أن الاهتمام الفرنسي بالقارة الأفريقية تحت مظلة «الفرنكوفونية» وخارجها قد أدى إلى درجة من التواصل والاندماج تزايدت مع مرور الوقت وتقادم الأحداث.
سادساً: إن الموقف الفرنسي في إنهاء نظام القذافي وتحريك قوات «الناتو» لضرب قواعد نظامه في الشمال الأفريقي قد أدت إلى إحساس عام بأن باريس مارست ذلك بروح الانتقام بعد أن استفادت كثيراً من القذافي وأمواله، وهو أمر كان له صداه لدى دول الجوار الأفريقية، فضلاً عن الدور الذي مارسه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في فترة معينة حتى أن الأقوال ترددت بأنه هو الذي أمر بقتل القذافي بعد أسره.
سابعاً: إن فرنسا التي دعمت البرنامج النووي الإسرائيلي وكانت «عراب» ذلك البرنامج في خمسينات القرن الماضي هي نفسها فرنسا التي وقفت زعامتها التاريخية بقيادة الجنرال شارل ديغول مواقف مشرفة تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي، ويكفي أنه هو القائد الأوروبي العظيم الذي أعلن أن بلاده ستمنع بيع السلاح عن الدولة التي تبدأ بالعدوان، وقد وفى الرئيس الفرنسي العملاق بذلك بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 وأعطى القرار الفرنسي درجة من الاستقلالية وخرج من عباءة الولايات المتحدة على نحو يذكر له حتى الآن، وعلى رغم ذلك كله فإن جزءاً من عداء بعض العناصر الإرهابية المتطرفة لفرنسا ينبع من شعور عام بأن الغرب المسيحي يدعم الدولة العبرية في كل الأحوال.
ثامناً: إن صدام الهوية الذي شهدته الدولة الفرنسية في السنوات الأخيرة خصوصاً ما يتصل منها بارتداء المرأة الفرنسية المسلمة الحجاب قد ترك أثراً سيئاً لدى عناصر الإسلام السياسي والقوى السلفية التي بدأت تشعر بأن الموقف الفرنسي يمثل تحدياً للمشاعر الإسلامية واستخفافاً بمظاهر الدين الإسلامي لدى الدولة الفرنسية، وقد لا تكون دوافع باريس معادية لروح الإسلام كديانة ولكن يبقى من حقها أن تحدد المظهر العام وفقاً لهويتها الثقافية وتقاليدها الحضارية.
تاسعاً: إن الشعب الفرنسي إنفعالي بطبعه يؤمن إيماناً مطلقاً بالحرية فهو الشعب الذي أعدم الملك وأقام الجمهورية واستقبل كل أصحاب الفكر من أنحاء العالم عبر عصوره المختلفة. أليس هو الشعب الذي استقبل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقبلهما البعثات التعليمية لمحمد علي مؤسس مصر الحديثة. إن باريس هي العاصمة الأوروبية الكبرى التي تزين واحداً من أكبر ميادينها مسلة فرعونية مصرية إحساساً بالاندماج الثقافي واحتراماً للتراث الإنساني، وهي عاصمة منظمة «اليونيسكو» التي تعنى بقضايا التعليم والتربية والثقافة في عالمنا المعاصر، وذلك أمر يضع على كاهل الفرنسيين مسؤولية التصدي للعناصر المتطرفة.
عاشراً: إن أجهزة الأمن الفرنسية ليست الأولى في أوروبا بل إن هناك شائعات قوية حول ضلوعها في بعض الجرائم السياسية الكبرى وفي مقدمها جريمة اغتيال المهدي بن بركة في منتصف ستينات القرن الماضي، لذلك فإن الحكومة الفرنسية وأجهزتها المختلفة لا تبدو بريئة أمام الرأي العام الإسلامي من جرائم حدثت في العقود الأخيرة.
هذه مكونات مختلفة للعقل العربي الإسلامي في هذه المنطقة من العالم ساهمت في مجموعها في تكوين صورة فرنسا لدى معتنقي التيار الإسلامي المتطرف فضلاً عن قدرتها على تشكيل تلك الصورة الذهنية لدى الكثيرين عن بلد الحريات التي لم تلتزم بها وإن دافعت أحياناً عنها. إن الإرهاب يضرب حيث يستطيع ولا يتورع عن ارتكاب جرائمه من دون إحساس بالمسؤولية الإنسانية أو شعور بأهمية الحفاظ على الأرواح البريئة واحترام اختيارات الآخر وثقافة الغير، ويبدو أن على فرنسا أن تكون مؤهلة لصراع طويل قد يمتد إلى سنوات مقبلة ما دام الإرهاب يطل برأسه ولا يتورع عن ترويع الآمنين وتمزيق أواصر الصلة بين البشر مهما اختلفت أعراقهم ومعتقداتهم ومظاهر حياتهم.
مصطفى الفقي
صحيفة الحياة اللندنية