لا يبدو ذلك، فهو انقلابٌ صمّم وأعدّ بطريقةٍ لا تسمح له بالفشل، سواء في ساعة التنفيذ أو عقب إحباطه “المؤقت”، فمن يلحظ ويراقب التصريحات والمواقف الصادرة عن دول الغرب وأميركا حيال ما يجري في تركيا، عقب الانقلاب، يدرك جيداً أن الانقلاب مازالت له صفحات أخرى، سيحتاج إلى أيام أو ربما أشهر، أو حتى سنة كاملة، ليقرأها على مسمع الأتراك أولاً، ومن ثم على مسمع العالم.
كان الأتراك يقضون ليل جمعتهم في الحدائق والمتنزهات، وبين الأسواق القديمة، ومعهم ملايين السياح عرباً وأجانب، فغدا السبت عطلة نهاية الأسبوع، ولا أحد سيذهب إلى بيته باكراً، توقيت أسهم كثيراً في إفشال خطة الانقلاب بمرحلتها الأولى، خصوصاً بعد أن اضطر الانقلابيون إلى تقديم ساعة “صفرهم”، فبدلاً من الثالثة فجراً والناس نيام إلى التاسعة مساء والناس في أوج سهرتهم تلك، فالجموع التي لبت نداء الرئيس، رجب طيب أردوغان، أسهمت فعلياً في إحباط الانقلاب بمرحلته الأولى، والقضاء على مستقبلٍ كان يكشر أنيابه، ليس للأتراك وحسب، وإنما للعرب ولكل دول المنطقة، فالانقلاب لم يكن تقليدياً، هذه المرة، فهو ليس بين قوةٍ عسكريةٍ تسعى إلى الحكم عبر إزاحة سلطةٍ مدنيةٍ، وإنما هي قصة أعقد بكثير.
صمّم الانقلاب، لتكون نسبة الفشل فيه صفراً في المائة، وليس كما يعتقد بعضهم أن الانقلابيين هواة، فعمليات القتل والدهس والقصف الجوي بالطائرات ومحاصرة المناطق الحساسة في إسطنبول وأنقرة وحجم المشتركين فيه، كلها تشي أنه انقلاب عالي المستوى والتخطيط، إلا أن ذلك لا يعني أنه يجب أن ينجح، فتقديم ساعة الصفر والفشل، في اعتقال أردوغان أو قتله، ومن ثم خروجه بمكالةٍ “فيس تايم”، كلها أسبابٌ أسهمت في إجهاض المحاولة.
الخطر الآن هو في الصفحة الثانية من الانقلاب، فالمؤامرة التي خطّط وحيك لها، على مهل وبتأنٍّ منقطع النظير بين عواصم غربية عدة، وربما حتى عربية، لم تنته، ومخطئ من يعتقد أن تركيا نجت من الأسوأ، خصوصاً مع النبرة العالية التي باتت تتحدّث بها عواصم غربية حيال ما طبّقته الحكومة التركية من إجراءاتٍ، ومنها فرض حالة الطوارئ ثلاثة أشهر، والسعي إلى إعادة عقوبة الإعدام بحق الانقلابيين.
مخطئ من يعتقد أن محاولات الغرب لإجهاض التجربة التركية ستتوقف، بعد هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، فالغرب منزعج جداً من النبرة العالية التي بات يتحدّث بها معهم وجه تركيا السياسي، سواء أكان هذا الوجه أردوغان أو رئيس وزرائه، بنعلي يلدرم.
الغرب منزعج من أن التجربة الديمقراطية التركية أنتجت نظاماً يدافع عن قضايا العرب والمسلمين، بل ويسعى إلى عودة الأتراك إلى جذورهم الإسلامية، وهو أمر طالما وكّل فيه الجيش التركي لسحق كل محاولةٍ من هذا القبيل، وتاريخ انقلابات الجيش على النظام المدني في تركيا شاهد على ذلك.
ربما كان الحال، هذه المرة، مختلفاً، فتركيا الجديدة أو الأردوغانية، كما يحلو لبعضهم أن يطلق عليها، باتت فعلاً مختلفة، فالشعب الذي خرج إلى الساحات العامة والميادين لم يكن إسلامياً ولم يكن علمانياً، بل كان شعباً تركياً، يدرك جيداً ما معنى أن يحدث انقلابٌ في بلده، شعب وقف بأجساده أمام الدبابات، وتلقت صدور شبابه الرصاصات القاتلة.
ربما ستكون المرحلة المقبلة الصفحة الأخطر في كتاب الانقلاب التركي، فالإجراءات التي اتخذتها الحكومة حيال الانقلابيين، وجماعة فتح الله غولن أو ما تعرف بالكيان الموازي، ستكون ذريعة الغرب للتدخل في تركيا، أو حتى المساومة، وهو ما يجب أن تتنبه إليه أنقرة جيداً.
الأمر الآخر أن على أنقرة أن تهاجم، وأن لا تكتفي بالدفاع حيال إجراءاتها التي اتخذتها بحق الانقلابيين، خصوصاً وأن المعلومات المتوفرة توضح أن لدى أنقرة أدلة على ضلوع عواصم غربية، وغير غربية، بالمحاولة الانقلابية، وأن هذه الأدلة يجب أن تكون ورقة الضغط التركية حيال كل من يسعى إلى التدخل بالشأن التركي.
تركيا اليوم بحاجة إلى أن تعيد ترميم جيشها فعلاً، فعلى الرغم من الإجراءات التي قام بها حزب العدالة والتنمية، منذ اعتلائه الحكم قبل نحو 15 عاماً، إلا أن الجيش التركي مازال يمثل الخطر الأكبر على أي نظام ديمقراطي حر في تركيا. كما أن على تركيا أن تخرج من دائرة السعي وراء الاتحاد الأوروبي، بعد أن تبيّن، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأوروبيين جعلوا من هذه الرغبة التركية سبباً يخوّلهم بالتدخل في قضايا تركية عديدة.
تركيا اليوم دولةٌ كبيرةٌ، بشعبها واقتصادها الناهض، وقادرة على أن تلعب دوراً أكبر في مختلف الملفات الحساسة في المنطقة، شرط أن تعيد ترتيب بيتها الداخلي، وتحديداً، في ما يتعلق بالعلاقة بين الشعب والجيش من جهة، وبين الجيش ونظام الحكم من جهةٍ أخرى، وهو ما يبدو أن النظام الحاكم في تركيا اليوم يسعى إليه عبر الإعلان عن إعادة هيكلة الجيش واتخاذ إجراءاتٍ عديدة، من شأنها أن تقوي النظام المدني على حساب قوة الجيش التي مازال عديد من مفاصلها غير متحمسٍ لتجربة الحكم الحالية في تركيا.
إياد الدليمي
صحيفة العربي الجديد