يبدو أن الأهداف التي تسعى تركيا إلى تحقيقها من خلال تقاربها مع روسيا عقب التوتر الذي اتسمت به العلاقات بين الطرفين منذ نوفمبر 2015، لا تقتصر فقط على رفع مستوى التعاون الاقتصادي من جديد، وإنما قد تمتد أيضًا إلى ممارسة مزيدٍ من الضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الاستجابة لمطالبها بتسليم زعيم حركة “خدمة” فتح الله جولن، الذي تتهمه بأنه المسئول عن تدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التي قامت بها مجموعات من الجيش في 15 يوليو 2016. ومع ذلك، فإن هذا التحول الملحوظ في السياسة التركية تجاه روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ربما يفرض تداعيات سلبية عديدة ترتبط بسياستها تجاه الأزمة السورية، والحرب ضد تنظيم “داعش”.
تمهيد مسبق:
بدأت تركيا في الاستعداد للقاء المتوقع بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فيلاديمير بوتين في 9 أغسطس المقبل في مدينة سان بطرسبرج؛ حيث تجري في الوقت الحالي مفاوضات بين مسئولين روس وأتراك في موسكو، بهدف إعادة العلاقات الاقتصادية بين الطرفين إلى مرحلة ما قبل نوفمبر 2015.
ومن دون شك، فإن تركيا تسعى من خلال الإسراع في اتخاذ خطوات إجرائية في هذا السياق، إلى رفع عدد السائحين الروس إلى تركيا خلال الفترة القادمة، بشكل يمكن أن يساعدها على تقليص التداعيات التي فرضتها محاولة الانقلاب الفاشلة على الاقتصاد. فبصرف النظر عن فشل تلك المحاولة، فإنها طرحت دلالة مهمة تتمثل في أن تركيا ربما تكون مقبلة على مرحلة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي، نتيجة وقوع عملية الانقلاب، فضلا عن تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة. ومن هنا، فإن توقيع مزيد من الاتفاقيات الاقتصادية مع روسيا، بالإضافة إلى رفع عدد السائحين الروس إلى تركيا؛ ربما يُمثّل آلية مهمة لمواجهة التداعيات الخاصة بتصاعد حدة الاضطراب وعدم الاستقرار في تركيا خلال الفترة الأخيرة.
تحذيرات ضمنية:
لكن الأهم من ذلك، هو أن تركيا ربما تتجه إلى استثمار تحسن علاقاتها مع روسيا خلال الفترة الأخيرة من أجل تصعيد حدة الضغوط التي تفرضها على الولايات المتحدة الأمريكية بهدف تسليم فتح الله جولن، وذلك في إطار السياسة التي بدأت تتبناها في مرحلة ما بعد وقوع عملية الانقلاب، والتي تُشير إلى أنها لم تعد تَفْصل بين استضافة الولايات المتحدة الأمريكية لجولن وبين العلاقات القوية التي يؤسسها الطرفان.
ومن هنا، أشارت اتجاهات عديدة إلى أن الإجراءات التي اتخذتها تركيا خلال فترة وقوع الانقلاب كان الهدف منها هو توجيه تحذيرات ضمنية لواشنطن بأن بقاء جولن على أراضيها ربما يؤثر سلبيًّا ليس فقط على العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين، ولكن أيضًا على مستوى مشاركة تركيا في الحرب التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”؛ حيث قامت القوات التركية بمنع الدخول والخروج من قاعدة “إنجيرليك” الجوية التي تنطلق منها الهجمات الجوية التي يشنها التحالف ضد مواقع وعناصر تنظيم “داعش”، وقطع الكهرباء عنها.
ومن دون شك، فإن مسارعة أنقرة إلى اتخاذ خطوات إجرائية لاستعادة العلاقات القوية مع روسيا تصب في الاتجاه ذاته، إذ أنها توجه إشارات ضمنية إلى واشنطن بأن عدم تجاوبها مع المطالب التركية قد يدفع الأخيرة إلى تقليص معارضتها للسياسة التي تتبناها روسيا في سوريا، وهو ما يُمكن أن يضعف من قدرة واشنطن على ممارسة مزيد من الضغوط على موسكو من أجل تغيير سياستها في سوريا باتجاه التوافق على أهمية خروج الأسد من السلطة، باعتبار أن ذلك يُمثل الآلية الأساسية للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
وربما تستخدم تركيا علاقاتها مع إيران والتغير المحتمل في سياستها إزاء النظام السوري، بعد ظهور تقارير عديدة تُشير إلى إجراء مفاوضات بين مسئولين أتراك وسوريين إما في طهران أو في الجزائر، في سياق محاولتها ممارسة ضغوط على واشنطن لتسليم جولن، على اعتبار أن عزوف الأخيرة عن اتخاذ تلك الخطوة من شأنه دفع أنقرة إلى اتخاذ مزيدٍ من الخطوات باتجاه المحور الذي تقوده روسيا، والذي يضم إيران والنظام السوري وحزب الله اللبناني.
تداعيات محتملة:
لكن هذه الخطوات والتحذيرات الضمنية قد تفرض تداعيات محتملة لا تتوافق مع المصالح التركية؛ إذ إن ذلك سوف يؤثر سلبيًّا على العلاقات بين تركيا وقوى المعارضة السورية التي كانت تسعى إلى الحفاظ على الدعم التركي المتواصل لها، باعتبار تركيا تمثل ظهيرًا إقليميًّا مهمًّا، سواء في المواجهات المسلحة أو في المفاوضات مع النظام.
وبعبارة أخرى، فإن اتجاه أنقرة إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات باتجاه تحسين علاقاتها مع روسيا، وهو ما يبدو جليًّا في إعادة تأكيد المسئولين الأتراك على أن قرار إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015 اتُّخذ بشكل فردي من جانب الطيار التركي الذي تم اعتقاله بعد فشل محاولة الانقلاب الأخيرة، فضلا عن انشغالها بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية، سواء فيما يتعلق بإعادة هيكلة القوات المسلحة من جديد لإضعاف احتمالات حدوث انقلاب عسكري جديد، أو فيما يرتبط باستكمال الإجراءات الخاصة بتعزيز سلطات الرئيس التركي من خلال تحويل النظام التركي من برلماني إلى رئاسي، سوف يؤدي، في الغالب، إلى تراجع الدعم التركي لقوى المعارضة السورية بشكل سوف يؤثر بالطبع على قدرتها على تحقيق انتصارات نوعية على الأرض، وسيضعف من موقعها في المفاوضات المقبلة مع النظام السوري، التي ربما تُعقد خلال الفترة القادمة.
كما أن تصاعد حدة التوتر مع واشنطن، ربما يدفع الأخيرة إلى رفع مستوى دعمها للميلشيات الكردية التي تشارك في المواجهات المسلحة مع تنظيم “داعش”، وهو ما يمثل أحد محاور الخلاف الرئيسية بين الطرفين، إلى جانب توجيه انتقادات قوية للإجراءات التي تتخذها أنقرة على الساحة الداخلية بعد فشل محاولة الانقلاب، وهو ما يبدو أن دولا أخرى قد تؤيده، على غرار الدول الأوروبية، التي تتصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع تركيا، بسبب اتساع نطاق الخلاف حول مشكلة اللاجئين.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن اتجاه أنقرة نحو رفع مستوى تعاونها الاقتصادي مع موسكو، وتقليص حدة معارضتها للدور الروسي في سوريا، قد يؤدي، على المدى الطويل، إلى توسيع نطاق خلافاتها مع قوى المعارضة السورية، وتعزيز دور الأكراد، سواء في الحرب ضد تنظيم “داعش”، أو في المرحلة الانتقالية التي ستعقب التوصل إلى تسويات للملفات الخلافية الأساسية في الأزمة السورية، وهو ما يمكن أن يفرض تهديدات جدية لأمن ومصالح أنقرة.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية