ليست جيوش داعش محملة بالقناصات والسيوف وحسب، فقد حشدت إلى جانب سبطانات وفوهات أسلحتها الموجهة، سبطانات وفوهات عدساتها لتصطاد أهدافها كذلك، ومع كل رأس تقطعه داعش،مشهد تقطعه لتعدله لتغسل به دماغًا آخر، ومع كل “بقاء وتمدد” واقعي تعلنه وتسعى له موقعة الضحايا، بقاء وتمدد سيبيري شبكي تصطاد به مزيدًا من الضحايا كذلك؛ في علاقة شبكية متداخلة بين “الواقع” و”الإعلام” -يكون به الواقع سببًا لإنتاج الإعلام حينًا، بينما يكون به الإعلام وسيلة لتغيير الواقع أو خدمته أو تغييره في أحيان أخرى.
في البدء أود التنويه إلى أنني عندما فكرت في كتابة المقالة قبل أيام، ولحسن حظي، وجدت أستاذنا حسن أبا هنية كتب مقالة في نفس السياق والموضوع، فأرجو أن تكون مقالتي هذه حاشية على متنه، ساعيًا ما استطعت أن تكون هذه المقالة محاولة لإكمال جهده الكريم، ومعتذرًا إن كنت قد كررت أو أخذت منه، وهو أستاذنا الذي نتعلم منه، في هذه المساحة وسواها.
وفي هذا الزمان الصوري الذي تحكمه هوليوود، فهمت داعش لعبة الإعلام بأركانه الثلاثة: تركيز الرسالة والخطاب، وتزيين العرض والمنتج، وتحديد الجمهور والهدف ثم اجتياحه؛ فاستطاعت الاستفادة منه أقصى الاستفادة، واستخدمته باحترافية ومستوى عال في كل مراحله؛ بدءًا بالخطاب وتحديد الجمهور واللغة المستخدمة، مرورًا بالإنتاج الفعلي (التصوير والمونتاج والطباعة… إلخ)، وانتهاء بالتسويق والنشر والدعاية، فاستطاعت بذلك الوصول إلى جمهورها المنشود واستقطابه حول العالم، وتخويف أعدائها وأصدقائها وسكان مناطقها على السواء، والاستفادة منه لعرض الواقع كما تريد وكم تريد، حتى استطاعت أن تصبح لغزًا ظاهرًا، يثير الأسئلة والفضول والخوف، مثبتة نفسها، إعلاميًا على الأقل، كحقيقة واقعة، باستخدام أجهزتها التي فرغتها لهذا الغرض بإدارة عالية وجدية كبيرة، وباستخدام أعدائها الذين استغفلتهم واستطاعت أن تجعلهم أبواقًا لها، بعلمهم وبجهلهم، بخبث عال.
ويمكن عرض إعلام داعش -بحسب أجزاء الإعلام الثلاثة- كالتالي:
أولًا: الخطاب واللغة والرسائل
يمكن فهم إعلام داعش من خلال فهم بنيتها، النفسية والنظرية والسياسية؛ إذ تركت هذه الأمور -متداخلة في كثير من الأحيان- آثارها في لغته وخطابه ورموزه، فكان إعلام داعش متسقًا ومتناسقًا بشكل كبير معها.
* نفسيًا: قام الباحثان حمزة المصطفى وعبد العزيز الحيص بإنجاز بحث بعنوان: سيكولجيا داعش, حاولا فيه عرض أمثلة من سيكولوجيتها ضمن ستة محاور: الذاتية، والتوحش، وتملك المكان، والرجل الصائب، وسجن الجماعة، ونزع القيمة من الضحية؛ ويظهر في أي رسالة من رسائل التنظيم -من تغريدة لأحد المناصرين، إلى فيلم لهيب الحرب السينمائي ذي الساعتين- أثر هذه النفسية في اللغة؛ إذ تراها مفعمة بالحدّة والملحمية والتكفير والتوحش والاستعلاء على الطرف الآخر، بينما تكون مليئة بالتبشير والنعيم وتضخيم الرموز حين توجه حديثها لأنصارها وجمهورها.
* نظريًا: بالنظر إلى الامتداد التاريخي الذي تستند عليه داعش لشكل الدولة، انطلاقًا من النصوص الإسلامية، ثم شكل الحكم السياسي من خلال الخلافة، ثم الاستناد للدولة الإسلامية -كمقابل للدولة المدنية بعد سقوط الخلافة بداية القرن العشرين-، ثم الاثر الوهابي على تكوينها، ثم الاطروحات النظرية في تنظيمها الأم، قاعدة العراق -التي كانت تستند إلى إدارة التوحش-، وبالتقاطع مع النفسية المذكورة أعلاه يمكن فهم الكثير من الخطاب الداعشي.
أساسيات الخطاب (“الخلافة”، و”الدولة الإسلامية”، والرمز الاستثناء الخليفة أبو بكر البغدادي، والناطق أبو محمد العدناني -اللذان تستند داعش إلى انتسابهما للرسول عليه الصلاة والسلام-)، وتغيير الأسماء إلى أبعادها التاريخية، ولاية بدل مدينة، ونينوى بدل الموصل مثلًا -أو الإسلامية- مثل عين الإسلام بدل عين العرب-، وعالمية الدولة وتجاوزها للحدود -كما ظهر في فيلم كسر الحدود-، ووصولًا إلى الخطاب البسيط، تصبح جميعًا نتائج واضحة وبسيطة عند النظر إلى هذا الأثر النظري.
* سياسيًا: بعد النفسية والنظرية، تسعى داعش لتثبيت نفسها كدولة، سواء لدى سكان مناطق سيطرتها، أو لدى الدول المحيطة والفصائل المقاتلة لها، أو لدى العالم بالنظر لها؛ فعملت على إيصال الرسائل التي تناسب كلًا من أهداف الإعلام لديها.
فلدى السكان، تسعى داعش لتكثيف خطاب الأمن والاستقرار والعدل من خلال الأفلام والتقارير والصور التي تصدرها -أو تسمح بإصدارها-، بينما تسعى لتثبيت نفسها كدولة من خلال إعلانها عن المؤسسات والعملة وتضخيم عملها الإداري، في وقت أكثر ما تركز به على انتصاراتها العسكرية، لأعدائها وجمهورها، واستخدامها كمقايلتها-مع الطيار معاذ الكساسبة بعد أن أسقطت طائرته- بجانب عرض انتصاراتها بطريقة سينمائية دورية، ضمن ما تحتاجه المعركة والحرب.
ثانيًا: الأدوات والمؤسسات
بتركيز داعش على الإعلام، استطاعت أن تنتج مؤسساتها الإعلامية القادرة على تحويل لغتها ورسائلها إلى أشكال وصيغ متنوعة وجاذبة، وإن كانت قد اختلفت في تصنيفاتها وتنوعت، لكن يجمعها جميعًا عدد من السمات المشتركة العامة نذكر منها:
– الاحترافية والجودة العالية: سواء من ناحية الأدوات (الكاميرات ومعدات الصوت وغيرها) أو من ناحية المستخدمين (التصوير والمونتاج والتسجيل والإخراج والتصميم)؛ إذ استطاعت الاستفادة من خبرات جنودها الذين أتوا يحملونها من كل أنحاء العالم.
– التخصصية والدقة: إذ تسعى لتركيز الرسائل، بحسب تصنيفها (مرئية أو مسموعة أو مقروءة)، وداخل هذا التصنيف تسعى لأن تكون أكثر دقة بحسب اللغة والمحتوى الذي تختص به (اجتماعي، عسكري، سياسي… إلخ).
– المؤسساتية: فمؤسسات داعش تعمل فعلا كمؤسسات، بمعنى أن المهام موزعة داخلها بدقة، ومدارة بتنظيم عالٍ، كخط إنتاج يبدأ من تحديد الحدث حتى نشره وتوزيعه، ولعل ذلك كان ظاهرًا من خلال بث خطبة البغدادي في الموصل، الذي استغرق أسبوعًا -بحسب ادعائها- بين الخطبة والنشر.
– اللامركزية المنضبطة: إذ تعطي حرية الإنتاج لكل مؤسسة أو ولاية، بجانب عدد من الإصدارات المركزية التي تصدر لتتحدث باسم الدولة ككل.
– ملحمية الأسماء: إذ إن مجرد المرور على أسماء المؤسسات (الحياة، الفرقان، دابق، أعماق) والإصدارات (لهيب الحرب، صليل الصوارم، فشرد بهم من خلفهم) يعطي شعورًا بالتوتر وجذب الانتباه لكثافة ما تحمله من رمزية عالية وارتباط تاريخي أو لغوي، مع لجوء الدولة لتغيير بعض الأسماء التاريخية والجغرافية لتتوافق مع رسالتها وأهدافها، خصوصًا في أسماء المدن.
أما أهم المؤسسات والأدوات الإعلامية لداعش، فسنحاول عرض أهمها مع وصف بسيط لكل مؤسسة وأهم الإنتاجات، بحسب نوع الإنتاج (مرئية، مسموعة، مقروءة):
* مؤسسات الإنتاج المرئي:
1- مؤسسة الفرقان: وهي أقدم مؤسسات الدولة وأهمها، ويبدو أنها تركز على تقديم الرسائل السياسية والعسكرية الرئيسة للدولة، فهي التي عرضت خطبة البغدادي، وذبح الرهائن، بالإضافة لسلسلتها المعروفة: صليل الصوارم التي أصبحت من خمسة أجزاء (بطول ساعة لكل جزء)، وإصدار “ولو كره الكافرون”.
2- مؤسسة الحياة: ويبدو أنها تركز أكثر على الجانب الاجتماعي للمدن التي تسيطر عليها؛ إذ تستهدف المشاعر والبعد الاجتماعي أكثر من سواها، فكان أبرز إصداراتها: كسر الحدود، وعدو من الداخل، كما كان الفيلم السينمائي “لهيب الحرب” صادرًا عن مؤسسة الحياة، وهي تمتاز عن سواها باختصاص إنتاج إصدارات اللغة الإنجليزية من خلالها.
3- مؤسسة الاعتصام: ويبدو أنها المؤسسة المسؤولة عن الإصدارات السريعة اليومية أو شبه اليومية، من خلال المقابلات والرسائل الدورية، وأبرز هذه الإصدارات هي سلسلة: من أرض الملاحم، التي وصلت حتى 50 إصدارًا حتى الآن.
بالإضافة لعدد من المؤسسات الأصغر والأقل تركيزًا وأثرًا، كما تواردت الأخبار عن نية الدولة الإسلامية فتح قناة فضائية خاصة بها.
* مؤسسات الإنتاج المقروء:
1- وكالة أعماق: وهي تقوم بدور وكالة الأنباء لتنظيم الدولة، من خلال عرض الأنباء العامة للدولة، في محاكاة للوكالات العالمية كرويترز وأسوشيتد برس وفرانس برس.
2- مكاتب الولايات الإعلامية: وهي مسؤولة عن الأخبار بالدرجة الرئيسة، مع اختصاصها ببعض الإصدارات الخاصة بعملياتها العسكرية في مناطقها، ولعل أبرزها في هذه الأيام هي “ولاية عين الإسلام” المسؤولة عن كوباني، و”ولاية نينوى” المسؤولة عن الموصل، و”ولاية البركة” المسؤولة عن الحسكة، و”ولاية الخير” المسؤولة عن دير الزور، و”ولاية الأنبار” و”حلب” و”صلاح الدين” وغيرها بحسب التوزع الجغرافي للدولة.
3- مجلة دابق: وهي المجلة الرئيسة للتنظيم باللغة الإنجليزية، وتنشر شهريًا (بحسب السنة القمرية)، وصدر منها حتى الآن ستة أعداد، كان آخر عدد منها من 64 صفحة عالية التصميم والمستوى، وكثيفة بالرسائل والمقالات والإعلانات والهجمات.
4- مؤسسة البتار: وتسعى لأن تكون الجناح الدعوي للدولة، من خلال تفريغ الرسائل المصورة لشكل مقروء، ونشر الإصدارات والنشرات الدعوية، مع بعض الإنتاجات المرئية.
* مؤسسات الإنتاج الصوتي:
1- مؤسسة أجناد: وهي المسؤولة عن إنتاج الأناشيد الجهادية للتنظيم، بما يتوافق مع أيديولوجيا الدولة، كان أبرز إنتاجاتها: أمتي قد لاح فجر.
2- إذاعة البيان: وهي إذاعة تبث على الإنترنت ومحليًا في الموصل.
وبجانب هذه المؤسسات المرتبطة التي تمثل -مع لا مركزيتها- الدولة رسميًا؛ إلا أن هناك جناحًا آخر شبه رسمي، يقوم به أبواق معروفون للدولة ومحسوبون عليها -لعل أبرزهم ترجمان الأساورتي على تويتر وقرين الكلاش الذي قتل في الغوطة-، الشبيه بدور الإعلام المصري للانقلاب -بمكانه وبسفاهته كذلك- بالإضافة للجناح اللارسمي النصير من الجماهير.
ثالثًا: التسويق والانتشار
استغلت داعش مؤسسات التواصل الاجتماعي بذكاء، واستخدمتها ضمن استراتيجيات مكنتها من الهيمنة عليها لبث إنتاجاتها ورسائلها، وخصصت بجانب الجيش الموجود على الأرض جيوشًا إلكترونية -تذكرنا بالجيش السوري الإلكتروني- للقيام بمهمة النشر الفيروسي على الإنترنت، ضمن شباب مختصين متفرغين لهذه الأمور بحسب المكان المستهدف (إذا أرادت استهداف سوريا استخدمت الفيس بوك؛ لأنه أكثر انتشارًا ورواجًا في سوريا عن طريق عناصرها السوريين لخبرتهم به، أما إذا أرادت استهداف الخليج مثلًا استخدمت عناصرها السعوديين عن طريق تويتر لنفس السبب)؛ إذ لا يقتصر مكان انتشارها ضمن “الهاشتاجات” و”الحسابات” المؤيدة للدولة، بل تعمل على هيمنة أي وسم أو هاشتاج أو حملة منتشرة -Trending-،ولو كانت تتحدث عن أرابز جوت تالينت على سبيل المثال!
جانب آخر تعمل عليه داعش في تسويقها هو استخدامها مواقع الأرشفة، قبل مواقع النشر والرفع والتواصل الاجتماعي، وترك المادة تتدفق وحدها ضمن التيار السيبيري وترفع أكثر من مرة من النصراء، فيضيع دم المادة الأصلي بين قبائل الناشرين من ناحية فيصبح من الصعب تحديد إحداثيات النشر الأولى، ولكي توفر لها قدرًا أكبر من الانتشار والتسويق والدعاية من ناحية أخرى.
ولعل أبرز هذه المواقع هي Justpaste.it المستخدم لاختصار النصوص الطويلة وتنسيقها وإدخال الصور عليها على تويتر، دون تحديد المستخدم، وArchive.org لنشر مقاطع الفيديو وأرشفتها قبل أن يقوم جيشها كدائرة أولى بنشر هذه المؤسسات، ثم يستقبلها النصراء ضمن قنواتهم وينشروها ضمن القنوات الأخرى، إلى أن تصل للأعداء الذين يعيدون نشرها ومناقشتها كذلك.
وتمثل الطريقة الأخيرة -استخدام الأعداء- آلية متبعة بذكاء وكثرة لدى داعش؛ إذ إن موادها هي مواد ذاتية التسويق؛ لأنها مثيرة للجدل ومنتظرة من العالم ككل من ناحية، ولأن الغرب يسعى لاستخدام داعش لأهدافه. وكان أبرز هذه الحالات هما الفيلمان الوثائقيان اللذان أنتجهما موقع VICE News، والصحفي الألماني يورغن تودنهوفر، من داخل أراضي داعش، بعد أخذ الإذن من الخليفة.
ولعل أفضل جمع وتلخيص لهذه المنظومة هو ما قاله أستاذنا أبو هنية في مقالته: “خلاصة القول إن الآلة الإعلامية لتنظيم الدولة تتمتع بقدرات تقنية فائقة وكفاءة كبيرة في التعامل مع العوالم الافتراضية والثورة الاتصالية وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد تمكن من تأسيس جيش إلكتروني ممتد، وبات لديه جهاز إعلامي متطور قادر على الدخول في أفق اللعبة الإعلامية واستثمار منصاته الإعلامية كآليات للتلاعب بالعقول من خلال الاستناد إلى صناعة زخم إعلامي للتنظيم، نجح في تصوير تنظيم الدولة الإسلامية كقوة عظمى لا يمكن كسر شوكته وهزيمته”.
ولا تذكر الأسماء والرمزيات التي تعتمد عليها داعش بشيء كما تذكر بأسماء الوزارات التي استخدمها جورج أورويل في روايته (1984)؛ إذ كان كانت وزارة السلام هي المسؤولة عن الحرب، كما أن مؤسسة الحياة هي المسؤولة عن إنتاجات قطع الرؤوس، وكانت وزارة الحب هي المسؤولة عن الفصل والكراهية كما كانت مؤسسة الاعتصام هي المسؤولة عن أخذ الشباب من بلدانهم؛ تاركة السؤال: هل ستنتهي رواية داعش باستسلام وينستن كما انتهت عليه (1984)؟ أم أن هذا الواقع الروائي لا زال قادرًا على كتابة نهايات أفضل تعيد للأسماء والأحلام معانيها الحقيقية؟ في سؤال موجه للسيوف والرشاشات، لا للأفلام والكاميرات.
نقلا عن التقرير