إيران التي دمرت عقول العراقيين بنواحها الطائفي خربت الجزء الأعظم من ذاكرة عاطفتهم، فلم يعد خيالهم قادرا على الخروج من قبر السيدة زينب باعتباره الشام كلها.
في ثمانينات القرن العشرين كانت الجثث تصل إلى بغداد من الشرق. اليوم صارت الجثث تصل من الغرب.
جثث الشرق كانت لجنود شباب قضوا دفاعا عن بوابة الوطن العربي الشرقية، حسب الروائي المصري جمال الغيطاني، أما جثث الغرب فإنها تعود لشباب قيل إن حماستهم الطائفية دفعتهم إلى القتال في سوريا دفاعا عن ضريح السيدة زينب، حسب قاسم سليماني.
في الحالة الأولى كان الجنود يُقتلون وهم في حالة دفاع عن الوطن، أما في الحالة الثانية فإن أفراد الميليشيات صارواُ يُقتلون دفاعا عن المذهب، وهو أمر يظل محل التباس.
فإذا كان العراق، في الحالة الأولى، قد تعرض للخطر وهو أمر مؤكد بسبب التهديـدات الإيرانية، فلا شيء يؤكد أن المذهب الشيعي يتعرض الآن في سوريا للخطر.
في حرب الثماني سنـوات قاتـل العراقيون إيران التي اختار زعيمها الخميني الذهاب إلى القدس عن طريق كربلاء العراقية.
اليوم تستعمل إيران العراقيين حطبا في حربها المذهبية في سوريا.
هل تغير العالم إلى هذه الدرجة، بحيث صار الإيراني أخا وصديقا، والسوري غريبا وعدوا؟
لن يتمكن العراقيون من الإجابة.
سوريا التي استقبلت أكثر من مليون ونصف المليون من النازحين العراقيين إبان الحرب الأهليـة التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2007، هي نفسها التي أوتْ أركـان المعارضة العراقية أيام كان حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين قائما، وفي مقدمتهم جلال الطالباني ونوري المالكي.
أما إيران التي حاربت العراق لثماني سنوات عجاف فقد كانت قد استعملت اللاجئين إليها، ومنهم هادي العامري الذي يتزعم الحشد الشعبي اليوم في العراق، وقودا لحربها، فوسمتهم بعار الخيانة الأبدي. وهو ما يُشعر العراقيين بأن كل ما يقدم من إيران هو نذير شؤم.
كانت سوريا كريمة مع العراقيين المستغيثين بها حين منحتهم الحق في السكن أينما يريدون، أما إيران فقد تفننت في تضييق الخناق على العراقيين ذوي التبعية الإيرانية التي رحّلتهم بغداد في خطوة لا تتسم بالإنسانية.
كانت سوريا دائما ملاذا آمنا للعراقيين، أما إيران فلم تكن سوى جحر للعقارب. فهل يستحق ذلك المكان الآمن أن يكون مُصدرا للجثث العراقية؟ هذا ما فعله العراقيون بأنفسهم وبسوريا.
ما لم يفهمه بعض العراقيين بسبب حالة العمى الطائفي التي أصابتهم أن سوريا ليست ضريح السيدة زينب، مثلما هي ليست الجامع الأموي.
سوريا ليست صلاح الدين الأيوبي وليست سيف الدولة الحمداني. سوريا هي فسيفساؤها الكريمة، التي علمت العـالم معاني التنـوع والتعدد والتسامح والتراضي.
وهو ما خبره المليون ونصف المليون من العراقيين الذين لجأوا إليها وقت الشدة فضمتهم إلى صدرها بحنان الأم.
من المؤسف والمؤلم حقا أن يتحول ذلك البلد الكريم إلى ماكنة لإنتاج الجثث.
لو أن العراقيين ذهبوا إلى الدفاع عن وحدة أراضي سوريا وعروبتها، عن قيمها في التسامح والتحضر والكرم لوهبوا التاريخ نموذجا مثاليا في التضحية يليق بمزاجهم المعطاء، ويحتفي بمزاج سوريا الحافل بالأريحية.
ولكنهم ذهبوا من أجل قضية خاسرة، صنعت منهم بيادق في شطرنج فارسي الهوى، لعنته الطائفية مزقت بلدا عظيما هو العراق وصنعت منه هشيما تتداول غباره أيادي الفاسدين.
وكما يبدو فإن إيران التي دمرت عقول العراقيين بنواحها الطائفي خربت الجزء الأعظم من ذاكرة عاطفتهم، فلم يعد خيالهم قادرا على الخروج من قبر السيدة زينب باعتباره الشام كلها. لقد اختزلوا سوريا بقبر، فلم تعد رائحة الياسمين قادرة على التحليق برؤاهم المثقلة بالموت.
بدلا من أن يحملوا الذكريات السعيدة إلى بلادهم صار العراقيون يعودون من سوريا جثثا بقلوب اسودت بسبب ما مر بها من دم لوثته الطائفية بوحشيتها. ليست تلك البلاد هي الشام، وليسوا عراقيين أولئك القتلى.
فاروق يوسف
العرب اللندنية