في الجولان تبدو علامات الحرب واضحة، عندما تنظر إلى سوريا من الجانب المحتل لهضبة الجولان، سترى القرى التي تم قصفها، والغابات التي تم قطعها، لاستخدامها كحطب ومخيمات اللاجئين، لكن فوق كل هذا هناك الخراب والهدوء.
هناك قرية تقع على الحدود مباشرة وتبدو مهجورة، يعيش بها فقط راعٍ وقطيعه، وهناك من بعيد تتحرك شاحنة أو اثنتان. هناك تغيير عن العام الماضي، عندما كان “سياح الحرب” من الإسرائيليين والأجانب يتوافدون إلى الحدود، ليشاهدوا أسوأ العروض في العالم: أعمدة الدخان الرمادي المتصاعد من قذائف الهاون، وأصوات إطلاق النار، والهجمات التي يستخدم فيها العديد من المركبات، بواسطة أحد تنظيمات المعارضة أو غيره.
في بداية الحرب الأهلية في سوريا، عندما كانت هذه المشاهد جديدة، كان ضباط الجيش الإسرائيلي يجلسون على مقهى “كوفي أنان” على جبل بنتال، المطل على هضبة الجولان الشاسعة، ليشاهدوا من خلال المناظير ما أسماه أحد الضباط “معمل الإرهاب” بالأسفل. كانت “تجارب” هذا المعمل أحيانا تعبر إلى الجانب الإسرائيلي، فكان بعض عناصر الجيش الإسرائيلي يصابون بإصابات خطيرة، كما قتل مدني على الأقل جراء إطلاق الصواريخ على القرى، وتفجير القنابل بالقرب من السياج الحدودي.
حتى أحدثت بعض قذائف الهاون الطائشة وطائرة استطلاع مجهولة الهوية بعض الإثارة الشهر الماضي، كانت الحدود مع إسرائيل تبدو هادئة تماما – على الرغم من أنه من المعروف أن ما يسمى بتنظيم الدولة وجبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة، موجودان على الحدود.
وكما أخبرني ضابط كبير بالجيش الإسرائيلي من القيادة الشمالية، خلال زيارة قريبة: “ربما يكون لبنان الساحة الأكثر انفجارا، وربما تكون غزة الأكثر إلحاحا، لكن هضبة الجولان هي الأكثر ديناميكية”.
هذه “الديناميكية” بالطبع تفسر كيف أنه بعد سنوات من الفوضى والحرب داخل سوريا، لا تزال المعارضة -سواء كانت معتدلة أو جهادية او تنظيم الدولة- تستهدف إسرائيل. هذا أيضا ربما يفسر الهدوء النسبي خلال الأشهر الأخيرة، واستراتيجية إسرائيل المتطورة على جبهة الجولان. بعد نصف عقد من الحرب الأهلية في سوريا، هل حان الوقت لتتخذ إسرائيل جانبا معينا؟
عندما يتعلق الأمر بالجولان، فإن الديناميكية بالنسبة لجيش الاحتلال الإسرائيلي تتخذ أشكالا عدة، لكن أيا منها لا يتم اتخاذه بشكل شخصي من قبل الضباط، إلا جبل تل الحارة، الذي يرتفع فوق هضبة الجولان على بعد عدة كليومترات داخل الأراضي السورية. فقد كان تل الحارة لعقود موقعا استراتيجيا لقيادة الجيش السوري، وبؤرة مركزية بالنسبة لصانعي خطط الحرب الإسرائيلية.
وأخبرني الضابط الكبير وهو ينظر إلى الجبل من الجانب الإسرائيلي : “لقد تدربت لسنوات للاستيلاء على هذا التل، لقد عملت جاهدا لأجله”. “واستولت عليه المعارضة السورية بعشرات الرجال فقط” في أواخر عام 2014، بعد حصار طال أمده.
بعدما احتلت إسرائيل المنطقة عام 1967، ظلت الجولان داخل الحدود الإسرائيلية الهادئة لمدة 40 عاما. وكان الجنود السوريون والإسرائيليون ينظرون إلى بعضهم بعضا من خلال المنطقة منزوعة السلاح، التي أشرفت عليها قوات حفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة. إلا أن نظام الأسد في دمشق والحكومات المتعاقبة في القدس حافظوا على هدوء حذر، إن لم يكن سلاما، في الوقت الذي اندلعت فيه حروبا بالوكالة في لبنان والأراضي الفلسطينية.
في مناسبات عدة خلال العقدين الماضيين، بدا كأن هناك معاهدة سلام قريبة، نظرا لاستعداد إسرائيل مقايضة الجولان مقابل تطبيع العلاقات بشكل كامل مع سوريا. وكان أربعون ألف إسرائيلي ودروز يسكنون المنطقة، يبدون امتنناهم لهذه الجهود. فقد كانت أيام صناعة السلام تلك تبدو كآثار من حقبة ماضية، بعد تحول سوريا إلى مقبرة.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولة عن الجولان، قبل اندلاع الحرب في سوريا، تتكون من فرقة مسلحة تركز على التدريب. وتعد المساحات الشاسعة المفتوحة في الجولان بمناطق الذخيرة الحية وأراضيها الزراعية وحقول الألغام المسيجة بها، موقعها مثاليا للمناورات واسعة النطاق. وقال لي أحد السكان المحليين ساخرا إن “عدد الألغام الموجودة هناك أكثر من الأبقار، وأن عدد الأبقار أكثر من الناس”.
وإذا كانت الاحتياطيات هي المسؤولة عن تأمين الحدود لعقود، فقد تم منذ عام 2014 نشر قوة إقليمية متخصصة (وحدة الباشان) على مرتفعات الجولان، وتتكون من وحدات المدرعات والمدفعية وعناصر الاستخبارات ونخبة المشاة. وتم استبدال السياج الحدودي المتهالك بحاجز هائل ذي تقنية عالية، ومزود بأجهزة استشعار متقدمة ومعدن سميك.
وقد تحدث الضابط الإسرائيلي الكبير أثناء وقوفه بالقرب من السياج الحدودي الجديد عن هذه التعديلات – وتعديلات أخرى جديدة: “أنت لم تر دورية إسرائيلية، أليس كذلك؟” سألني الضابط. “الدوريات معرضة للخطر. نحن الآن ‘خارج السياج’”.
كان هذا تغيرا في موقف قوات الاحتلال الإسرائيلي، فخلال الزيارات السابقة كان يمكن رؤية الدوريات بوضوح، وكانت تقود أعلى وأسفل الطرق الترابية المتاخمة للسياج. وكانت معرضة للخطر. ووفقا للبيانات الإسرائيلية الرسمية، فقد تم استهداف الدوريات في ست مناسبات على الأقل منذ عام 2011، بواسطة عبوات ناسفة؛ كما كان إطلاق النار المتعمد والهجوم بقذائف الهاون شائعا أيضا.
وتثق قوات الاحتلال الآن في قدرات وحدات جمع المعلومات الاستخباراتية، وفي سيطرتها على المرتفعات، لكن أيضا تتخذ إجراءات تقليدية ضد ما تعتبره إسرائيل الآن اخطر تهديد يواجهها من ناحية الجولان: الهجوم الاستراتيجي عبر الحدود بالسيارات المفخخة، كالتي ينفذها تنظيم الدولة على الحدود الإسرائيلية المصرية في أغسطس عام 2012، وفي أواخر شهر يوليو اخترقت سيارة محملة المتفجرات السياج الحدودي على الحدود الإسرائيلية الأردنية وانفجرت، ما أسفر عن مقتل ستة جنود.
ولمواجهة هذا الاحتمال، أشار الضابط إلى السواتر الترابية المضادة للدبابات والحواجز المعدنية الموجودة وراءنا، وهي آثار باقية من -الأيام الخوالي- عندما كان أكبر خطر هو تقدم مدرعة سورية. وقد تم استبدال الدبابات السورية بسيارات الدفع الرباعي والشاحنات والجرارات الخاصة بالتنظيمات المتطرفة. ولم يحدث أي هجوم على إسرائيل حتى الآن. وهذا ليس بسبب دبابات الميركافا المتمركزة على بعد عشرات الأقدام على يميننا، التي تنظر للحدود السورية بالأسفل.
وقال: “إذا كنت تعاني من عدوى في أذنيك هناك فقد تموت”، مشيرا إلى القرية السورية الواقعة على بعد أقل من كيلومتر. وأثير خلال وقت سابق أن إسرائيل تقدم مساعدات طبية للمعارضة السورية؛ واستقبلت المستشفيات الإسرائيلية أكثر من ألفي جريح، وكان الشرط هو عدم فحص الاحتلال هويات الجرحى عند دخولهم، وإذا دخلوا إلى المشافي لا يتم استجوابهم. كما قيل أيضا – بحسب الموقع- إنه تم استقبال مقاتلين من جبهة النصرة، التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة، حتى قبل هذا الأسبوع.
القوات المحتشدة أمام قوات الاحتلال في الجولان هي في معظمهما – لكن ليست كلها- من “أبناء المنطقة”، كما يقول الضابط الكبير، وهناك مخاوف محلية وبالتالي دوافع محلية للمكان، الذي يصوبون إليه أسلحتهم.
ويمكن تصنيف الجماعات المسلحة المتعددة في سوريا على مقياس “خمسين ظلا للأسود” بلغة قوات الاحتلال، حيث تكون كتائب شهداء اليرموك، التابعة لتنظيم الدولة “الأكثر سوادا” ومعارضي الأسد هم الأكثر اعتدالا. وفي المنتصف هناك جبهة النصرة، التي دخلت في منافسة قوية مع شهداء اليرموك على لقب الأكثر تطرفا في المنطقة.
وقد تم اغتيال قائد اليرموك، وهو قائد محلي يعرف باسم الخال، بسيارة مفخخة على يد جبهة النصرة. وتعتقد المخابرات الإسرائيلية أن هذه كانت هي النقطة التي أتى فيها العديد من القادة من الخارج “من تنظيم الدولة الحقيقي”، لتولي القيادة وتنفيذ مشيئة قادة الخارج. وقال الضابط الكبير قبل أسابيع قليلة من الهجوم الحدودي في الأردن: “يمكنهم يسهولة التحول إلى الجنوب واستهداف الأردن أو إسرائيل”.
وجبهة النصرة، من جانبها، هي أكثر استعدادا لبناء تحالفات مع تنظيمات المعارضة الأخرى في المنطقة، حتى أنها قد تقسم القرى بينها وبين الفصائل الأخرى.. إنها منافسة قليلة المخاطر من أجل الأرض والنفوذ والموارد، الخاسر فيها هم المعارضون المحليون المعتدلون، الذين حملوا السلاح للإطاحة بالأسد. لكن هذه على الأرجح هي أكثر المستفيدين من المساعدات الإسرائيلية. إنها ليست مصادفة أن يقع مخيم اللاجئين هذا، على بعد مجرد خطوات من السياج الحدودي مع إسرائيل.
“إنهم يعلمون أنهم بامان مادامت إسرائيل خلفهم”، هكذا قال الضابط الكبير. “لكن هناك فارقا ضئيلا جدا بين عدم التدخل والدفاع – فإذا بدا أنك تنحاز إلى طرف ضد طرف، فستكون هناك عواقب وخيمة”. لذلك يستمر المسؤولون الإسرائيليون في انتهاج سياسة عد التدخل في المستنقع السوري، بينما يتم بناء التحالفات على الأرض.
وأفضل مثل على ذلك هو العبور الكبير لمعبر القنيطرة، الذي ظل مفتوحا حتى بعد اندلاع الحرب الأهلية، ويسمح بمرور طلاب الجامعة الدرزية وحاصدي التفاح وقوات حفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة. وفي أغسطس عام 2014، استولى أحد تحالفات المعارضة على المعبر من قوات الأسد، فقامت الأمم المتحدة وإسرائيل بسحب جنودهما من هناك وإغلاق المعبر.
وقال الضابط الكبير إن في هذه الأيام، تسيطر قوات المعارضة المعتدلة، التابعة لإحدى العشائر، على الكوخ الواقع على بعد 10 أمتار من البوابة الحدودية الزرقاء الضخمة، التي تفصل بين الفوضى في سوريا والأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل.
وإذا كان هناك تهديد بحدوث تفجير انتحاري بسيارة مفخخة، فإن معبر القنيطرة هو أسهل طريق لعبور الحدود والدخول إلى المناطق المدنية النائية في إسرائيل. وحتى الآن، تسيطر المعارضة المعتدلة -وليس تنظيم الدولة أو الإرهابيين المدعومين من النظام- على الموقف، على الرغم من أن هناك خطة لما بعد تغير هذا الوضع، وفقا للضابط الكبير.
بالنسبة “للمحور” المؤيد للنظام -الأسد وإيران وحزب الله اللبناني- كان سقوط معبر القنيطرة مجرد درس على جبهة الجولان. فمن المعروف أن القوات الموالية للنظام تسيطر على موقعين فقط في المنطقة: قرية الخضر الدرزية ومدينة القنيطرة الجديدة. كان هذان المعقلين، حتى وقت قريب، نقاط انطلاق للقصف الصاروخي والهجمات الإرهابية ضد إسرائيل. ففي عام 2014 فقط، وفقا لمسؤولين بجيش الاحتلال، تم إطلاق خمسين مقذوفة على إسرائيل، إضافة إلى عشر حوادث إطلاق نار متعمدة عبر الحدود، كلها تم تنفيذها بواسطة عناصر تابعة لقوات الأسد. وانخفضت هذه الأعداد بشكل كبير، وهذا ليس مصادفة.
وكما كان الحال مع قذائف الهاون، التي أطلقت الشهر الماضي، فإن إسرائيل ترد على أي هجوم عبر الحدود -سواء كان خاطئا أو غير ذلك- بهجمات مضادة على مواقع قوات الأسد. والأكثر من ذلك، أن البعض يعتقدون أن إسرائيل كانت مسؤولة على الأقل عن غارتين جويتين داخل سوريا تستهدفان عناصر من إيران وحزب الله، مسؤولين عن جبهة الجولان.. كما قتلت غارة ثالثة غير معروفة المصدر هذا العام مصطفى بدر الدين، القائد العسكري المتهور لحزب الله في سوريا. وصرح الضابط الكبير قائلا: “في كل مرة يقتل أحد عناصرهم [حزب الله]، فهذا يساعد”، دون إعلان مسؤولية إسرائيل، كأنها أفعال الله.
كما أن بلدة الخضر نفسها ربما تكون بمثابة اختبار لكيفية استخدام المساعدات الإنسانية لإبعاد السكان المحليين عن الإرهاب -على الرغم من أن المسؤولين الإسرائيليين يرفضون تأكيد ما قد يترتب على هذه العلاقة.. في المجمل، مرتفعات الجولان هي أكثر الجبهات الإسرائيلية ديناميكية، في ظل تغير الميليشيات الموجودة هناك. هذه التعقيدات تتسبب في إثارة القلق؛ فلا أحد يعلم متى سيتحول تنظيم الدولة إلى الجنوب ويهاجم إسرائيل (كما حدث مع الأردن). إلا أن العديد من الشخصيات الأمنية في إسرائيل يرون فرصا في هذه التعقيدات.
وكما قال رئيس المخابرات الإسرائيلية هرتسي هاليفي في وقت سابق هذا الصيف، فإنه لم يعد في سوريا “أخيارا وأشرارا، حيث يهزم الفارس الأبيض الفارس الأسود”.
وأضاف أن أسوأ نتيجة بالنسبة لإسرائيل، هي انتصار المحور المؤيد للرئيس في نهاية الحرب الأهلية. ويوافقه الرأي عاموس يادلين، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية وأحد أكبر المفكرين الاستراتيجيين في إسرائيل. وقال يادلين في مقالين رئيسيين له إن إسرائيل يجب أن تتخلى عن سياسة عدم التدخل، لصالح سياسة أكثر فعالية تؤدي إلى هزيمة “ألد أعداء” إسرائيل: إيران وحلفاؤها اللبنانيون.
ولتحقيق هذه الغاية، فقد طالب بتدخل عسكري مباشر دعما للفصائل المعارضة للأسد، وزيادة المساعدات الإنسانية، وجبهة موازية ضد كتائب شهداء اليرموك. وكتب يادلين قائلا: “عندما تتم الإطاحة بالأسد بشكل كامل، فمن المهم أن يعلم العالم العربي والإسلامي أن إسرائيل كانت على الجانب الصحيح من الصراع، وتصرفت بشكل صحيح انطلاقا من وجهة نظر أخلاقية واستراتيجية”.
ربما تتغير دفة الأمور في الصراع الداخلي بين من عرفته إسرائيل لعقود (نظام الأسد)، ومن عرفتهم مؤخرا (المتطرفون والجهاديون ذوي القناعات المختلفة). وفي لقاء له مع قناة الجزيرة، أنكر رئيس الموساد الإسرائيلي السابق إفرايم هالفي، احتمالية وجود رد فعل عسكري من قبل جبهة النصرة. وقال: “لا أعتقد أنه سيكون هناك رد فعل عسكري”. وأضاف: “للأسف، قواعد اللعبة في سوريا هي أنك يمكن أن تفعل أي شيء من المستحيل أن تفعله في أماكن أخرى”.
ربما تكون إسرائيل بدأت بالفعل في اللعب وفق قواعد اللعبة المستحيلة في أي مكان آخر على جبهة الجولان. إن الهدوء المتزايد خلال الأشهر الأخيرة شاهد على هذه الفعالية – حتى الآن.. وبالعودة إلى السياج الحدودي المطل على سوريا الممزقة، لخص الضابط الكبير الواقع الملتف في الشرق الأوسط الجديد، حين قال: “إذا أصبحوا حلفاء لنا”، مشيرا إلى الشعب السوري والمعارضة المعتدلة، “فربما نستطيع تحقيق السلام داخل جزء كبير من الأرض، بدلا من الدولة”.
ذا ديلي بيست – التقرير