“في 2 آب/أغسطس، خاطب وائل الزيات وستيفن راب وبين تاوب منتدى سياسي في معهد واشنطن. والزيات هو كبير مستشاري السياسة لشؤون العراق وسوريا للمندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة سامانثا باور، ومحاضر في جامعة جورجتاون. وراب، هوالسفير المتجول الأمريكي السابق لشوؤن “العدالة الجنائية الدولية”، ويعمل حالياً كـ “زميل الوقاية العالمية” في «مركز “سيمون سكجودت” لمنع الإبادة الجماعية» وزميل متميز في “معهد لاهاي للعدالة العالمية”. وتوب كاتب مساهم في مجلة “نيويوركر”، كان قد كتب المقالات الأخيرة بعنوان “ملفات الأسد” (حول وثائق تربط النظام السوري بالتعذيب والقتل الجماعي) وكذلك “أطباء الظل”(حول استهداف النظام للأطباء والمستشفيات). وقد تيسّر إعداد التغطية “ملفات الأسد” بفضل منحة من “مركز بوليتزر لتغطية الأزمات”. ونسق حلقة المنتدى أندرو تابلر زميل “مارتن جي. غروس” في برنامج السياسة العربية في المعهد”.
وائل الزيات
عادةً ما ينصب التركيز في سوريا على جرائم تنظيمي «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة»، وليس هناك شك بأن هذين التنظيمين يرتكبان جرائم فظيعة. إلا أن القسم الأكبر من الجرائم في سوريا يُرتكب يومياً على يد النظام السوري.
وتركز الحكومة الأمريكية على اتخاذ خطوات عملية باتجاه تأسيس عدالة انتقالية في سوريا. وتتضمن تلك الجهود سعي منظمات دولية إلى محاكمة جميع أطراف النزاع، بالرغم من توجيه معظم تلك الجهود إلى الحكومة السورية. وفي ما يتخطى سوء معاملة المحتجزين وممارسة العنف الجنسي بحق النساء، أفضت تلك الجهود إلى تأسيس “آلية التحقيق المشتركة”، التي يُفترض أن يصدر تقريرها بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا في أيلول/سبتمبر. وعلى الرغم من أن عدد الأشخاص الذين تضرروا من الأسلحة الكيميائية هو أقل من عدد المهجّرين [المشردين] والمعتقلين والمعذبين وغيرهم، إلا أن هناك إجماع دولي واضح وقرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي تقضي بمحاسبة كافة الأطراف في سوريا على خلفية استخدام الأسلحة الكيميائية. ولكن الجهود الرامية إلى إحالة ملف الأسلحة الكيميائية إلى “المحكمة الجنائية الدولية” قد تمت عرقلتها في مجلس الأمن من قبل روسيا والصين. وفي الواقع، لن توافق روسيا على تدابير من شأنها التأثير بشكل ملحوظ على النظام السوري، بالرغم من أن موسكو قد قدمت الدعم فيما يتعلق بـ “آلية التحقيق المشتركة”.
ويدعو “بيان جنيف” الصادر في حزيران/يونيو عام 2012 بشكل محق إلى اعتماد مقاربة شاملة تجاه العدالة الانتقالية. وفي هذا الإطار، تبرز مخاوف بأن الولايات المتحدة ربما تسعى إلى التوصل لاتفاق حصانة مع الأسد، إلا أن ذلك لا يعكس حقيقة الوضع. وبشكل عام، تسعى الولايات المتحدة إلى التوصل لحل سياسي مناسب، يشكل برأيها المسار الوحيد باتجاه السلام المستدام. وبالتزامن مع دعمها للعدالة الانتقالية، تدعم الولايات المتحدة الجهود التي تقودها سوريا من أجل تطبيق المساءلة الجنائية في نهاية المطاف. وينخرط شخصياً عدة مسؤولين حكوميين أمريكيين في ضمان المساءلة وسيدعمون تلك الجهود بأي طرق ممكنة. ونظراً للقيود المفروضة من قبل مجلس الأمن وعوامل أخرى، تتركز الجهود حالياً على جمع الوثائق وإنهاء النزاع، بحيث يتم تأسيس مرحلة يمكن أن تبدأ خلالها العدالة الانتقالية.
ستيفن راب
منذ خمسة أعوام، تحولت الثورة السورية إلى حرب. ومنذ ذلك الحين تعرض ملايين الأشخاص للتشريد، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الفظائع الجماعية التي جعلت الحياة في سوريا جحيماً لا يُطاق.
ويفوق عدد الوثائق المشيرة إلى جرائم الحرب في سوريا عدد نظيراتها من كل من البوسنة ورواندا. ففضلاً عن ملفات الأسد التي يتم النظر فيها من قبل “لجنة العدالة والمساءلة الدولية”، تم تقديم ملفات وأكثر من 50,000 صورة من قبل محقق في الشرطة ملقب بـ “قيصر”، كان قد انشق [عن النظام] في آب/أغسطس عام 2013 بعد أن كان مكلفاً بتصوير المعتقلين، الذين تبرز على أجسادهم المشوهة آثار التعذيب. [كان الزيات، الذي هو متحدث آخر في هذا المنتدى السياسي، المسؤول الحكومي الأمريكي الأول الذي قام بمراجعة تلك الصور من مقره في اسطنبول. وقد أرسل قيصر بنفسه رسالة عبر وسيط شكر فيها “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” على عملها ورحّب بالتشريعات الأمريكية المقترحة فيما يتعلق بالعقوبات، لا سيما “قانون حماية المدنيين السوريين- قيصر” لعام 2016]. وفي الواقع، قام النظام السوري نفسه بالإشارة إلى الجثث من خلال أرقام الهوية والمستشفيات التي استقبلت الجثث. وخلال تطبيق هذه المنظومة، جُمعت 11,000 جثة في دمشق وحدها.
وإلى جانب الأفراد الذين يمكن الإثناء على شجاعتهم على غرار قيصر، قابل بين [تاوب] الناشط العلماني “مازن”، الذي تم توقيفه لأنه [أمّن] جلب الحليب لحي محاصَر. ولسخرية القدر أنه بينما كان مازن قيد الاعتقال، أعلنت الحكومة عن حالات عفو دورية فأطلقت سراح معتقلين لم يكونوا متظاهرين علمانيين بل جهاديين بمعظمهم، مما سمح للأسد بابتكار نبوءة ذاتية التحقيق تتألف فيها المعارضة بالكامل من الإرهابيين.
ويُعتبر تعقب المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في مراكز الاعتقال التابعة للدولة سهلاً نوعاً ما بالنسبة إلى المدّعين الدوليين نظراً للوثائق المتوفرة. أما تحديد حالات الوفيات في صفوف المدنيين الناتجة عن القصف فهو أكثر صعوبة نظراً للأضرار الجانبية وغيرها من حالات عدم اليقين. إلا أن الهجمات التي يقوم بها النظام السوري ضد الأهداف المدنية والإنسانية تجعل حتى هذه العملية ممكنة. وقد وثق أطباء يعملون لصالح “جمعية الأطباء للدفاع عن حقوق الإنسان” أكثر من 700 مهني طبي متخصص لقوا حتفهم على يد النظام، مقابل 27 من قبل الجماعات المتمردة. وقد وقعت هذه العواقب المفجعة جزئياً نتيجة استخدام النظام لحرب الحصار، التي تتضمن قطع الإمدادت الطبية والغذائية عن المناطق المدنية، وهو أمر يُعتبر اليوم جريمة حرب، رغم أنه كان يمارَس في القرون الوسطى.
وفي سياق متصل، لفت الصحفي روي غوتمان إلى الوضع المثير للقلق في حلب المحاصرة، حيث قد يفرض الروس “قواعد غروزني”، التي مفادها فعلياً: “إخرجوا وإلا قضينا عليكم جميعاً”. كما يُعتبر إعلان الحكومة عن [توفير] ممرات إنسانية للأشخاص الذين يغادرون حلب أمر مدعاة للقلق بشكل خاص لعدة أسباب. فالاستهداف الجماعي للأشخاص الذين لا يستخدمون الممرات قد يُسفر عن وقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وهذه السياسات التي يتبعها النظام تؤدي إلى تعزيز الإرهاب عوضاً عن استئصاله وتقوض سيادة القانون. ومن المستبعد أن يكون الدور الروسي في سوريا مثمراً، كما أن العمل مع الروس قد يساعد الولايات المتحدة على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». فحالياً، ووفقاً للمعلومات الواردة من “جمعية الأطباء للدفاع عن حقوق الإنسان”، يواجه بعض القادة الروس خطر المحاكمة على خلفية مساعدة الأسد على ارتكاب جرائم حرب والتحريض عليها. وإذا ما استُخدمت “قواعد غروزني” في حلب، قد يصبح هؤلاء الروس المرتكبين المباشرين لتلك الجرائم.
ويوماً ما، ستتم محاسبة هؤلاء المجرمين أمام القضاء، رغم أن ذلك لن يحدث أمام “المحكمة الجنائية الدولية” نظراً لعرقلة الروس والصينيين لذلك المسار.
ولكن الوثائق ستجعل تلك الجرائم قابلة للمحاكمة في بعض دوائر الاختصاص، مثل الدول التي يحمل فيها الضحايا السوريون جنسية مزدوجة. فبموجب “قانون الحصانة السيادية الأجنبية” الأمريكي، يتم حالياً رفع قضية مدنية ضد النظام السوري على خلفية مقتل الصحفية الأمريكية مورين كولفين، التي لاقت حتفها في إحدى عمليات القصف عام 2012. وفي القضايا البارزة، اتُهم مسؤولون بمن فيهم شقيق بشار الأسد ماهر وعلي مملوك بتحمل المسؤولية المباشرة عن الجرائم. وقد تُعتبر مثل هذه القضايا أيضاً جرائم قتل بموجب القانون الأمريكي، وهذا يعني أنها قد تُرفع من قبل “قسم حقوق الإنسان والمحاكمات الخاصة” التابع لوزارة العدل الأمريكية.
وبالإضافة إلى الولايات المتحدة لن تقدم العديد من الدول ملاذاً لمرتكبي الجرائم، الذين يفرّ البعض منهم إلى أوروبا متخفّين كلاجئين، إذ قد تم التعرف على بعضهم من قبل الضحايا والعائلات. وفي تلك الدول الأوروبية، قد يحاكَم هؤلاء الهاربون على جرائم ارتكبوها في الخارج. وقد شرعت وحدات الادعاء الأوروبية بالفعل في العمل على قضايا سورية، كما فعلت خلال الأزمة الرواندية. وفيما يتعلق باتفاق الحصانة للأسد الذي يمكن التوصل إليه بوساطة أمريكية، لا يُعتبر العفو عن الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي اتفاقاً ملزماً يمنع المحاكمة.
أما فيما يتعلق بـ “اتفاقية التنفيذ المشتركة” بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن التعاون لمحاربة «جبهة النصرة»، فقد برزت عناصر إيجابية، من بينها التزام أشد ثقلاً بـ “وقف الأعمال العدائية” واستهداف روسي أفضل. ولكن بصورة عامة، لم تبدِ روسيا حسن نية في تعاملها مع سوريا، وبالتالي، على الأمريكيين أن يكونوا حذرين في المستقبل.
لقد ولّدت الجرائم في سوريا أكبر تدفقات للاجئين في تاريخ البشرية. وقد يكون الضحايا والعائلات، والمنظمات التي تعمل على تلك القضايا مصابون باليأس حالياً، ولكن ينبغي على كل المطلعين على الجرائم أن يبادروا بخطوة بقدر ما يمكنهم القيام به ويعملوا مع المدعين لتحقيق العدالة فيما يتعلق بالجرائم الجماعية المرتكبة ولمنع الفظائع في المستقبل. ولا يعني أن غياب المحاكمات اليوم أنها لن تحصل قط – فقد تحصل، على أفضل نحو، عند قيام سوريا ديمقراطية في المستقبل عندما تكون جميع الطوائف ممثلة (رغم أن ذلك قد لا يتحقق). وفي الواقع، إن المحاكمات في بعض القضايا قد تبدأ هذا العام.
بين تاوب
على الرغم من أن نظام الأسد قد استهدف بشكل واضح ومنهجي المستشفيات في سوريا، تركز الوثائق الداخلية للنظام التي جمعتها “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” على حالات الاختفاء والاعتقال والتعذيب التي يتعرض إليها المواطنون السوريون. وقد أثّرت تلك الممارسات على مئات آلاف السوريين، وحتى الملايين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أثرها على عائلات الضحايا. وخلال الأعوام الأربعة الماضية، قامت مجموعة محققين في جرائم الحرب الذين شكلوا “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” بتهريب أكثر من 600,000 وثيقة إلى خارج سوريا. وأتت الوثائق بمعظمها من مراكز أمنية واستخباراتية تابعة للنظام كانت قد وقعت تحت سيطرة المتمردين الذين عَلِم قادتهم عن “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” فاتصلوا بأعضائها لكي تخضع تلك الوثائق في النهاية للتدقيق على يد محامين في أوروبا. وفي بعض الحالات، توجَّب تخزين تلك الوثائق وإخفائها تحت الأرض إلى أن يصبح ممكناً تهريبها عبر الحدود.
لقد دقق فريق كبير من المحامين والمترجمين والمحللين في هذه الكمية الهائلة من الوثائق، وذلك لجمع الأدلة التي من شأنها إثبات مسؤولية الحكومة السورية عن جرائم الحرب، بما فيها أعمال التعذيب والقتل المرتكبة في مراكز الاحتجاز. وتتراوح مصادر الوثائق ما بين فروع الاستخبارات المحلية في المحافظات السورية وإلى أعلى مستويات اللجنة الأمنية التابعة للأسد المعروفة بـ “خلية إدارة الأزمة المركزية” [“الخلية”] التي تشكلت في آذار/مارس عام 2011 رداً على تظاهرات وطنية متصاعدة. وتُعنى بعض تلك الوثائق بسياسات الاعتقال التي أعطى الرئيس شخصياً الضوء الأخضر لتنفيذها.
وقام الأسد شخصياً بتعيين أعضاء “خلية إدارة الأزمة المركزية”، بمن فيهم ماهر الأسد ورؤساء عدة فروع استخباراتية. وتحولت السياسات التي تمت صياغتها خلال اجتماعات الخلية إلى أوامر وتم تمريرها عبر وكالات الاستخبارات ذات الصلة. وتعكس الوثائق هوساً بالتنسيق بين الوكالات، إذ كانت تمرَر معلومات مفصلة عبر سلاسل القيادة الاستخباراتية من أعلى الرتب إلى أدناها، لدرجة أنه تم التبليغ عن إحدى الكتابات على الجدران المناهضة للحكومة لأعلى القيادات وصولاً إلى “الخلية”. ويُظهر هذا التنسيق درجة اطلاع هؤلاء المسؤولين الرفيعي المستوى على ما يحصل على الأرض، بما في ذلك الجرائم المرتكبة في مراكز الاحتجاز.
ولا تركز قضية “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” على جرائم الاعتقال فحسب، بل على السياسات المنهجية الكامنة وراءها أيضاً. وتركز القضية على محضر اجتماع تمت خلاله صياغة سياسة لاستهداف منظمي التظاهرات والناشطين وأولئك الذين “يشوهون صورة سوريا في وسائل الإعلام الأجنبية”. كما تم استهداف أفراد الأمن من ذوي الرتب المتوسطة الذين كانوا “مترددين أو غير متحمسين” في تأدية واجباتهم. إن الجرائم التي تتمحور حولها قضية “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” هي نتاج تنفيذ تلك السياسة.
ويتمثل عنصر آخر أساسي من سياسة الاستهداف الخاصة بـ “خلية الأزمة” بانتزاع اعترافات بالإكراه والقوة من المعتقلين. فقد مورست ضغوط على المحققين لتعذيب المعتقلين بحيث يعترفون بارتكاب جرائم أكثر خطورة من أعمال العصيان المدني وذلك بهدف تأمين غطاء يوحي بعدالة النظام. وفي حين تم إرسال الكثير من المعتقلين إلى سجون عادية للخضوع لمحاكمات جنائية على خلفية الجرائم التي أقروا بارتكابها، تمت تبرئة آخرين من قبل قضاة متعاطفين معهم. وأدلى الأفراد الذين أُطلق سراحهم بشهادات هامة حول الجرائم المرتكبة في مرافق الاحتجاز الأمنية السورية، غير أن قضية “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” تدور حول تعقب المسؤولية الجنائية عن الجرائم، بواسطة الوثائق، وصولاً إلى أعلى مستويات حكومة الأسد.
جيمس بوكر
معهد واشنطن