في الميثولوجيا الخاصة بعلاقة الإنسان بجدلية المنطق والواقع يكون الدخول إلى عالم مغلق مجهول يطلق عليه “عش الدبابير” معناه الدخول إلى عالم لا يعرف سراديبه إلا أهله ومريدوه وليس كلهم يعرف كل شيء عنه، عالم مليء بتصورات عديدة كلها لا علاقة لها بالبشر العاديين الطبيعيين، عالم له تصوراته وآراؤه في ما يتعلق بتصرفاته ومواقعه وقياساته وموازينه للآخرين، عالم أفراده ذوو خبرات متميزة في التخطيط وفنون اللف والدوران والاختباء، عالم يعيش أفراده حياة طبيعية في الظاهر، ويخفون سرا يعرفون أنه كفيل بتدميرهم إذا ظهر للعلن.
هذه القاعدة الفلسفية لعش الدبابير هي التي تتحكم إلى جانب غيرها في وضع الحالة العراقية منذ أبريل 2003 ولحد اليوم. تنافس حول السلطة التي تنحرف عن معناها السياسي، إلى دوافع السرقة والنهب والقتل والتدمير تحت مسمى العلاقة بين الشعب والسلطة، لكن في الخفاء الجميع يشترك بقضية واحدة هي نهب الناس والبلد، حتى لو تطلب الأمر قتلهم وتدمير بيوتهم أو تهجيرهم، في هذا العالم لا فرق بين المشتركين في خباياه أن يكونوا قادمين من طهران أو أفغانستان أو الشام، هنا تختفي الجنسيات التقليدية وتنسحب المفاهيم التقليدية في الفكر والسياسة، لا معنى للوطن إلا من خلال عالم عش الدبابير، الجميع يسرقون ويكذبون وفق عالم سري يعتقد مريدوه إنه هو الصحيح، ولا بأس لديهم إعلان الخلاف بالعلن بشعارات مثالية كالدفاع عن قيم الوطن لأعلى درجات التطرف، والشك بكل من هم خارج عش الدبابير لكن هذه المنظومة بين مريدي هذا “العش” قد تختل بخروج ثلة منها للعلن لكي تفسد على الآخرين اللعبة.
وهنا لا تتحكم النظريات السياسية الشائعة في ما يحصل، فالذي يعلن أخطاء الآخرين لا يعني أنه هو الصواب، فالسلطة السياسية الحاكمة في العراق ليست وفية حتى لأيديولوجيات الأحزاب الدينية المذهبية، بل هي وفيه لمقدرات “عش الدبابير”، الذي لا يفرق بين شيعي وسني طالما هناك مشترك واحد هو النهب، وقد يتساوى الداعشي مع غيره في هذا العالم السادي. البشر العاديون يتلقون زيفا وأوهاما لا حدود لها، وطقوسا لمهرجانات سيركية لا نهاية لها، هذا بالضبط ما حصل في سنوات ما بعد عام 2011 حيث خرج المحتل العسكري الأميركي، وخلف من بعده مجموعات متشابكة مع بعضها داخل منظومة من التمويه والتزوير، في هذا العالم ليس غريبا أن ينام قائد “شيعي” منظّر لحزب الدعوة على سرير في قصر “صدام حسين الدكتاتوري” ويتمتع بمزايا أحواض “سمك الزينة” أمام باحات القصر ويقدمها وجبة شهية لضيوفه الأجانب ويضطرون للرقود في المستشفى بعد تسممهم بأكلة سمك الزينة.
مسموح إطلاق مسرحيات “السيرك” إن كانت تلهي الجمهور المخدوع ، لكن حذار أن تخرج عن قواعد هذا “العش” وحتى إن تحرك أحدهم بمفرده، فالمطلوب مراقبته إن كان قد خرج عن القانون الداخلي السري في لعبة التمويه، لأنه قد يقلب موازينها. حصل هذا مع مقتدى الصدر الذي حاول الاقتراب من الحدود “المحرّمة” لدوافع ذاتية، ففي عرفهم “لا مانع من التهريج” لأنه سيكون ضمن حدود القانون السري، وحين اقترب الصدر من حدود المخاطرة والتهديد، رفعت الرايات الحمر بوجهه، وفتحت معركة حامية ضده.
ما قام به أخيرا خالد العبيدي وزير الدفاع وفي ظل ظروف حربية معقدة يفترض أن تؤجل فيها قضايا اللعب للإزاحة، لم يعد متناغما مع تقاليد “عش الدبابير” فهم لا يفهمون تلك الظروف، قتال داعش لا يفهمون منه سوى تأهيل لبعض من أنصارهم في خدمة “العش” فطلبوا استدعاءه في البرلمان وحضر ببدلة القتال وفي حقيبته الكثير من الفضائح بوجوههم، لم يفرق بين سني وشيعي، وارتاح السياسيون الشيعة لأن مصطبة النحر ابتعدت عنهم قليلا لتنال من الصغار ممن يدعون تمثيل السنة، مع أنه شعار احترق منذ وقت طويل. اللعبة الآن أكبر ومخاطر “عش الدبابير” بدأت تخرج للرأي العام، وأخذ البناء بالتفكك من قاعدة الهرم، بين سماسرة النهب الصغار، والكبار يعتقدون أن المسافة مازالت بعيدة لتنال من “عصمتهم”. الفرص بدأت تضيق أمام الاختباء واللف والدوران والاختباء، وهناك الكثير من الأغطية مازالت تشتغل، وغطاء داعش واحد منها، لكن هذا الغطاء أصبح وقت نفاد صلاحيته قريبا بعد تحرير الموصل.
ما دُبر في مهرجان الاستجواب لوزير الدفاع لم يكن مصنوعا بحرفية عالية، لم يكن دهاقنة النهب متحسبين لما سيكون عليه (الضحية) المنتظرة من ردود فعل شخصية، ولم يحسبوا علاقات هذا الرجل العسكري المنتمي إلى مؤسسة الجيش التقليدية، ولم يتمكنوا من جمع ملفه الشخصي بدقة وعلاقاته بالكبار، وتفاجأوا بما صدر عنه أهمها تمرده على قانون “المحاصصة الطائفية” التي جاءت به، لكونه من أبناء الموصل السنة ومرشح قائمة “متحدون” لكنه تعامل بذات القانون الخاص بهم؛ لا فرق بين شيعي وسني في عالم النهب والسرقة، عالم القوة الداخلية المريبة في عش الدبابير. ليس المهم تفاصيل الحيثيات التي تحدثت بها “المستجوبة” وهي من القائمة الشيعية ورفيقتها الثانية في ذات السيرك، أمام وزير الدفاع “السني” فأخذ ينهال بسيل من الاتهامات الدامغة مستثمرا شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي ليوصل رسالة كشف المستور إلى جمهور العراقيين والرأي العام وتحدى جوقة السنة المغمورين داخل عش الدبابير، وكذلك بعض الشيعة من شلة الفساد داخل البرلمان وخارجه، وبعضهم استخدم البرلمان كوسيلة محصنة لممارسة النهب، حتى إن بعضهم ترك مقعد البرلمان منذ سنتين وراح ينشط في الابتزاز بعد أن اكتسب علاقات تتيح له الحركة، ولديه التطمينات الكثيرة والحماية المرتبة بدقة وأخذ العبيدي يقترب من عالم السياسة وهو ابن المؤسسة العسكرية التقليدية مع أن طريقه صعبة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر، راح يشتغل على الجمهور مثلما اشتغل قبله مقتدى الصدر بوجه دهاقنة “عش الدبابير” حيث زار الأعظمية (السنية) واستقبل بحفاوة من المقهورين وعبر الجسر إلى الكاظمية (الشيعية) ليستقبل من المخدوعين المتمردين على إمبراطورية الفساد.
هل تمرّد العبيدي على عش الدبابير وأحكامه؟ وإذا كان كذلك لماذا؟ وهل كان جزءا من منظومته ثم خرج ليصبح بطلا يبحث عنه الناس أم إنه أخطأ وعليه التراجع والتكفير عن ذنبه؟ أعمدة عش الدبابير لا ترحم وعقابهم قاس ومن السهل أن تصل إلى التصفية الجسدية.
العبيدي قد يفقد منصبه، لكنه خرج عن اللعبة الداخلية وفضحها أمام الجمهور، وقد دخل في المعادلة التي تتحرك اليوم ولو ببطء؛ قطب الشيعة والسنة السارقين من جهة، وقطب الشيعة والسنة المظلومين المحرومين، وهو القطب الأكبر. ولهذا مدحه من تمرّد قبله مقتدى الصدر، فهل سيستمر العبيدي بعد دخوله ميدان الصراع ومن سيكون ظهيره؟ جماهير الشعب والنازحون والمهجرون، أم الجنود الذين يقاتلون في معركة الموصل المقبلة؟ حتى وإن حكم عليه بالإعدام من قبل دهاقنة عش الدبابير فإن الطريق أمامه مفتوحة ما بين الاستسلام أو التحدي.
د. ماجد السامرائي
العرب اللندنية