يدرك أي باحث متخصص أن ملالي إيران لم يقدموا أي شيء يذكر للقضية الفلسطينية منذ وصولهم إلى السلطة عقب الثورة الإيرانية في العام 1979، ولكن اتخذوها مطية لتلميع صورتهم لدى الشعوب العربية والإسلامية، ومحاولة ترويج أنفسهم باعتبارهم مدافعين عن القضايا الإسلامية.
صحيح أن القضية الفلسطينية تندرج ضمن بؤر اهتمام ملالي إيران، بمختلف درجات تشددهم، ليس من زاوية الدفاع الحقيقي عن الشعب الفلسطيني، أو السعي لتسوية قضيته، ولكن من خلال توظيفها ضمن الأدوات الترويجية للنظام الإيراني، والادعاء الكاذب بأن طهران تقود ما يعرف بـ”محور المقاومة” وغير ذلك من المزاعم، في حين أن الحقيقة كاشفة، فلا طهران تقود محاور للمقاومة، ولا هي تحملت يوما عبء الدفاع عن الشعب الفلسطيني، سلما أو حربا.
قد يجادل البعض بالقول إن الملالي يقدمون مبالغ مالية طائلة لتنظيمات فلسطينية مثل “حماس” وغيرها، وهذا صحيح ولا ينكره أحد، ولكن ماذا فعلت “حماس” ذاتها للشعب الفلسطيني منذ أن تصدرت المشهد واحتكرت السلطة في قطاع غزة، وصممت على تقسيم الفلسطينيين وانقسامهم؟ أضف إلى ذلك أن المبالغ المالية الإيرانية ليست سوى مخصصات من أموال الشعب الإيراني للإنفاق على الدعاية للنظام لتحقيق الهدف الذي أشرت إليه في بداية مقالي، والمفارقة أن ما يدفعه الملالي في هذا الإطار هو “تكلفة” ضئيلة لدعاية سياسية سخية يقوم بها مسؤولو “حماس” ومقاومو “الصالونات” لمصلحة النظام الإيراني.
يدرك الكثيرون في منطقتنا أن الساحة تعج بتجار القضايا والحروب وسماسرة الصراعات، الذين لعبوا أدوارا بائسة في تدمير العديد من دول المنطقة، وفي مقدمتها سوريا والعراق واليمن وليبيا، فادعاء البطولة وتجارة التنظيمات تحولت إلى تجارة رائجة في منطقة تقع في قلب المؤامرات الغربية، التي تخطط لإعادة هندستها
جيو استراتيجيا وفق أسس مصالحية جديدة تناسب أهداف القوى الإقليمية والكبرى من دون مراعاة لمصالح شعوب المنطقة.
وضمن حملتها الإعلامية المسعورة على دول مجلس التعاون الخليجي في الآونة الأخيرة، تحاول إيران تشويه صورة بعض دول المجلس بزعم التطبيع مع إسرائيل، لتأليب الشعوب العربية والإسلامية، وإثارة مشاعرها ضد هذه الدول، في حين أن قنوات الاتصال بين ملالي إيران وإسرائيل لم تغلق يوما، والعلاقات السرية القائمة بين ملالي إيران وإسرائيل متشعبة، لا سيما في المجال العسكري ومبيعات الأسلحة، والأمر ليس سرا في مجمله، فهناك الكثير من المعلومات الدقيقة التي تسربت حول التعاون الإيراني – الإسرائيلي في صفقات التسلح، وهي معلومات منشورة على الإنترنت وليست بحاجة إلى جهد كبير للوصول إليها.
هناك أيضا تبادلات تجارية تتم بين إيران وإسرائيل عبر وسطاء، وسبق أن تحدثت صحف إسرائيلية معروفة عن استثمارات إسرائيلية ضخمة في إيران، وتعاون كبير في مجال النفط وعلاقات تربط بين حاخامات اليهود الإيرانيين وقادة الحرس الثوري الإيراني، الأكثر تشددا من الناحية الظاهرية في ما يتعلق بملف القضية الفلسطينية، بل إن المفارقة أن يهود إيران يتمتعون بحرية دينية تفوق بمراحل المسلمين السنة في إيران، وهذه إحدى مفارقات نظام الملالي، الذي يتشدق بشعارات لا وجود لها في الواقع، ويكفي ما يعانيه المسلمون السنة في المدن الإيرانية عند محاولتهم الصلاة في مساجدهم، والأدهى من ذلك أن الملالي الأكثر تشددا بالنسبة لإسرائيل مثل الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، هم الأكثر اتصالا وتواصلا مع حاخامات يهود إيران باعتبارهم قناة الوصل المباشرة مع إسرائيل.
في الغرب يدركون تماما أن المشتركات بين إيران وإسرائيل أكثر من أن تحصى وتعد، وأن شعارات العداء الإيرانية ليست سوى تجارة سياسية تصب في مصلحة إيران وإسرائيل معا، فالملالي يتاجرون بهذه الشعارات إقليميا لكسب تعاطف الشعوب العربية والإسلامية، وهذا أمر على هوى الغرب أيضا، فهو لا يريد غطاء عربيا للقضية الفلسطينية، أو على الأقل يريد تنازعا على أحقية رعاية القضية بين العرب وإيران. أما إسرائيل فهي الأكثر ربحا من هذه الادعاءات الإيرانية الخاوية، حيث توظفها في الترويج لفكرة الخطر الذي يهددها، وتحصل على المليارات من الدولارات سواء في شكل مساعدات مادية مباشرة، أو في شكل دعم عسكري بأحدث الأسلحة والتقنيات والعتاد، فالتهديدات الإيرانية كافية لتمرير منح إسرائيل أي مساعدات عسكرية متقدمة وإقناع البرلمانات والرأي العام بأحقية إسرائيل في حماية نفسها في مواجهة تهديدات إيران.
أما التنظيمات المحروقة مثل “حزب الله” اللبناني وحركة “حماس” فهي أوراق إيران لابتزاز الغرب والحصول على مكانة إقليمية والمساومة على تمرير مشروعها التوسعي، فمن دون نفوذ قوي في دول ومناطق حيوية مثل لبنان واليمن وسوريا والأراضي الفلسطينية وغيرها لم تكن إيران تستطيع أن تنتزع الاتفاق حول برنامجها النووي مع القوى الكبرى، فمن المعروف أن هذه التنظيمات هي، في النهاية، أوراق تفاوضية مهمة بحكم سيطرة إيران عليها ومقدرتها على التحكم في قراراتها وتوجيه خطرها صوب من تشاء وإسكاتها وقت ما تريد وتحريكها وقت ما ترغب، والزعامات التلفزيونية مثل حسن نصرالله وخالد مشعل وغيرهما توفرو لإيران “البضاعة” التي تريدها وقت الطلب سواء من خلال تصريحات دعائية ضد هذا أو ذاك، أو من خلال عمليات يدفع ثمنها الكثير من الضحايا والواهمين الذين يعتقدون أنهم يشاركون في أعمال بطولية ويدافعون عن قضايا حقيقية.
هل يتصور أحد أن إيران يمكن أن تكن ودا للعرب، وهي التي تريد حتى الآن الانتقام من “القادسية”؟ وهل يعتقد أحد أن مشروع إيران النووي موجه ضد إسرائيل؟ الحقيقة أن القدرات النووية الإيرانية كانت تستهدف تصدير الرعب إقليميا لجوارها العربي، فلم تطلق إيران طلقة واحدة ضد إسرائيل، رغم أن عناصر حرسها الثوري باتت تتمركز في سوريا على حدود إسرائيل.
أما حروب الزعيم التلفزيوني حسن نصرالله ضد إسرائيل فهي حروب خاضها بالوكالة لإثبات نظرية الذراع الطولى لإيران، ولم يتحمل ثمنها ويدفع فاتورتها سوى الشعب اللبناني المغلوب على أمره، حيث دمرت مدن لبنانية عدة أكثر من مرة بفعل مغامرات نصرالله لمصلحة الملالي وبتعليماتهم.
لا فرق من وجهة نظري بين الظواهري والبغدادي ونصرالله وملالي إيران وغيرهم، فهؤلاء جميعا يتاجرون بقضايا المنطقة وبعضهم وكلاء لبعض أو لآخرين من خارج المنطقة، والمسألة برمتها لا تعدو أن تكون تجارة بمصائر شعوب شاءت الأقدار أن تقع بين يدي هؤلاء العابثين.
سالم الكتبي
العرب اللندنية